في نورمبرغ المحطة الأولى لي في ألمانيا التي كان اسمها يومذاك الغربية فأخذت الانطباع الأول ولم أنسه بقية العمر. كانت ظاهرة (السكون) المريح للاعصاب. كان شكل المطار أنيقاً نظيفاً منظماً و(هادئاً) يشرف عليه عمال تقرأ في وجوههم الكرامة قبل النظافة. عرفت أنني فارقت حضارة (الضجة والوسخ والفوضى) واستقبلت حضارة ( النظافة والهدوء والتنظيم). منذ اللحظة الأولى بين بيروت و (نورمبرغ) مكان ولادة الحزب النازي أكتشفت أنني في مدى ثلاث ساعات بالطائرة كنت أخترق الجغرافيا فقط، وكان علي ثلاث سنوات لاختراق حاجب اللغة، ولكن ثلاثين سنة لاتكفي للفهم العميق للثقافة التي مازلت أنحت في جدارها الصلد حتى الآن. الحضارة الغربية لاتحتاج مثلي ليدافع عنها فهي التي تقود العالم إن شئنا أم أبينا، سواء في جناحها الانجلو سكسوني أو اللاتيني أو حتى الأصفر الياباني، الذي هو امتداد هذه الحضارة للشرق الأقصى، ثم إن الحضارة الغربية تمشي بدفعة قوية من الأخلاقيات والقيم، ويجب أن يتم الانتباه إلى العنصر الأخير ، كي نصحو من أوهامنا وأحلام اليقظة التي نسبح فيها . إنني كنت ( شاهداً ) في الحضارة الغربية ولم أكن زائراً حتى أكتب (أمريكا التي رأيت) بل عاينت القوم، وأزعم لنفسي معرفة زخم الحياة عندهم، وطرفاً من أسرار قوتهم ، كما أعرف بالضبط أمراض الشرق ومصائبه، فأنا والذين عاشوا في الغرب فترة طويلة أصيبوا بحالة لايحسدون عليها، فلم يعد الشرق يعجبهم ، كما أن الغرب لم يسعدهم ، فهم ( نفسياً ) في الأرض التي لا اسم لها. والسبب أنهم عرفوا الشرق والغرب، وبذا أصبحت أداة النقد والمقارنة عندهم حادة قاطعة، والرؤيا عندهم واضحة مبللورة، وهذه لايصل إليها إلا من استطاع أن يخبر الشرق والغرب، ونحن الذي أدينا وظيفة (الشهادة) علينا أن ندلي بشهادتنا في محكمة التاريخ وبأمانة. فلاشيء أعظم من العدل الذي قامت عليه السوات والأرض . إنني يجب أن اعترف بغض النظر عن بعض الحساسيات التي هي طبيعية والمشاعر النفسية التي ليست حكماً نهائياً ولا عدلاً في مثل هذه الأمور. أننا استفدنا بل دُهشنا لحزمةٍ من الأخلاقيات والقيم التي تمسك بمجتمعهم، وتعطيه فضيلة القوة والتفوق، وهو مالاحظته البعثات الأولى من العالم العربي التي أرادت اكتشاف الغرب كما حدث مع (رفاعة الطهطاوي) الذي وضع كتابه الهام في هذه القيم الإيجابية التي نتحدث عنها (الذهب الإبريز في أخلاق أهل باريز) . إنني أذكر هذه الملاحظات بشيء من الألم لإنني أنتمي إليها، مع شعوري الذي لايختلج بعظمة وروعة الحضارة التي خرجت منها، وإمكانياتها غير المحدودة في استيعاب إعصار الحداثة. هذا الشعور سبب لي الألم مرتين فأنا أدين الثقافة التي خرجت منها (وهذا أنفنا فهو كبير مثل أنف سيرانو دي بيرجاك) في الوقت الذي أزكي (في جانب) مزية من هم خصومنا أو من لايحبونا على أقل تقدير، ولكن هذا ماتتطلبه الشهادة التاريخية ويوجبه العدل، ونحتاجه كي نستيقظ ونصلح أمورنا التي لاتحتمل التاجيل، وكانت الملاحظة الثانية (لا شيء في الأرض) وتذكرت الحديث (وإماطة الأذى عن الطريق من الإيمان) ثم توالت الملاحظات حتى شكلت تياراً كبيراً وبانوراما ضخمة وخريطة تفصيلية، إلى درجة أنني أعرف ارتكاساتهم وتصرفاتهم سلفاً ، فيما لو واجهوا أي مشكلة لحلها، وكيف أن عندهم منهجاً خاصاً في التصرف في النائبات. يصدق هذا على الألمان كما يصدق على الأوربيين يزيد وينقص، خاصة كلما صعدت إلى الشمال ومِلت إلى الوسط البرتستانتي ففيهم باقة من الأخلاقيات والقيم التي نحن بأمس الحاجة لها، سواء بتأملها لإعادة صنعها أو بنحتها وتوليدها من ثقافتنا المليئة بالقيم الإيجابية وإعادة اكتشافها بعد صدمة الغيبوبة التاريخية التي مُني بها العالم الإسلامي في فترة القرون الفارطة الأخيرة، كما هو الحال في نظافة الشوارع والبيوت والمحلات العامة (دوراة المياه العامة والموجودة على الطرقات السريعة