"التطوّعُ الوطني" ليس مُستحيلا.. هو مُمكنٌ جدا.. عمودٌ أساسي، لتَنميةِ البلد.. ولا يجوزُ الاتّكالُ في كلّ صغيرةٍ وكبيرةٍ على الدولة.. وغيرُ مَقبُولٍ من "جهاتِ القرار" أن تَستَمرّ في مُمارسةِ الإغراءِ المادّي والمعنَوِي، وأن تُحوّلَ نفسَها إلى مَصدَرٍ للتّفقيرِ والإثراء، وأن تجعلَ مُقَرّبيها فوقَ القانُون، ومن لا يدُورُون في فَلَكِها، مغضُوبًا عليهم، أو في أبسط الحالات: في حالةِ تهميش.. المطلوبُ تطليقٌ قانوني، وبشكلٍ شامل، مع كلّ سياسةٍ تُفرّقُ بين بناتِ وأبناءِ الوطنِ الواحد، حتى لا يَكُون عندنا من يُؤدّون الضرائب، وبالمقابلِ مَعفيّون من الضرائب.. وغيرُ مقبُولٍ أن تُساهمَ الأحزابُ والنقاباتُ والبرلمانُ والحكومةُ ومُؤسساتٌ متنوّعة، في التفريق بين أبناءِ فُلانٍ وأبناءِ عِلاّن.. يجبُ أن يكُون كلُّ المواطنين سواسيةً أمامَ الحُقوقِ والواجبات.. وهذه أرضيةٌ للارتقاءِ ببَلَدِنا إلى أَعلَى.. ولَن نرتَفع، نحنُ ومَعَنا بَلدُنا، إلا بعُنصُريْن أساسيّيْن: الوطنية والإنسانية.. ولكي تتَجذّرَ فينا الوطنيةُ والإنسانية، على الدولةِ أن تُراقِبَ دورَ الأسرة في تربيةٍ للأطفال، لكي ينشأوا على حُبّ الوطن، بأبعادِه الكونية.. وهذا هو دورُ التعليمِ بالأساس.. بدون تعليمٍ مُتخلّق، نزيه، مُنفتِحٍ على العالم، نكونُ كما نحنُ الآن، في خانةٍ دُولٍ تُعلّمُ في مَدارسِها التطرّفَ والعُنصُريةَ والكراهيةَ والفَشَل.. في هذه الحالة من التّشنّجِ التّعليمي، ومن تمكينِ "تُجّارِ الدّين" من سوءِ تفسيرِ الدين، مع تقديمِ تربيةٍ لا تليقُ بمقام الإسلامِ السّمح، سيَتعاملُ معنا شُركاؤُنا في الإنسانية تعامُلاً إقصائيّا.. وحتى لا نتَعرّضَ للإقصاء، سياسيّا واقتصاديّا واجتماعيّا وثقافيّا وتكنولوجيّا، علينا أن نَتنَبّهَ لخُطورة ما نحن فيه من سُوء التعاملِ مع المفهوم الدولي للديمقراطية.. إنّنا بعيدُون عن الديمقراطية الحقيقية.. الديمقراطية تنبني على حُبّ الوطن، وعلى احترامِ جميعِ الناس، وكلِّ الثقافاتِ والديانات.. ولا فرقَ بين هذا وذاك إلا بالمُواطَنَةِ الصالِحة.. والديمقراطيةُ - إذا كانت واقفةً على أرضيةٍ صلبَة - هي تبنِي المُواطِنَ الصالِح.. وعندما نَنجَحُ في بناءِ أجيالٍ وطَنيّة، نَتَمَكّنُ من التّفريقِ بين شؤونِ الدنيا وشُؤونِ الآخرة.. وعندها نشرَعُ في ثقافةٍ أخرى، هي أكبَرُ وأهَمّ، وهي دليلٌ ملمُوسٌ قاطِعٌ على حُبّ الوطن: إنه حُسنُ السلوك! والتّطوّعُ من أجل بناءِ الوطنِ المُشتَرَك! هكذا انطلقَت كلّ الدول المتألّقة، حتى دُولٌ كُنّا نحنُ أفضلَ منها، اقصاديّا، منذ عقُود قليلة.. وقد أصبحت اليوم تتجاوزُنا في التّرتيبِ العالمي.. علينا بثقافةِ التّطوّع! التّطوّعُ سلوكٌ إيجابي، في كلّ الدول المتقدمة.. إن حُبَّ الوطن، وحُبَّ الإنسانية، يقُودَانِ إلى التّطوّعِ من أجلِ المَصلحةِ العامة.. وفي الأخبارِ الدولية، كثيرًا ما نَسمعُ عن مجموعاتٍ تَطَوّعيةٍ تعملُ في مَواقعِ المخاطر، في جهاتٍ شتّى من العالم.. وفي بلدِنا شبابٌ يُشاركون في عملياتٍ إنقاذيةٍ مُختلِفة، بالقارّات الخمس.. وقد تكوّنَت لبلادنا كفاءاتٌ دروليةٌ في مهاراتِ التّطوّع.. وهي واعيةٌ بأن الدولة - أيةَ دولة - لا تستطيعُ أن تفعلَ وحدَها كلَّ شيء.. فأين هي ثقافةُ التّطوّع في مَدارسِنا، وأحزابِنا، ونقاباتِنا، وجمعيّاتِنا، وغيرِها؟ إن في الدول الأخرى، لا يتردّدُ عامّةُ الناس في التعاوُن، وبشكلٍ تَطَوّعِي، في كلّ ما هو بِنية تحتية، ومنها بناءُ الطرُق والجُسور وأنابيبِ المياه والشبكات الكهربائية وغيرِها... كلُّ فردٍ يتطوّعُ بساعةِ عمل، أو بنصفِ يَومٍ في الشهر، من أجلِ المصلحةِ المشترِكة في قريته، أو حيّه، هذا تطوّعٌ لا يكلّفُ كثيرا، ولكنه مُهمّ جدا، إذا حسبناه بساعاتِ التّطوّعِ المُجتَمَعي خلالَ عامٍ كامل.. مُفيدٌ على عدةِ مُستويات: التّقارُبُ بين السّكّان، التّعاوُن، التآزُر، وتقويةُ البنيةِ التّحتية، اعتبارًا لدورِها الفعّال في الحياةِ المُجتمعيةِ اليومية.. ونفسُ الدور يُمكنُ أن يَلعبهُ التّطوّعُ المَعرِفي لمُكافحةِ الأمّية، ونعليمِ الناسِ كيف يُحسِنون التدبير، وأيضا تدريبَ العاطلين على مِهَن يستطيعون بها إنجاحَ حياتِهم اليومية.. ألا يُمكنُ لأيّ مواطنٍ عادٍ، مُتعلّم، وفي كامل قِواهُ الجسَدية والنفسية والعقلية والعصبية، أن يتَطَوّعَ وقتًا محدودًا، للمساهمة في التّوعية الوطنية بمَخاطرِ المخدّرات وغيرِها؟ ألا يستطيعُ شابّ جامعي، طبيعي، أن يتطوّعَ ساعةً في الأسبوع، لتمكينِ تلاميذ مُحتاجين، من مراجعةِ مادةٍ دراسية؟ إن المجتمع يستطيعُ أن يفعلَ الكثير، من أجل تنمية البلد.. وإذا نجحت السياسةُ العامّة في إقناع الناسِ بهذه التعبئةِ التّطَوُّعية، ستَحدُثُ تَطَوُّعاتٌ قد لا تَخطرُ على بال.. وهذا مشروطٌ بالتّأكُّدِ من أن التّطَوّعَ هو فعلاً في طريقٍ سليم، بعيدٍ عن أيّ لفّ ودوَران.. النجاحُ مشروطٌ بصدقِ العمل، ونزاهةِ من يُشرِفُون على العمل.. إذا كانت النزاهة، لا بالقول، بل بالفعل، فإن بلدَنا يستطيعُ أن يكسبَ رهاناتِ التّطوّع.. وعندها نصلُ إلى أعلى مرتبةٍ من مراتبِ التّطوّعِ الوطني: وترى الناسَ يتبَرّعون من أجل إنهاءِ الفَقر في بلدنا.. درهمٌ واحدٌ في اليوم، لكل مواطنٍ طبيعي، يعني ما لا يقلّ عن 30 مليون درهم، في اليوم، ونستطيعُ أن نضرب هذا الرقمَ في 10، إذا حسبناها بحُبّ الوطن، لدى مغاربةِ العالم.. الناسُ لا يحتاجون إلا للثقة.. إذا حضرت الثقة، يصبحُ كلُّ الرّهانِ مُمكنا.. وفعّالا.. ثم ترى عددًا من أثرياءِ "المال الحلال"، وهم يملأون ما تبَقّى من صندوق التنمية الوطنية.. فيا مسؤولينا، هذا ليس حُلمًا.. هذا مُمكنٌ جدا، وفي ظرفٍ وجيز.. ثم يظهرُ في البلد، من هم أعرَفُ بطريقِ النجاحِ الأكبر.. الحُكماءُ الكبار، سيقصدُون مراكزَ البحثِ العِلمِي.. وتَراهُم يُموّلُون أبحاثًا جامعية، تكنولوجية، ومشاريعَ ابتِكاريةً اختِراعيّة.. ويدُورُ العامُ الأوّل، وتجدُ البلادَ تَكبُر.. وتَكبُر.. ونجدُ أن مُلحقاتٍ بحثيّةً وطنيّة تَحملُ أسماءَ مغاربة قد تطَوّعُوا بتمويلِ بِناءِ القاعةِ (كذا)، او المركز (كذا).. وبعدها، يأتي من تطوّعوا ببِناء مدارسَ ومعاهد، من مختلف التّخصّصات، وعلى بوّاباتِها أسماءُ المتطوّعين، بالعضلاتِ أو العِلمِ أو الشّيكاتِ البنكية.. هكذا تتطوّرُ الدول.. إنها تتطوّرُ بالتّطَوّع.. فأين نحن من ثقافةِ التّطَوُّع؟! [email protected]