مرسوم جديد ينظم وضعية الملحقين العلميين بوزارة الصحة    مصرع طفل مغربي في هجوم نفذه أفغاني بألمانيا    وثائق مشبوهة ومبالغ مالية تقود إلى توقيف "محام مزور" في فاس    لحجمري: عطاء الراحل عباس الجراري واضح في العلم والتأصيل الثقافي    الدوحة..انطلاق النسخة الرابعة لمهرجان (كتارا) لآلة العود بمشاركة مغربية    تفشي فيروس الحصبة يطلق مطالبة بإعلان "الطوارئ الصحية" في المغرب    أغلبها بالشمال.. السلطات تنشر حصيلة إحباط عمليات الهجرة نحو أوروبا    المغرب يستلم 36 شخصا من الجزائر عبر المعبر الحدودي زوج بغال    حموشي يؤشر على تعيين مسؤولين جدد بشفشاون    هل فبركت المخابرات الجزائرية عملية اختطاف السائح الإسباني؟    مانشستر سيتي يتعاقد مع المصري عمر مرموش حتى 2029    مدارس طنجة تتعافى من بوحمرون وسط دعوات بالإقبال على التلقيح    المغرب يلغي الساعة الإضافية في هذا التاريخ    خلاف حول التعدد ينتهي بجريمة قتل امرأة بالجديدة    كأس أمم إفريقيا- المغرب 2025.. إجراء عملية سحب القرعة بالمسرح الوطني محمد الخامس بالرباط    توقعات أحوال الطقس ليوم غد الجمعة    حادث سير يخلف 3 قتلى في تنغير    المغرب الفاسي يعين أكرم الروماني مدرباً للفريق خلفا للإيطالي أرينا    المغرب وموريتانيا يعززان التعاون الطاقي في ظل التوتر الإقليمي مع الجزائر: مشروع الربط الكهربائي ينفتح على آفاق جديدة    تعرف على فيروس داء الحصبة "بوحمرون" الذي ينتشر في المغرب    مؤشر "مازي" يسجل تقدما في تداولات بورصة الدار البيضاء    المغرب يقترب من إتمام طريق استراتيجي يربط السمارة بموريتانيا: ممر جديد يعزز التعاون الأمني والاقتصادي    أبطال أوروبا.. فوز مثير ل"PSG" واستعراض الريال وانهيار البايرن وعبور الإنتر    دوري لبنان لكرة القدم يحاول التخلص من مخلفات الحرب    ريال مدريد يجني 1,5 ملايير يورو    مساعد مدير صحيفة لافان غوارديا الاسبانية يكتب: ترامب سيفتح قنصلية أمريكية بالداخلة وفرنسا كذلك    ترامب يعيد تصنيف الحوثيين منظمة إرهابية أجنبية    تجديد ‬التأكيد ‬على ‬ثوابت ‬حزب ‬الاستقلال ‬وتشبثه ‬بالقيم ‬الدينية    أخطار صحية بالجملة تتربص بالمشتغلين في الفترة الليلية    إوجين يُونيسكُو ومسرح اللاّمَعقُول هل كان كاتباً عبثيّاً حقّاً ؟    مشروع الميناء الجاف "Agadir Atlantic Hub" بجماعة الدراركة يعزز التنمية الاقتصادية في جهة سوس ماسة    بوروسيا دورتموند يتخلى عن خدمات مدربه نوري شاهين    الدار البيضاء ضمن أكثر المدن أمانا في إفريقيا لعام 2025    إحالة قضية الرئيس يول إلى النيابة العامة بكوريا الجنوبية    هذا ما تتميز به غرينلاند التي يرغب ترامب في شرائها    مؤسسة بلجيكية تطالب السلطات الإسبانية باعتقال ضابط إسرائيلي متهم بارتكاب جرائم حرب    إسرائيل تقتل فلسطينيين غرب جنين    نقابات الصحة ترفع شعار التصعيد في وجه "التهراوي"    احتجاجات تحجب التواصل الاجتماعي في جنوب السودان    باريس سان جيرمان ينعش آماله في أبطال أوروبا بعد