حب السلطة غريزة راسخة في النفس الإنسانية، بدونها لا تستقيم أحوال الناس، فنظام الجماعة وقانون الاجتماع قائمان على انتخاب الناس لمن يدبر شؤونهم، ويوزع الثروة بينهم بالعدل، ويقضي بينهم بالقسط عند التنازع، فهم يفوّضون أمرهم لمن يسوسهم وفق نظام ارتضوه؛ لكن تجارب الحكم العديدة في تاريخ الأمم، أبانت عن اختلالات بالجملة تقوّض علاقة الحاكم بالمحكوم، مصدرها عدم ترويض هذه الغريزة وأنسنتها لتصبح في خدمة الجماعة بدل أن تخدم الفرد المستبد وحاشيته. أدارت البشرية معارك طاحنة في أفق تهذيب هذه الغريزة لتصبح في خدمة الإنسان، فكان من أعظم ما توصلت إليه ابتكار آليات للتداول السلمي على السلطة، فأنتجت ما يسمى اليوم “الديمقراطية” بأركانها المتعددة: الفصل بين السلط ، دستور أعلى متوافق عليه، أغلبية منتخبة تحكم وأقلية تعارض، تعددية حزبية، صحافة حرّة، ولاية محددة في دورتين أو ثلاث…إلخ لا ديمقراطية بدون أحزاب ديمقراطية ولما كانت الأداة الحزبية هي المشتل الذي تترعرع فيه قيادات المستقبل، وتتبلور فيه الاجتهادات التي ستتحول فيما بعد إلى برامج لحل مشاكل البلاد والعباد، فإن تهذيب غريزة “حب السلطة” يجب أن ينطلق من داخل خلايا الأحزاب، لأن جرثومة الفساد والاستبداد كامنة في هذه النفس الأمّارة، ينقلها المناضلون من البيئة الحزبية الموبوءة، حيث التنافس على المناصب القيادية إلى هياكل الدولة، فينعكس ذلك سلبا على المجتمع،ولهذا شاعت المقولة السديدة :”لا ديمقراطية بدون أحزاب ديمقراطية”، لأن فاقد الشيء لا يعطيه. نحن اليوم، في الدول التي تعيش انتقالا ديمقراطيا، أمام ثلاثة أصناف من الأحزاب أو التجمّعات: صنف يرفض الديمقراطية لأنها تقوم على فلسفة إشراك العبيد في الحكم، بينما الحكم لله وحده، وهؤلاء تمثلهم التيارات السلفية المتشددة، والبديل عندهم هو “حكم المتغلب” أو “المستبد العادل” الذي يحكم بشرع الله والصنف الثاني يرحب بالديمقراطية إذا جاءت نتائجها لصالحه، أما إذا لفظه الشعب، فإنه يحدث الفوضى في الشارع العام ويضع العصا في العجلة، وهذا حال التيّارات الحداثية التي تربت في أحضان ديمقراطية الواجهة التي كان يرعاها الطغاة (نموذج ما يجري اليوم في مصر). وصنف ثالث يدافع عن الديمقراطية والحداثة، لكنه يزوّر نتائجها لتكون في صالحه، وهذا عموما يكون في الحكم ويستحلي لذة الكراسي، فيعمل على توظيف أدوات الدولة ضد المنافسين، و يستغل قوة الأعيان والمال الحرام في الحملات الانتخابية. وعلاج هذا كله لا يكون، كما قلنا، إلا من داخل المطبخ الحزبي، حيث ترويض المناضلين على القبول بنتائج الديمقراطية، وذلك من خلال ثلاثة مداخل: أولا : المدخل العقدي (الإيديولوجي)، بترسيخ مفاهيم العدل والحرية والمساواة واحترام القوانين، وبيان فساد الاستبداد والظلم والطغيان، والنظر إلى الديمقراطية على أنها إنتاج بشري قابل للتطور، تحقق هذه القيم وترسخها، ولا تناقض مبادئ الإسلام في الحكم القائم على الشورى والعدل، بل ترسخها وتنتصر لها. ثانيا: المدخل الإجرائي، من خلال تمرين المناضلين على التداول السلمي على المسؤولية داخل هياكل الحزب أو الجماعة، على ضوء انتخابات داخلية نزيهة وشفافة، تعلي من شأن الكفاءة والمردودية النضالية، لأن الجماعة التي لا تجدد هياكلها وقياداتها،وتكرّس الاستبداد وترسّخ مفاهيم الطاعة العمياء دون