وضعية "البوليساريو" وهي تستعد لعقد مؤتمرها الخامس عشر في المنطقة العازلة شرق الجدار الأمني، تعكس جميع أركان الأزمة الحقيقية، فعلى المستوى الدولي أصبحت تعيش ضعفا كبيرا تجسد في تراجع العديد من الدول عن اعترافها ب"كيان" حاولت الجزائر أن تسوقه بجميع الوسائل، منذ تاريخ 27 فبراير 1976. الدول الأوروبية، بدورها، والتي سمحت القلة منها لتنظيم "البوليساريو" بفتح مكاتب بها، بسبب ارتباط مصالحها الطاقية بالجزائر، أصبحت تتعامل مع هذه المكاتب بكثير من الحذر والحيطة المصحوبة بالمراقبة الأمنية المشددة، خاصة بعد ثبوت تورط العديد منها في عمليات تزوير الأوراق الثبوتية في الوقت الذي انخرطت فيه أغلب الدول الأوروبية في محاربة التنظيمات الإرهابية في منطقة الساحل. فتزوير وبيع الأوراق الثبوتية خاصة المتعلقة بصفة "لاجىء"، وإمكانية حصول إرهابيين قادمين من المخيمات أو من موريتانيا أو شمال مالي أو من الجنوب الجزائري على هذه "الأوراق" من شأنه تسهيل انغماس العديد من "الذئاب المنفردة" للقيام بعمليات إرهابية، الأمر الذي دفع الأجهزة الأمنية الأوروبية إلى اعتقال العديد من المتورطين في عمليات تزوير "أوراق الهوية" من عناصر "البوليساريو" على أراضيها، كما أن اسبانيا كحال فرنسا لم تعد تخفي موقفها الداعم للمسار المغربي من أجل حل مشكل قضية الصحراء. الولاياتالمتحدةالأمريكية، بدورها، لم تعد تمارس سياسة "الانخراط المزدوج" في قضية الصحراء كما كانت تفعل طيلة العقود السابقة، بحيث أن مواقفها كانت تسير سابقا وفق المصالح التي تربطها بالجزائر من جهة، وبالمغرب من جهة أخرى. العديد من المؤشرات تبين أن الولاياتالمتحدةالأمريكية، أصبحت حريصة أكثر مما سبق على وحدة الأراضي المغربية، كما أن العديد من مراكز الدراسات الأمريكية، ووسائل الإعلام المختلفة، مافتئت مؤخرا تقدم تقارير عن خطورة الأوضاع في مخيمات تيندوف، وما تشكله من مخاطر على الأمن والسلم. السلطات الجزائرية أصبحت في السنوات الأخيرة تعامل "صحراوي المخيمات" القادمين من أوروبا أو الذاهبين إليها بطريقة تعسفية مبالغ فيها، حيث تقوم بالتضييق عليهم بشكل كبير في المطارات والموانئ، ناهيك عن المعاملة السيئة التي تعامل بها التجار والطلبة منهم عند تنقلاتهم خارج المخيمات. على المستوى الداخلي أصبحت المخيمات تعيش تسيبا أمنيا خطيرا مع تزايد سطوة المنظمات الإجرامية والإرهابية، وأصبح رأسمال الفرد يتمثل في انتماءه القبلي بشكل لم تشهده السنوات السابقة، وارتفع دور القبيلة في حماية الأفراد والدود عنهم، ناهيك عن ازدياد الصراعات البينية التي تتخذ لبوسا قبليا، وأصبحت دعاية ما يسمى ب" الشعب الصحراوي" و"الدولة الصحراوية" تضمحل وتتراجع بشكل كبير، واقتصر ترديدها فقط في إعلام "البوليساريو" والجزائر. وسائل التواصل الاجتماعي، بدورها، لعبت دورا كبيرا في "فك" الحصار المضروب على المخيمات، وفي كشف ممارسات "البوليساريو" وكذا الأمن العسكري الجزائري، كما لعبت دورا متميزا في ربط أفراد العائلات الصحراوية بدويهم بالمدن المغربية بالصحراء أو غيرها، بحيث إن الاختلاف المنظور بشكل كبير في الوضعيات، لم تعد تنفع معه الدعاية السياسية أو الإعلامية، أو إشعال حملات الاستنفار والتعبئة العامة التي كانت تنتهجها "البوليساريو" طيلة العقود السابقة، كما أن كل تضييق تمارسه أجهزتها أو كل تجاوز في حق ساكنة المخيمات سرعان ما يصل