ريمونتدا مثيرة في شباك مانشستر سيتي    دعوة وزيرة السياحة البنمية لزيارة الداخلة: خطوة نحو شراكة سياحية قوية    الأشعري يدعو إلى "المصالحة اللغوية" عند التنصيب عضواً بالأكاديمية    منظمة التجارة العالمية تسلط الضوء على تطور صناعة الطيران في المغرب    عامل نظافة يتعرض لاعتداء عنيف في طنجة    فوضى حراس السيارات في طنجة: الأمن مطالب بتدخل عاجل بعد تعليمات والي الجهة    طنجة المتوسط يعزز ريادته في البحر الأبيض المتوسط ويتخطى حاجز 10 ملايين حاوية خلال سنة 2024    حادثة مروعة بمسنانة: مصرع شاب وإيقاف سائق سيارة حاول الفرار    في الحاجة إلى ثورة ثقافية تقوم على حب الوطن وخدمته    نحن وترامب: (2) تبادل التاريخ ووثائق اعتماد …المستقبل    الإفراط في تناول اللحوم الحمراء يزيد من مخاطر تدهور الوظائف العقلية ب16 في المائة    سناء عكرود تشوّق جمهورها بطرح فيديو ترويجي لفيلمها السينمائي الجديد "الوَصايا"    Candlelight تُقدم حفلاتها الموسيقية الفريدة في طنجة لأول مرة    الشاي.. كيف تجاوز كونه مشروبًا ليصبح رمزًا ثقافيًا عميقًا يعكس قيم الضيافة، والتواصل، والوحدة في المغرب    المجلس العلمي المحلي لإقليم الناظور يواصل برامجه التكوينية للحجاج والمعتمرين    ثمود هوليود: أنطولوجيا النار والتطهير    الأمازيغية :اللغة الأم….«أسكاس امباركي»    ملفات ساخنة لعام 2025    أخذنا على حين ′′غزة′′!    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



فضيلة التسامح الديني
نشر في الصحيفة يوم 08 - 03 - 2021

يقول الفيلسوف (ليسنغ) لو أخذ الله بيمناه الحقيقة المطلقة وفي اليسرى البحث عن الحقيقة ومعها الخطأ لزام ثم قال لي اختر: إذا لجثوت على ركبتي ضارعا وقلت يارب: بل اليسرى لأن الحقيقة المطلقة لك وحدك. فهذا هو الفرق بين الحقيقة والبحث عن الحقيقة. وهذا هو الفرق بين النسبي والمطلق. والبشري والإلهي. ومن بحث عن الحقيقة تواضع وتسامح ومن أدعى امتلاك الحقيقة تعصب فلم يراجع. فهذا هو مفتاح فك أقفال التعصب. أم على قلوب أقفالها؟
في عام 1649 م طار رأس الملك تشارلز الأول وولدت الجمهورية في بريطانيا على يد كرومويل. وكان أهم شيء فعله شق الطريق إلى الملكية الدستورية و(التسامح الديني) فسمح لليهود بالعودة إلى بريطانيا بعد أن طردوا منها ثلاثة قرون، وإذا كانت عظام كرومويل قد أصبحت في المزبلة فهو ليس مهما والمهم هو ولادة الملكية الدستورية ونهاية الحكم المطلق.
والفضل في عمل كرومويل يعود إلى فيلسوف مشهور هو (جون لوك) الذي هرب إلى هولندا في جو (التعصب الديني). ويقول عنه المؤرخ (ويل ديورانت) إنه عندما رجع في ولاية وليم الثالث عام 1689م وفي عمر الستين وفي سنة واحدة (عام العجائب) دفع للطباعة ثلاث كتاب جعلت منه أحد نجوم الفكر في التاريخ. كان الأول بعنوان ( بحثان عن الحكومة) رفض فيه الحق الإلهي للملوك وقال بنظرية فصل السلطات وأرسى فيها قواعد الديموقراطية السياسية. والآخران هما:(رسالة عن التسامح الديني) و(مقال في الفهم الإنساني).