عندهم نظيفة بشكل ملفت للنظر). هذه النظافة ليست (الحكومة فقط) ورائها وإنما هو القانون الأخلاقي والتربية الصارمة، والتثقيف المستمر، والتنبيه الدائم، وتعاون الدولة والمؤسسات والفرد . يقول جان جاك روسو في كتابه (العقد الاجتماعي) عن القانون الرابع:(يضاف إلى هذه الأنواع الثلاثة من القوانين نوع رابع وهو أهمها جميعاً، وهو القانون الذي لاينقش على الرخام ولاعلى البرونز وإنما في قلوب المواطنين، والذي يصنع تكوين الدولة الحقيقي، والذي يكتسب كل يوم قوى جديدة؛ والذي عندما تشيخ القوانين الأخرى أو تنطفيء، يحرك أوارها أو يتممها، ويحافظ على شعب في روح نظامه، ويحل قوة العادة شيئاً محل قوة السلطة. وأعني بذلك الطباع والعادات وعلى الأخص الرأي العام، وهو فرع مجهول لدى ساستنا، لكن نجاح جميع القوانين الأخرى يتعلق به: ذلك هو الفرع الذي يهتم به المشرع العظيم في السر في حين يبدو أنه لايهتم إلا بتنظيمات خاصة، إلا انها في الواقع ليست سوى عقد القنطرة الذي تشكل فيه الطباع، الأكثر بطئاً في نشوئها، مفتاحه الذي لايتزعزع). كان مارأيناه هو (النظام والانضباط في دقة الساعة) و (الدقة بحب وشغف) و(المثابرة بجلد لايعرف الملل) و (التعاون والعمل بروح الفريق ولو بدون حب أحيانا بين عناصره) و (اليقظة التي تلمحها في العيون وسرعة الحركة والسهر على المصالح) و (النطق بهدوء وبدقة وبمسؤولية والنظر في وجه السائل) و (المحافظة على الموعد إلى درجة الهوس) و (الالتزام ومعرفة معنى المسؤولية) و (الصدق فهو انفع للمعاملات والحجز وسواه) و (احترام الآخر ولو كان طفلاً أو من الشرائح الاجتماعية المستضعفة) و (الفعَّالية في معالجة المشاكل) و (البيروقراطية الميسرة) فالمعاملات تمشي على شريط كهربائي لايقف، فلا تحتاج لملاحقة ومتابعة في كل مرحلة كي لا تموت في أحد الأدراج، و(عدم الخوف من مراجعة أي مسئول من بوليس وسواه)، وهذه الكومة من القيم تحتاج إلى تفصيص ميداني كي يتم تأمل كل واحدة بشكل مستقل. والشيء المهم فيها كان بروزها في المجتمع فشكلت (ظاهرة اجتماعية) و (تياراً مسيطراً هادراً) وليست حوادث فردية، فالجد والاجتهاد والنشاط والحركة يغلف المجتمع كله، وتهبه اللون الخاص به، وتعطيه موسيقاه المنعشة لأفراده المتهادين على وقعه . هل نريد الآن ان نفهم الأخلاق والقيم ( السرطانية ) في مجتمعنا؟ لابد من تعريف السرطان البيولوجي إذاً؟ إن السرطان هو إعلان التمرد العام على نظام الجسم، وهو في صورة ثانية (الخلل الوظيفي الزماني المكاني) فالخلية المجنونة تتكاثر بدون هدف إلا عربدتها الخاصة، وهي تترك مكانها لتحتل بغير جدارة مكان خاصاً بآخرين، وهي تنمو بسرعتها الخاصة مثل نشاز اللحن خلال لحن البدن البديع، وهكذا فمن كانت مهمته البناء يتجه للتدمير كما في سرطان العظام، والخلايا المخصصة لجمال الوجه تتحول إلى فقاعات ورمية سوداء بشعة (سرطان الجلد)، وخلايا الأمعاء تترك مكانها لتنزل ضيفاً غير مرحب فيه في الكبد والرئة بل والدماغ (سرطان الكولون). ولنذكر تماماً أن ضياع المجتمعات يحدث أيضاً بنفس الطريقة فالسرطان الاجتماعي الذي يأكلها عندما تضيع المسؤوليات، ويشذ الناس على القانون. إن كثرة الخلايا بلا معنى هادف يجعل البدن فاقداً لهدف الحياة ويصبح بلا معنى، وجرت القاعدة أن الذي يفقد هدفه في الحياة حل به الفناء لإنه أصبح معادلاً للفناء، أو هو يسير نحو الفناء لإنه فقد مبرر الحياة، وهكذا فإن السرطان هو تعبير عن فقد مبرر الحياة بفقد هدف الحياة. ويجب أن نعلم أنه كما يموت الأفراد تموت الجماعات، وتدول الدول وتفنى الأمم وتنقرض الحضارات ف (لكل أمة أجل فإذا جاء أجلهم فلايستأخرون ساعة ولايستقدمون ). ورد في الحديث أن من سأل عن الساعة فكان جواب نبي الرحمة ص إذا وسد الأهل إلى غير أهله فانتظر الساعة. بكلمة مختصرة نهاية الأمم واندثار الحضارات وتفكك الدول وتحلل الامبراطوريات.