صداه إلى عائلاتهم وقبائلهم بالصحراء المغربية بالصوت والصورة. التطورات التي عرفها الجوار الاقليمي للجزائر وانكماش دورها في إفريقيا، برهن بشكل ملحوظ أن تنظيم "البوليساريو" ليس إلا أداة ضمن أدوات أخرى تستعملها الجزائر في صراعاتها الإقليمية، ليس فقط في صلب المعضلة الأمنية التي خلقتها في علاقتها بالمغرب، ولكن أيضا مع باقي دول الجوار خاصة موريتانياومالي وليبيا. كما أن هناك العديد من الأمثلة التي تثبت كون تنظيم "البوليساريو" ليس إلا مجرد أداة في يد الأمن العسكري الجزائري، إسوة بغيره من إخوته من التنظيمات الموجودة بشمال مالي التي يتم توظيفها أيضا في الصراع بمنطقة الساحل الإفريقي. استعمال "البوليساريو" في العدوان على موريتانيا بعد انخراط موريتانيا في اتفاق مع المغرب وقع في 17 فبراير1975، يجيز تواجد الجيش المغربي في مناطق بئر أمكرين والزويرات وأطار، قامت الجزائر حينها بمهاجمة الأراضي الموريتانية، بل وتهديد العاصمة نواكشوط بواسطة مليشيات"البوليساريو"، خاصة بعد أن رفض الرئيس الموريتاني المختار ولد داده الدخول في نظام فيديرالي مع الجزائر، سبق أن عرضه عليه بقوة الرئيس الجزائري الهوراي بومدين، واستعمل جميع أساليب التهديد ضد موريتانيا من أجل اخضاعها، لتكون ضمن النفوذ الجزائري في المنطقة. وشنت "البوليساريو" عدة هجمات متواصلة منذ سنة 1975 إلى سنة 1979 ضد موريتانيا، منها هجوم على العاصمة نواكشوط، وضربت السكك الحديدية التي تنقل الحديد من الزويرات إلى نواذيبو، لشل الاقتصاد الموريتاني، وكادت موريتانيا خلال هذه الحرب أن تتعرض للشلل التام بفعل ضربات الجزائر العسكرية بواسطة "البوليساريو"، حيث انتشرت عملياتها العسكرية من منطقة "النعمة" شرقا على الحدود مع مالي إلى العاصمة نواكشوط ونواذيبوغربا، بل وفي جميع الأراضي الموريتانية لأن أرضها مفتوحة وإمكانياتها محدودة، رغم مساعدة الطائرات الفرنسية في فترة معينة. وتدخلت الجزائر عسكريا بشكل كبير من الجهة الشرقية دعما "للبوليساريو" حيث عمدت إلى قصف قرية "عين بنتيلي" في المنطقة الشرقية من موريتانيا (تقع عين بنتيلي في أقصى شمال موريتانيا في ولاية تيرس الزمور على الحدود مع المغرب على الطريق إلى مدينة تيندوف قبلتفاريتيبنحو70 كيلومتر). واستمرت اعتداءات "البوليساريو" المدفوعة من الجزائر على موريتانيا إلى أن تم الانقلاب على الرئيس الموريتاني المختار ولد داده، فأوقفت "البوليساريو" الحرب من جانب واحد، بعد أن استولى على السلطة نظام عسكري قدم العديد من التنازلات للجزائر، واعترف بعدها مكرها "بالبوليساريو". حضور "البوليساريو" في أزمة شمال مالي حضور عناصر "البوليساريو" في مختلف التنظيمات الإرهابية العاملة بمنطقة الساحل الإفريقي، لم يعد بالأمر المجهول، فقد أكدت مالي سنة 2013، على لسان وزير خارجيتها، تيامان كوليبالي، على هامش مباحثاته بمقر الأممالمتحدة مع أمين عام المنظمة الدولية أنذاك، بان كي مون، ووكيل الأمين العام لعمليات حفظ السلام إيرفي لادسوس، انضمام مقاتلين من "البوليساريو" إلى الجماعات الإرهابية المقاتلة في شمال مالي، وأوضح الوزير المذكور في تصريح صحفي، أن عدد أفراد المجموعات الإسلامية المتطرفة في شمال مالي كان في حدود 500 مقاتل جهادي، في بداية الأزمة، وأن مجموعات من حاملي السلاح التحقوا بالإرهابيين في شمال مالي، قادمين من مخيمات تيندوف. طيلة السنوات الماضية عادة ما تقع مواجهات بين عناصر "البوليساريو" والجماعات المسلحة في شمال مالي بسبب الصراع على عمليات تهريب الكوكايين وتجارة الأسلحة الخفيفة، ففي نوفمبر من سنة 2009 مثلا، اختطفت مجموعةُ مسلحة من قبيلة لبرابيش العربية في شمال مالي، أربعة من قادة "جبهة البوليساريو" ضمنهم القائد المساعد للمنطقة العسكرية الأولى في "البوليساريو" الطالب آمي الديه، واقتادتهم من الأراضي الجزائرية إلى منطقة تاودني في مالي، ليطلق سراحهم خلال أيام، بعد أن دفعت قيادة "البوليساريو" فدية مالية. فضلا عن استخدام الأمن العسكري الجزائري عناصر "البوليساريو" في إطار صراعه مع بعض الحركات الأزاوادية في شمال مالي التي ترفض الخضوع له. ففي سنة 2016، على سبيل المثال لا الحصر، قامت الجزائر بنقل أربعة من الأزواديين إلى داخل الجزائر لمحاكمتهم، بعدما كلفت مجموعة مسلحة من "البوليساريو" باختطافهم من منطقة كيدال شمال مالي، وقد ردت أنذاك "الحركة الوطنية لتحرير أزواد" باعتقال ثلاثة من الصحراويين، وهددت بتصفيتهم ما لم يطلق سراح مواطنيها، وأضافت حينها الحركة الأزوادية بأنها ستقوم باختطاف كل من عثرت عليه من الرحل الصحراويين المحسوبين على" البوليساريو". تورط عناصر "البوليساريو" في الأزمة الليبية تناقلت وكالات الإعلام الدولية خبر تورط عناصر " البوليساريو" في الأزمة الليبية، وهو ما نقلته مؤسسة "هيودسن" وهو مركز أمريكي للأبحاث تأسس سنة 1961م، مقره في العاصمة واشنطن ويهتم بالسياسة الخارجية وقضايا الأمن الوطني الأمريكي، حيث أفاد في تقرير له نشر في بداية الأزمة الليبية أنه تم اختيار أكثر من مائتي مقاتل من عناصر "البوليساريو" مدربين بشكل جيد على مهارات حرب العصابات بناء على طلب القذافي، وتم تسليحهم برشاشات كلاشينكوف والقنابل اليدوية وقاذفات الصواريخ وأرسلوا بسيارات الدفع الرباعي إلى ليبيا". وهو الأمر نفسه الذي ذكره علي الريشي وزير الهجرة الليبي السابق الذي انضم إلى" الثوار" أنذاك، وأكّد في تصريح له لقناة "المهاجر" التي كان مقرها واشنطن أن "البوليساريو كانوا يقاتلون إلى جانب قوات نظام القذافي ضد الشعب الليبي". كما أن موظفين سامين بمنظمة الحلف الأطلسي، أعلنوا أن القذافي قد صرف ما مقداره 3.5 مليون دولار من أجل استجلاب المئات من المرتزقة من شمال إفريقيا، بقيمة 10 آلاف دولار لكل واحد طيلة شهرين، وأن أغلب أولئك المرتزقة كانوا من عناصر "البوليساريو". كما أنه بعد هجوم "الثوار" على السفارة الجزائرية بطرابلس بتاريخ 22 غشت 2011، أعلنوا عثورهم على وثائق خاصة تدل على الدعم الجزائري القوي للقذافي بما في ذلك الدعم العسكري واللوجستيكي، وأيضا إرسال العديد من مرتزقة "البوليساريو" إلى التراب الليبي. في المحصلة، أن تنظيم "البوليساريو" رغم تراجعه المتزايد واضمحلال وضعيته، وازدياد المتغيرات الدولية التي لا تخدم مصالح الجزائر في المنطقة، يبقى مصيره مرتبط بدرجة دوام أو انحسار سيطرة الجيش الجزائري على السلطة، فكل تراجع في نفوذ المؤسسة العسكرية سينعكس بسرعة على وضعية هذا التنظيم، كونه في العمق ليس إلا أداة من أدوات الأمن العسكري الجزائري التي يوظفها حسب رغبته، وبقاءه مرتبط بمدى قدرته على تحقيق الأهداف التي وضعت له. دوره سينتهي إما بانتهاء صلاحيته، أو عند رفع قبضة مؤسسة الجيش عن الشعب الجزائري الشقيق بشكل حقيقي وكامل. *باحث في العلاقات الدولية