وكان لوك صديق الفيزيائي إسحاق نيوتن. وكما قام الأول بتحليل الضوء فقد قام لوك بتحليل النفس الإنسانية والعمل السياسي ويقول لوك عن (التسامح الديني): أنه يجب أن ينتقل من التسامح بين أبناء الدين الواحد إلى التسامح بين أبناء الديانات المختلفة"يجب أن لا نستبعد إنساناً أيا كان عمله أو وظيفته لأنه وثني أو مسلم أو يهودي" وطبع كتاب لوك عن التسامح بدون توقيع اسمه خوفا من جو التعصب الديني. وأثرت أفكار (جان لوك) في تفجير الثورة الفرنسية و"إعلان حقوق الإنسان". بل وإلى أمريكا الجنوبية فقد تأثر (سيمون بوليفار) بفكر لوك وحرر خمس دول من الاستعمار الأسباني هي كولومبيا وفنزويلا والاكوادور وبوليفيا وبيرو بين عامي 1819 و1825 م.
وكما تأثر جان لوك بمن سبقه فقد أثر فيمن جاء بعده. وهكذا ترك لوك آثاره على جو التنوير والتسامح الديني والسلام الاجتماعي في أوربا فأخرج ( إيمانويل كانط) كتابه عن (نحو السلام الدائم) وظهر ايرازموس بالنزعة الإنسانية من روتردام. ودرس التسامح والرحمة نحن بأمس الحاجة إليهما اليوم.
إن أكبر نكبة تحيق بالفكر هي التشدد لأنه يعمل ضد قوانين الطبيعة التي تقوم على التوازن. فزيادة البوتاسيوم أو نقصه في الدم يقود إلى توقف القلب بالاسترخاء أو الانقباض. ونقص تركيز أيونات الهيدروجين تنقل الوسط من القلوية إلى الحموضة. وزيادة النحاس في الجسم يقود إلى تشمع الكبد بمرض ويلسون.
وتتوازن الذرة كهربيا بين شحنتي الإلكترونات والبروتونات. والكهرباء جيدة عندما ترفع الناس في المصاعد. ولكنها قاتلة إذا نزلت من السماء على شكل صاعقة. وأفضل حالة للطاقة هي أن لا تتجمد ولا تتفجر، والماء جيد إذا حبس خلف السد. وهو مدمر إذا جاء على شكل الطوفان. وعضلات الجسم ليست في حالة توتر بل هي بين الانقباض والانبساط. ولا يولد الطفل من رحم أمه بدون التقلص والارتخاء. وجرعة من الخوف عادية وضرورية للحفاظ على الحياة ولكن زيادتها تدفع صاحبها إلى الجنون. والفلسفة الصينية تقوم على مبدأ تبادل السلبية والإيجابية ويسمونها الين واليانغ. ويقوم الكون على التوازن. وأفضل شيء يتحقق في المجتمع هو العدل. وخير حالة تعيشها النفس هي الصحة النفسية بتوازن الغرائز والعواطف. ومبدأ الثنائية خطأ فليست الأمور أسودا أو أبيضا. ونحن نتعامل مع إسرائيل بين حدي الاستحالة والسهولة. فإما أنها دويلة العصابات أو أنها التنين النووي؟ ومن هذه المعاني وصل الفلاسفة إلى شيء سموه الوسط الذهبي. وكل فضيلة بتعبير أرسطو هي وسط بين رذيلتين. والشجاعة هي وسط بين الخوف والتهور. والكرم هو ما بين البخل والإسراف. فهذا طيف من الأمثلة في الفيزياء والبيولوجيا والطبيعة والنفس والفلسفة والمجتمع. ولا يخرج (التدين) عن هذا القانون. وفي القرآن فاستقم كما أمرت ومن تاب معك و(لا تطغوا). ولذا فإن التشدد هو ضد قوانين الحياة، وهو يدمر نفسه ومن حوله. وهذا الدين متين فأوغلوا فيه برفق. والفكر الإسلامي المعاصر ابتلي بهذه الوباء؛ فهو ينتشر ويضرب الأدمغة مثل الحمى السحائية. وهو السبب خلف انطفاء الحضارة الإسلامية والعقم العلمي.
