عَراقيلُ في مَساراتِ أحزابِنا.. تَنتُجُ عنها صِراعاتٌ وضغُوطاتٌ واكتِئاب.. وتَختَلِطُ فيها المَفاهيم.. وتنهارُ الاستِقلالية.. وكيف تكُونُ عندَنا أحزابٌ واقِفة، ذاتُ مِصداقيّة، وقواعدُ صَلبة، بدُونِ استقلاليةِ القَرار؟ وبدُون نقدٍ ذاتيّ داخلي مُتواصِل؟ أحزابُنا تَتهرّبُ منَ النقدِ الذاتي.. ولذلك، لا اعتمادَ عليها.. فاشِلة، مُنهارَة، على كلّ المُستَويات.. * وعليها أن تَعِي الخلَل! بيدَ أنها تُسيءُ التّصرّف، في حالاتٍ كثيرة، خاصّةً عندما يظهرُ نقدٌ داخلي، ويَمسّ قيادةَ الحزب.. القيادةُ حتمًا تُصابُ بالغضَبِ الشديد.. وقد تُطلِقُ - عِندَها - فَيالقَ التّهجّمِ المُتطرّف، على من يَأتِي منهُم النقد.. وما دامت هي عاجزةٌ عن النقاش، وإثباتِ مَواقفِها، فهي لا تملكُ إلا الغَضبَ الذي قد يكُونُ شديدا.. تَغضبُ وتَلجأُ إلى سُلطةٍ لها مُسانِدة، فتحصُلُ على فتوَى تشجيعيّة، وربّما تحريضية، كي تَطردَ من صفُوفها مَن تطرُد، وتُصَفّي حساباتِها مع كل مُعارَضةٍ داخِليّة.. وفي حالةِ مُعارَضةٍ من خارجِ الحزب، تُخرِجُ تُهمةً هي عندَها جاهِزة.. وتُحرّكُ فيالقَ النّمِيمة، لكي تَحبِكَ مُؤامَرات، وتَقُومَ بإعدادِ اتّهامات، فتَنشُرَ - في شَوارعِ البلد - أقاويلَ كاذِبة، ومعلُوماتٍ من إنتاجاتِ النّميمة، واتّهاماتٍ ضدّ فُلانٍ وعِلاّنٍ وكلِّ من يَنتَقدُها، وتُشِيعُ في الناسِ أن من يَنتَقد، ما هو إلاّ عميلٌ مُخبِرٌ يُعادِي الحِزب، ومُناضِلي الحزب، وتاريخَ الحزب.. وتَفعلُ القيادةُ نفسَ ما تَفعَلُه مَجمُوعةُ "تُجّار الدّين" من تكفٍيرٍ لكُلّ من يَنتَقدُ كاتٍبًا يَخلِطُ النقدَ بالدّين، لدرجةِ أنّ انتقادَ كاتبٍ أو مُفْتٍ أو مُفَسّر، يعنِي المَساسَ بحُرمةِ الدّين.. وهذا ما تَفعَله القيادةُ في حقّ كل مُعارَضةٍ خارِجية، فتَصفُها بالعَدَاء، رغم أنهُ لا علاقةَ للحزبِ بسُوءِ تدبيرٍ، أو تسييرٍ، لفردٍ أو أفرادٍ من قيادةِ الحزب.. ولا مجالَ لتصديرِ الغَضبِ القيادِي من سُلوكٍ داخِلي إلى جهاتٍ قد تكُونُ وهميةً خارجَ الحزب.. * وهكذا هي أحزابُنا.. وهي دائمًا هكذا.. استِبدادية، تَحسِبُ نفسَها فوقَ المُحاسَبة والمُساءَلة والديمقراطية الداخلية.. ولا تَقبَلُ أيَّ نقدٍ ذاتي داخِلي، وأيَّ انتقادٍ من أيةِ جريدة، وأيَّ مَنبَرٍ خارِجي.. وأحزابُنا مَبنِيةٌ على العَلاقاتِ الخاصّة، لا على النّقدِ الذّاتي.. النقدُ الداخلِي لا تَقبَلُه القيادة.. فالنقدُ الذاتي يَجنحُ بالحزبِ إلى امتِصاصِ قُوّةِ القيّادة.. والقيادةُ لا تَقبلُ أن يَتسبّبَ النقدُ في تآكُلِ هَيبةِ القيادة، وهَشاشةِ قُوّتِها وقُدرتِها على التّفاوُض، وعلى اشتراطِ ما تُطالبُ به من