إن التدين يشبه الملح والهورمونات في البدن. فبدون الملح في الطعام يفقد كل نكهة. وبدون التدين في الحياة تنقلب الحياة إلى آلة لا معنى لها. وبقدر حاجة البدن الضرورية للملح بقدر تسممه إذا زادت الجرعة. ولكن قبضةً من ملح في الطعام يجعل النفس تعافه. وما ينظم فعاليات البدن (الغدة النخامية) في قاعدة الدماغ وتفرز عشر هورومونات ولا يزيد وزنها عن نصف غرام. وزيادة طفيفة في هورمون التيروكسين يورث خفقانا في القلب ورجفة في اليدين كما في مرض التسمم الدرقي (Hyperthyrodism) ونقصا طفيفا من الهورومون يضفي على البدن خمولا لا نهوض منه.
فهذه هي جدلية التدين والتعصب. إذا أخذ التدين بجرعته المناسبة وامتزج بالوعي أعطى للحياة معنى ونشر الرحمة والحب. وإذا زادت الجرعة انقلب الوعي إلى تعصب وجحيم لا يطاق. وخرج (دين) ضد الحياة، كما رأيت أنا في القصيم حيث التدين أقرب للجنون، وانقلب المجتمع إلى مصحة أمراض عقلية بدون أسوار وقضبان وأطباء. وعلى المرء أن يساير الموجودين فيها كما يفعل الطبيب لنزلاء المصحة من المرضى النفسيين فيبتسم لهلوساتهم وهذيانات العظمة عندهم. فهذه القيمة الحدية للأشياء ضمن وسطها (الذهبي). وإن من شيء إلا عندنا خزائنه وما ننزله إلا بقدر معلوم.
وظاهرة التكفير هي في الواقع لون من إدعاء الألوهية. فهي تعني أن طرفاً يحكم على طرف آخر منافس أنه حرم من رحمة الله. وهي تأتي من خلال (وهم) مفاده أن طرفاً يملك الحقيقة النهائية المطلقة وأنه (الممثل الشرعي الوحيد) لله. وتقود إلى كارثتين: (الانغلاق على النفس) لأنه طالما قنص طرف الحقيقة وتكلم نيابة عن الله فهو لا يحتاج إلى نصيحة أو تطور أو مراجعة لأنه سقف التطور وآخر الحقيقة وسدرة المنتهى.
والأمر الثاني هو بناء طريق أحادي. تماماً كما في طرق سريعة بدون عودة فيها. فطالما احتكر طرف الحقيقة فإن الطرف المقابل ليس أمامه إلا أن ينصت لهذا الوحي الذي يتدفق على ألسنة كائنات أرضية من بشر مختارين لا يخالطهم النقص أو يقترب منهم الخطأ. وأي مناقشة لهؤلاء (البشر) تعني التشكيك في (الحقيقة الإلهية). وهو يعني من باب خفي اختلاط الإلهي بالبشري أو معادلة الإلهي بالبشري. الذي لم يتخذ ولدا ولم يكن له ولي من الذل وكبره تكبيرا.
وهذه الخطيئة القاتلة لا تنفرد بها أمة دون الأمم أو جماعة دون أخرى. ولكنها مرض إنساني يصيب كل الجماعات التي تتحنط عبر التاريخ فالخوارج قديماً والصهاينة والكنيسة المتعصبة والأسبان الذين دمروا حضارات الانكا والازتيك والنازيين والفاشيين وجماعات التكفير المعاصرة والشيوعية والبوجروم ضد اليهود والحروب الصليبية التي دامت 171 سنة والشاب الألماني روبرت هويزر الذي قتل في 26 ابريل من عام 2002م 17 شخصاً في ضربة واحدة. كل هذه الأمثلة تغرف من نفس النبع أي اعتبار الآخر مارقاً مجرماً كافراً يجب التقرب بدمه إلى الله. وكلها في النهاية تتحجر وتخسر الرهان في التحدي التاريخي.
إن ظاهرة التكفير وعدم التسامح مع الآخر وإغلاق باب الحوار والاضطهاد والإكراه والنفي من الأرض والقتل والتهجير الجماعي تكررت في القديم والحديث وعند كل الأمم. وأمريكا تم استعمارها على يد جماعات مضطهدة هاربة من أوربا. كما أن الفاشية والنازية أهدت أمريكا خير العقول. وهرب الهجنوت من اضطهاد الكاثوليك في فرنسا إلى ألمانيا وهولندا ليبزغ عصر التنوير. وحيث تدفق البروتستانت ولدت الرأسمالية كما ذهب إلى ذلك عالم الاجتماع الألماني (ماكس فيبر).
ومن هنا فإن مشكلة التكفير تنبع خطورتها أنها ليست حركة انعزالية سلبية بل شيطانية عدوانية. والأنظمة العلمانية القومية تبقى أرحم من الاتجاهات المتدينة المتطرفة فيما لو صار الأمر إليها، لأن الأنظمة القومية تبقي على المخالف ما لم ينازعها كرسي الحكم فإذا نازعها نزعت روحه. أما المتدينون المتشددون فسوف ينزعون الروح وهم يفتشون عن صحة العقيدة ويبقى هامش الخطأ عند القوميين أرحم أما الخطأ مع المتشددين فهو الكفر ويجب أن يستتاب صاحبه وإلا قتل.
وكارثة اختلاط الإلهي بالبشري يقود إلى اختلاطات لانهاية لها مثل انتشارات السرطان. تبدأ من (سيطرة الوهم) ثم (قتل آلية النقد الذاتي) ف (توقف حركة التصحيح) ف (توقف حركة النمو) فالوصول إلى (الموت الظاهري) وتحصيل حاصل أن هذا يقود إلى برمجة كل أنواع الحروب الأهلية ومع الجيران والعالم. لذا كانت (حركة التكفير) اختناق داخلي وانتحار عقلي وهوس ديني ورعب اجتماعي وتصفية لكل مبادرات التفكير وفي جو التكفير يتم اغتيال التفكير. فلا تفكير في جو التكفير.
في كتاب (بجعات برية) للكاتبة (يونغ تشانغ) تروي عن أمها التي انضمت للحزب الشيوعي أن (ماوتسي تونغ) أطلق في عام 1957م شعار لتتفتح مائة زهرة. وكان يعني فتح الباب على مصراعيه من اجل النقد ولأي مستوى قيادي. وفي نفس الوقت أوعز لمن حوله شعار مضاد بعنوان "استخراج الثعابين من جحورها" وهكذا فكل من مارس النقد أصبح يمينياً متطرفاً عدو للثورة يجب التخلص منه وكانت حصة والدة الكاتبة أن تدل على مائة من اليمنيين المرتدين الكافرين بالثورة. وفي مركز الأبحاث في سيشوان كلف رئيس المركز العالم (هاو) أن يقوم بنفس الشيء بتقديم لوائح اليمنيين ذوي الأصول الرديئة. وعندما رفض هدد تحول إلى (كنَّاس) في نفس معهده زيادة في الإذلال. أما هي فقد تم التأكد من طهارتها الحزبية أن نامت معها جاسوسة في نفس سريرها فلعلها نطقت بأحلامها بكلمات ضد الثورة والقائد؟
فهذا هو مفتاح فك أقفال التعصب. أم على قلوب أقفالها؟
في عام 1649 م طار رأس الملك تشارلز الأول وولدت الجمهورية في بريطانيا على يد كرومويل. وكان أهم شيء فعله شق الطريق إلى الملكية الدستورية و(التسامح الديني) فسمح لليهود بالعودة إلى بريطانيا بعد أن طردوا منها ثلاثة قرون، وإذا كانت عظام كرومويل قد أصبحت في المزبلة فهو ليس مهما والمهم هو ولادة الملكية الدستورية ونهاية الحكم المطلق.