مِحوَرِ السّلطة.. أحزابٌ ليست لها قاعِدة صَلبة، ديمقراطية، وبالتالي لا تَقُوم على أساسٍ سليم.. هي أصلاُ في حالةِ هشاشة، تُدرِكُ أنها ضَعِيفة، وعلى أساسٍ هَشّ، وأن قُوّتَها قائمةٌ على الخَدَماتِ التي تتَبادَلُها مع سُلطةِ القَرار.. وكان عليها أن تَستَمدّ المَتانةَ المطلوبةَ من قاعدةٍ ديمقراطية، لكي تكُونَ مُؤهّلةً لخوضِ نِقاشاتٍ داخلية، من أجل تمتِينِ الحِوارات، وتمكينِ مُختلفِ التّوجّهاتِ منَ التّعبيرِ عن آرائِها، ومَواقفِها، بدُون أن تكُون هذه الاختلافاتُ سببًا في سُقوط الحزبِ في أحضانِ السّلطة.. وعندما تَقعُ في قبضةِ الحُكم، تتَحوّلُ إلى خادِمة، بدلَ أن تكُون مُستَقلةَ الرأيِ والقَرار، وأن تَقِفَ بِمَوقعِ النّد، في مُواجهةٍ نَدِّية.. لكن الحاصلَ هو أنّ أحزابَنا لا تُشكّلُ القُوةَ المُضادّةَ للحُكومة، ولا تَستطيعُ أن تكُونَ مُعارِضة.. وهذا ما يُفسّرُ غيابَ المُعارضةِ في بلدِنا، ويَفسَحُ المجالَ لمُعارَضةٍ بدِيلة، تَنشُطُ في مَواقعَ مُختلِفةٍ من الشّارع.. وعندما تعُودُ هذه الأحزابُ إلى النقدِ الذاتي الداخلي، تَتخَلّصُ من السّقُوط في أحضانِ الحُكم.. وعليها أن تَستَوعبَ أن مَكانَها الطّبيعي هو التّقاطُع مع الحُكومة.. وهي كالصحافة، يَجبُ أن تكُون ناقِدة، لا تابِعة.. تَنتَقدُ داخليّا ما يجبُ انتقادُه، دون تَخَوّفٍ من قيادةِ الحزب، ولا منِ احتِمالِ وُقوعِ القيادةِ في قَبضةِ التّبَعيٍة.. فالحزبُ يجبُ ألاّ يكُون خَدُومًا فقط للوَطن والمُواطن، بل أيضًا لكلّ ما هو مَصلحةٌ العامة، وحمايةٌ لدولةِ المؤسّسات.. لكن أحزابَنا لا تَعتَمِدُ النقدَ الذّاتي، بل تتَواطأُ مع مَصالحِها الفردِية، داخلَ الحزب، وفي علاقاتٍ انتهازيةٍ هنا وهناك.. وبهذا تكُونُ - هي - خارجَ القانُون، داخليّا وخارجيّا.. وتلتَفّ على القانُون في وُعودِها الانتخابية.. * أحزابُنا لا تُطبّق القانُون! القانونُ في اتّجاه.. وهي في اتجاهٍ آخر.. ولا تؤطّرُ المُواطنين.. إنها تُهمّشُ كلَّ من يَطرحُ أسئلةً تقودُ لمَعرفةِ معلُوماتٍ ذاتِ حَساسيّة.. وليست كلُّ المَعلوماتِ رهنَ إشارةِ الجميع.. هناك معلوماتٌ لا تَطّلِعُ عليها إلا مجموعةٌ مُقرّبة.. وهي من أسرارِ الحِزب، وبتعبيرٍ آخر: من أسرارِ الفئةِ المَحدُودَة التي تُدِيرُ دَواليبَ الحِزب.. وأسرارٌ قد تجِدُها في "سُوق الخُردَة"، ولا تَجِدُها عند شخصيةٍ حِزبيةٍ مُنتَخَبَة.. وأوساطُ المُنتَخَبِين نفسُها فيها مُستَويَات: الدرجةُ الأولى، ثم الثانية، فصُعُودًا إلى العاشِرة.. وما يُتَناوَلُ في الأولى قلّما يَصِلُ إلى ما فَوقَها.. * الشّفافيةُ مُجرّدُ شِعار.. ولا تَستطيعُ في الحزبِ أن