والفضل في عمل كرومويل يعود إلى فيلسوف مشهور هو (جون لوك) الذي هرب إلى هولندا في جو (التعصب الديني). ويقول عنه المؤرخ (ويل ديورانت) إنه عندما رجع في ولاية وليم الثالث عام 1689م وفي عمر الستين وفي سنة واحدة (عام العجائب) دفع للطباعة ثلاث كتاب جعلت منه أحد نجوم الفكر في التاريخ. كان الأول بعنوان ( بحثان عن الحكومة) رفض فيه الحق الإلهي للملوك وقال بنظرية فصل السلطات وأرسى فيها قواعد الديموقراطية السياسية. والآخران هما:(رسالة عن التسامح الديني) و(مقال في الفهم الإنساني).
وكان لوك صديق الفيزيائي إسحاق نيوتن. وكما قام الأول بتحليل الضوء فقد قام لوك بتحليل النفس الإنسانية والعمل السياسي ويقول لوك عن (التسامح الديني): أنه يجب أن ينتقل من التسامح بين أبناء الدين الواحد إلى التسامح بين أبناء الديانات المختلفة"يجب أن لا نستبعد إنساناً أيا كان عمله أو وظيفته لأنه وثني أو مسلم أو يهودي" وطبع كتاب لوك عن التسامح بدون توقيع اسمه خوفا من جو التعصب الديني. وأثرت أفكار (جان لوك) في تفجير الثورة الفرنسية و"إعلان حقوق الإنسان". بل وإلى أمريكا الجنوبية فقد تأثر (سيمون بوليفار) بفكر لوك وحرر خمس دول من الاستعمار الأسباني هي كولومبيا وفنزويلا والاكوادور وبوليفيا وبيرو بين عامي 1819 و1825 م.
وكما تأثر جان لوك بمن سبقه فقد أثر فيمن جاء بعده. وهكذا ترك لوك آثاره على جو التنوير والتسامح الديني والسلام الاجتماعي في أوربا فأخرج ( إيمانويل كانط) كتابه عن (نحو السلام الدائم) وظهر ايرازموس بالنزعة الإنسانية من روتردام. ودرس التسامح والرحمة نحن بأمس الحاجة إليهما اليوم.
إن أكبر نكبة تحيق بالفكر هي التشدد لأنه يعمل ضد قوانين الطبيعة التي تقوم على التوازن. فزيادة البوتاسيوم أو نقصه في الدم يقود إلى توقف القلب بالاسترخاء أو الانقباض. ونقص تركيز أيونات الهيدروجين تنقل الوسط من القلوية إلى الحموضة. وزيادة النحاس في الجسم يقود إلى تشمع الكبد بمرض ويلسون.
وتتوازن الذرة كهربيا بين شحنتي الإلكترونات والبروتونات. والكهرباء جيدة عندما ترفع الناس في المصاعد. ولكنها قاتلة إذا نزلت من السماء على شكل صاعقة. وأفضل حالة للطاقة هي أن لا تتجمد ولا تتفجر، والماء جيد إذا حبس خلف السد. وهو مدمر إذا جاء على شكل الطوفان. وعضلات الجسم ليست في حالة توتر بل هي بين الانقباض والانبساط. ولا يولد الطفل من رحم أمه بدون التقلص والارتخاء. وجرعة من الخوف عادية وضرورية للحفاظ على الحياة ولكن زيادتها تدفع صاحبها إلى الجنون. والفلسفة الصينية تقوم على مبدأ تبادل السلبية والإيجابية ويسمونها الين واليانغ. ويقوم الكون على التوازن. وأفضل شيء يتحقق في المجتمع هو العدل. وخير حالة تعيشها النفس هي الصحة النفسية بتوازن الغرائز والعواطف. ومبدأ الثنائية خطأ فليست الأمور أسودا أو أبيضا. ونحن نتعامل مع إسرائيل بين حدي الاستحالة والسهولة. فإما أنها دويلة العصابات أو أنها التنين النووي؟ ومن هذه المعاني وصل الفلاسفة إلى شيء سموه الوسط الذهبي. وكل فضيلة بتعبير أرسطو هي وسط بين رذيلتين. والشجاعة هي وسط بين الخوف والتهور. والكرم هو ما بين البخل والإسراف. فهذا طيف من الأمثلة في الفيزياء والبيولوجيا والطبيعة والنفس والفلسفة والمجتمع. ولا يخرج (التدين) عن هذا القانون. وفي القرآن فاستقم كما أمرت ومن تاب معك و(لا تطغوا). ولذا فإن التشدد هو ضد قوانين الحياة، وهو يدمر نفسه ومن حوله. وهذا الدين متين فأوغلوا فيه برفق. والفكر الإسلامي المعاصر ابتلي بهذه الوباء؛ فهو ينتشر ويضرب الأدمغة مثل الحمى السحائية. وهو السبب خلف انطفاء الحضارة الإسلامية والعقم العلمي.
إن التدين يشبه الملح والهورمونات في البدن. فبدون الملح في الطعام يفقد كل نكهة. وبدون التدين في الحياة تنقلب الحياة إلى آلة لا معنى لها. وبقدر حاجة البدن الضرورية للملح بقدر تسممه إذا زادت الجرعة. ولكن قبضةً من ملح في الطعام يجعل النفس تعافه. وما ينظم فعاليات البدن (الغدة النخامية) في قاعدة الدماغ وتفرز عشر هورومونات ولا يزيد وزنها عن نصف غرام. وزيادة طفيفة في هورمون التيروكسين يورث خفقانا في القلب ورجفة في اليدين كما في مرض التسمم الدرقي (Hyperthyrodism) ونقصا طفيفا من الهورومون يضفي على البدن خمولا لا نهوض منه.
فهذه هي جدلية التدين والتعصب. إذا أخذ التدين بجرعته المناسبة وامتزج بالوعي أعطى للحياة معنى ونشر الرحمة والحب. وإذا زادت الجرعة انقلب الوعي إلى تعصب وجحيم لا يطاق. وخرج (دين) ضد الحياة، كما رأيت أنا في القصيم حيث التدين أقرب للجنون، وانقلب المجتمع إلى مصحة أمراض عقلية بدون أسوار وقضبان وأطباء. وعلى المرء أن يساير الموجودين فيها كما يفعل الطبيب لنزلاء المصحة من المرضى النفسيين فيبتسم لهلوساتهم وهذيانات العظمة عندهم. فهذه القيمة الحدية للأشياء ضمن وسطها (الذهبي). وإن من شيء إلا عندنا خزائنه وما ننزله إلا بقدر معلوم.
وظاهرة التكفير هي في الواقع لون من إدعاء الألوهية. فهي تعني أن طرفاً يحكم على طرف آخر منافس أنه حرم من رحمة الله. وهي تأتي من خلال (وهم) مفاده أن طرفاً يملك الحقيقة النهائية المطلقة وأنه (الممثل الشرعي الوحيد) لله. وتقود إلى كارثتين: (الانغلاق على النفس) لأنه طالما قنص طرف الحقيقة وتكلم نيابة عن الله فهو لا يحتاج إلى نصيحة أو تطور أو مراجعة لأنه سقف التطور وآخر الحقيقة وسدرة المنتهى.
والأمر الثاني هو بناء طريق أحادي. تماماً كما في طرق سريعة بدون عودة فيها. فطالما احتكر طرف الحقيقة فإن الطرف المقابل ليس أمامه إلا أن ينصت لهذا الوحي الذي يتدفق على ألسنة كائنات أرضية من بشر مختارين لا يخالطهم النقص أو يقترب منهم الخطأ. وأي مناقشة لهؤلاء (البشر) تعني التشكيك في (الحقيقة الإلهية). وهو يعني من باب خفي اختلاط الإلهي بالبشري أو معادلة الإلهي بالبشري. الذي لم يتخذ ولدا ولم يكن له ولي من الذل وكبره تكبيرا.