تَعرفَ إلاّ مَوقعَك في القائمة، لا غير: يجبُ أن تفعلَ كذا وكذا، فقط.. وأن تكُونَ مُخبِرًا لفُلان.. كلُّ ما تَعرِفُ عن فُلانةٍ وفُلان، يجبُ أن يَبِيتَ في أذُنِ "سيادةِ فَرتَلاّن"! ها هي الأحزابُ لا تُؤطّرُ على الوَطنية.. تُؤطّرُ على نقلِ الأخبار.. وتَدَاوُلِ المَعلُومات.. وتَبادُلِ القيلِ والقال.. والتقاطِ الأسرار.. وكلِّ ما يُقال في قيادتِها.. الأحزابُ لا يَهمُّها إلا تلميعُ صورةِ القيادة.. القيادةُ الحزبية تَحرصُ - هي - أن تبقَى لامِعة، على طُول، وكأنّها مُقدّسة.. بينما الأحزابُ لا قدَاسةَ لها.. وليسَت مُقدّسة.. وحتى قيادتُها ليست مُقدّسة.. دورُها معرُوف.. يُحدّدُه القانون.. هو أن تُمارِسَ النقاشَ السياسي.. وتَخوضَ في السياسة.. عالَمُها هو السّياسة.. وهي دائمًا عُرضةٌ للخطأ.. وعَدَمُ إصلاحِ الخطأ، قبلَ فواتِ الأوان، يعنِي تركَ الخطأ يَستفحِلُ ويَتحوّلُ إلى مُستَنقَع.. وهذا سُلوكٌ مُعتادٌ في أحزابِنا.. وهي تُعلّمُ بعضَها كيف لا تَعترفُ بالشّعب.. تَعتَرفُ فقط بمَن تَصِفُهم جهاتٌ حزبيةٌ بالتماسيحِ والعفاريت، وهي أشباحٌ وراءَ السّتار، تَحكُم بالعَصا والجَزَرَة.. ولا مَجالَ لانتظارِ تغيِيرٍ في عَقليةِ هذهِ الأحزاب.. هي كانت "دَكاكَينَ سياسيّة"، وما زالت "دكاكينَ" تبيعُ في الناسِ وتَشترِي، لفائدةِ "عفاريتَ وتمَاسِيح".. فما دامَت خارجَ النقد، والنقدِ الذاتي، فهي ليست أحزابًا، بل تَحوَّلت إلى "مافيا".. هَدفُ "المافيا الحِزبيّة" هو تَقاسُمُ ثَرواتِ البلد، مع "التّماسِيح".. * والأحزابُ عندَنا لا تتَطَوّر! ما زالت على حالِها القَديم.. تَقتَسِمُ القِطاعاتِ الحيّة، ومَعها ثَروَاتِ البَلد، وتتَواطأ مع الطّبَقَةِ الأرستُقراطيّة.. وتَخدُمُ مَصالِحَ ذُيُولِ الدّولِ الاستِعمارية.. وتَدُورُ في أفلاكِ المصالحِ الكُبرَى.. وحتى وقد هَرِمَ قادَتُها، تَعمَلُ مع فُتاتِ "الاستِعمارِ الجديد"، لتَخليدِ مَواقِعِها، وتَورِيثِ السّلطةِ والجاهِ والمالِ لأبنائِها وأحفادِها.. وتَشتَغلُ بالليلِ والنّهار، من أجلِ استِمراريّةِ حُكمِها، وتكريسِ بقائِها في صنَاعةِ حياتِها العامّة، وإبقاءِ علاقاتِها قويّةً مَتينةً مع عُملاءِ الأمس، وتأمينِ استِمراريةِ الخُلُود، تحتَ ظِلالٍ قويّةٍ مع الذّات، والآخر.. قويّةٍ بالعلاقات.. والمَواقِع.. وتُخطئُ الأحزابُ حيثُ تُفرّطُ في أساسِها الحقِيقِي وهو المُجتَمع.. ولا تَستَطيعُ أن تتَقَوّى وتتَطَوّر، ومعَها تَكبُرُ الدّولة، بدُون قاعدةٍ شعبيةٍ صلبَةٍ صادِقةٍ وفيّةٍ للوَطن والمُواطن، ولكلّ مُقوّماتِ الاستِقرار التّنموي والبَشري لأعمِدةِ الدولة.. وما زال الوقتُ مُتاحًا لإعادةِ النظرِ في مَسيرةِ تعامُلاتِ الدولةِ مع الأحزاب، لأنّ الدولة مُعرّضةٌ للخَلَل، إذا لم تتَنبّه أحزابُها إلى ضرورةِ التّكامُل بين سياساتِ الدولة، وشريكتِها المُجتمعية، في إطار الحُرية العامة.. لا تستطيعُ الدولةُ أن تَشتغلَ بدُون أحزابٍ سليمة، تخدُمُ البلدَ بصِدقٍ ونزاهة.. أحزابٌ ذاتُ تركيبةٍ تنظيمية، وبرامجَ وخُطط، تتَفاعلُ إيجابيّا مع طُموحاتِ البلد.. وبدون أحزابٍ تقُومُ على أساسِ نقدٍ ذاتي، لا تَستطيعُ الدولةُ أن تَشتغلَ بعيدا عن مُعَوّقات حزبيةٍ سياسية.. وبدون شعبٍ يتَفاعلُ إيجابيّا مع الأحزاب، ويثِقُ فيها، ويُزوّدُها عبرَ النقدِ الداخلي، بمَعلُوماتٍ وأفكارٍ وحُلولٍ وآلياتِ عَمل... بدون هذا الشعبِ اليَقِظ، تَفقدُ الأحزابُ التفاعلَ الجماهيري المطلوب، وتَتعَرّضُ للشّلَل.. فهل شعبُنا يثقُ في الأحزاب؟ هل يُشكّلُ دعامةً لتقويّةِ وتطويرِ الديمقراطيةِ الداخلية للحزب، ومن ثمّةَ الديمُقراطيّة لكل البلد؟ هل الأحزابُ تخدُمُ الشّعب؟ أم الشعبُ وحدَه يَخدمُ الأحزاب؟ كيف يتَطَوّرُ البرلمانُ والحكومةُ وبقيّةُ الأداءاتِ الضرورية لتطوُّر البلد، بأَقدامِ أحزابٍ مشلولة، وأدمغةِ قياداتٍ حزبيةٍ في مُنتهى الاختِلال؟ * يجبُ التّخلّصُ من أحزابٍ ما هي بأحزاب! والانتِباهُ إلى ظاهرةٍ مُنتشِرةٍ في الزّعاماتِ الحِزبيّة.. إنها الاكتئابيةُ الناتِجةُ عن ضُغوطاتٍ نفسيّة، بسببِ الصّراعاتِ التي لا تتَوقّفُ بين أطرافٍ حزبيةٍ مُتناحِرة.. والاكتئابُ لا يَستَثنِي السياسة.. الاكتئابُ السياسي، لا يَختلفُ عن باقي الاكتئاباتِ المعرُوفةِ في الضّغطِ النّفسي.. ومِن تَكاثُرِ الاكتئاباتِ داخلَ قياداتٍ حزبية، وفي قواعدِ النّضال الحزبي، وفي المجتمعِ المُصابِ بخيبةِ الأمل، يُصبحُ الاكتئابُ عُنصُرا جامعًا بين الحزبِ وقيادتِه وقاعدتِه ومُختلفِ فئاتِ المُجتمع.. ويصلُ الاكتئابُ - بسببِ هذه الأحزاب - إلى مفاصيلِ الدولة، فيؤثّرُ في الاقتصادِ والسياسةِ والاستقرار، ومُختلفِ القطاعاتِ الحيّة.. نحنُ أمام مُربّع: لا دولةَ بدون أحزاب، ولا أحزابَ بدون مُجتمع، ولا مُجتمع بدون استقرار.. * قال فرويد، عِملاقُ التحليل النفسي: "الغَباءُ يُولّد الاكتئاب".. ونصَحَ بتَجنّب الأغبيّاء، حتى لا يُصابَ المرءُ باكتئاب.. وحياتُنا الحزبية، لا تَخلُو من "هذا النّمَط" في مَراكِزِ القرار: وُزراء، برلمانيون، مَسؤولُون في الجِهاتِ والمَركَز، يَقلِبُون المَفاهِيم.. * وبالغَباءِ يُسِيئُون للبِلادِ والعِبَاد! ونبقَى في مهَبّ الرّيح، إذا أهمَلت الأحزابُ أهمَّ عُنصُر، وهو: "النقدُ الذّاتي البنّاء"... * لا قولاً، ولكن فِعلاً وتَفاعُلاً وسُلُوكًا! [email protected]