وهذه الخطيئة القاتلة لا تنفرد بها أمة دون الأمم أو جماعة دون أخرى. ولكنها مرض إنساني يصيب كل الجماعات التي تتحنط عبر التاريخ فالخوارج قديماً والصهاينة والكنيسة المتعصبة والأسبان الذين دمروا حضارات الانكا والازتيك والنازيين والفاشيين وجماعات التكفير المعاصرة والشيوعية والبوجروم ضد اليهود والحروب الصليبية التي دامت 171 سنة والشاب الألماني روبرت هويزر الذي قتل في 26 ابريل من عام 2002م 17 شخصاً في ضربة واحدة. كل هذه الأمثلة تغرف من نفس النبع أي اعتبار الآخر مارقاً مجرماً كافراً يجب التقرب بدمه إلى الله. وكلها في النهاية تتحجر وتخسر الرهان في التحدي التاريخي.
إن ظاهرة التكفير وعدم التسامح مع الآخر وإغلاق باب الحوار والاضطهاد والإكراه والنفي من الأرض والقتل والتهجير الجماعي تكررت في القديم والحديث وعند كل الأمم. وأمريكا تم استعمارها على يد جماعات مضطهدة هاربة من أوربا. كما أن الفاشية والنازية أهدت أمريكا خير العقول. وهرب الهجنوت من اضطهاد الكاثوليك في فرنسا إلى ألمانيا وهولندا ليبزغ عصر التنوير. وحيث تدفق البروتستانت ولدت الرأسمالية كما ذهب إلى ذلك عالم الاجتماع الألماني (ماكس فيبر).
ومن هنا فإن مشكلة التكفير تنبع خطورتها أنها ليست حركة انعزالية سلبية بل شيطانية عدوانية. والأنظمة العلمانية القومية تبقى أرحم من الاتجاهات المتدينة المتطرفة فيما لو صار الأمر إليها، لأن الأنظمة القومية تبقي على المخالف ما لم ينازعها كرسي الحكم فإذا نازعها نزعت روحه. أما المتدينون المتشددون فسوف ينزعون الروح وهم يفتشون عن صحة العقيدة ويبقى هامش الخطأ عند القوميين أرحم أما الخطأ مع المتشددين فهو الكفر ويجب أن يستتاب صاحبه وإلا قتل.
وكارثة اختلاط الإلهي بالبشري يقود إلى اختلاطات لانهاية لها مثل انتشارات السرطان. تبدأ من (سيطرة الوهم) ثم (قتل آلية النقد الذاتي) ف (توقف حركة التصحيح) ف (توقف حركة النمو) فالوصول إلى (الموت الظاهري) وتحصيل حاصل أن هذا يقود إلى برمجة كل أنواع الحروب الأهلية ومع الجيران والعالم. لذا كانت (حركة التكفير) اختناق داخلي وانتحار عقلي وهوس ديني ورعب اجتماعي وتصفية لكل مبادرات التفكير وفي جو التكفير يتم اغتيال التفكير. فلا تفكير في جو التكفير.
في كتاب (بجعات برية) للكاتبة (يونغ تشانغ) تروي عن أمها التي انضمت للحزب الشيوعي أن (ماوتسي تونغ) أطلق في عام 1957م شعار لتتفتح مائة زهرة. وكان يعني فتح الباب على مصراعيه من اجل النقد ولأي مستوى قيادي. وفي نفس الوقت أوعز لمن حوله شعار مضاد بعنوان "استخراج الثعابين من جحورها" وهكذا فكل من مارس النقد أصبح يمينياً متطرفاً عدو للثورة يجب التخلص منه وكانت حصة والدة الكاتبة أن تدل على مائة من اليمنيين المرتدين الكافرين بالثورة. وفي مركز الأبحاث في سيشوان كلف رئيس المركز العالم (هاو) أن يقوم بنفس الشيء بتقديم لوائح اليمنيين ذوي الأصول الرديئة. وعندما رفض هدد تحول إلى (كنَّاس) في نفس معهده زيادة في الإذلال. أما هي فقد تم التأكد من طهارتها الحزبية أن نامت معها جاسوسة في نفس سريرها فلعلها نطقت بأحلامها بكلمات ضد الثورة والقائد؟


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.