مساءلة،وترفض النقد وتجديد النخب، لا يمكن أن تقبل غدا، وهي في السلطة، التداول السلمي على السلطة؛ كذلك الأحزاب التي تزوّر نتائج الانتخابات الداخلية لتفرز قيادات معطوبة ومشبوهة، مطعون في مصداقيتها وكفاءتها، لا يمكن إلا أن تزور الانتخابات غدا وهي في السلطة. ثالثا : المدخل التربوي،وهذا خاص بمناضلي الحركة الإسلامية،إذ الأحزاب العلمانية تفصل الدين والأخلاق عن السياسة، لذا سنفرد له فقرة خاصة من هذا المقال، وسنتناول كنموذج لذلك حزب العدالة والتنمية المغربي، إذ أننا نعتقد أن هذا الحزب نجح في تفعيل المدخلين الأول والثاني، من خلال تراكم اجتهادي ومراجعات قام بها وتأصيلات فقهية، ثم من خلال تطوير آليات التداول على المسؤولية وتفعيلها في تجديد النخب والقيادات الحزبية، وبالرغم من انبثاقه عن حركة إسلامية تجعل التربية إحدى مقوماتها الأساسية، فإن الانتقال من المعارضة إلى السلطة يطرح أسئلة جديدة على هذا الفاعل السياسي، بعضها مرتبط بالجانب التربوي، ذلك أن اتساع قاعدة الحزب بعد الفتح، وانضمام أطر جديدة ومناضلين من هيئات أخرى، لم تكن تولي اهتماما للتربية، يجعل الحزب أمام تحد من نوع جديد. حزب العدالة والتنمية بين الأمس واليوم 1) تشهد المنطقة العربية والمغاربية تحوّلات هائلة جيوسياسية واجتماعية وثقافية، أذكى قوتها زلزال الربيع العربي، ما سينعكس سلبا أو إيجابا على بنية الدولة والأحزاب والمجتمع المدني في هذه المنطقة ذات البعد الاستراتيجي العالمي، حيث سيتصدر المشهد السياسي فاعل جديد، هو الفاعل الإسلامي، الذي كان يعيش وضعية الحظر والاضطهاد أو القلق والترقب في ظل أنظمة مستبدة فاسدة. 2) وبخلاف بعض الأحزاب التي رفعها الربيع العربي من الحظر إلى سدة الحكم (نموذج النهضة بتونس)، أو من نبذ السياسة إلى المشاركة في الحكم (نموذج حزب النور السلفي)، أو من الاعتقالات وتزوير الانتخابات ضدها إلى الحكم (نموذج الإخوان المسلمون)؛ فإن حزب العدالة والتنمية المغربي عرف نموا وتطورا طبيعيا، فقد انبثق عن مرجعية إسلامية خضعت لاجتهادات ومراجعات منذ مطلع الثمانينات، عكست تحولا تدريجيا في مقاربة قضايا الصراع بين الفاعل الإسلامي والنظام الملكي وباقي مكونات المشهد السياسي. 3) لم ينته عقد الثمانينات حتى حسم هذا الفاعل الجديد في قضيتين كبيرتين، سيكون لهما الأثر الحاسم في تطور مساره السياسي: القضية الأولى : اعتبار المجتمع المغربي والدولة بصفتهما الإسلامية منذ 12 قرنا،تحت نظام ملكي دستوري، حافظ على طبيعته الدينية متمثلة في إمارة المؤمنين، بعقد بيعة يجسّدها الدستور، ويتمّ تجديدها كل سنة بمناسبة جلوس الملك على العرش. القضية الثانية : تبني الديمقراطية الداخلية كآلية للتداول على القيادة والمسؤولية داخل هياكل هذا المكوّن الإسلامي، الذي انتقل من هيئة دعوية تهدف إلى تنمية الحس الإسلامي وتجديد معانيه لدى أفراد المجتمع ورفع منسوب التزامهم بالدين، إلى مشروع سياسي يهدف إلى المساهمة في الحكم، وتجديد هياكل الدولة وتحديث مؤسساتها، بمنطق جديد يقطع مع منطق الفساد والاستبداد. 4) من جهتها، تعاملت الدولة بمرونة كبيرة مقرونة بالحذر مع الفاعل الإسلامي، حيث تمّ إدماجه بالتدريج في المشهد السياسي المغربي، في سياق التوازنات التي تحافظ عليها الدولة مخافة أي مفاجآت أو انزلاقات، فلم تخضع العمل الإسلامي للحظر أو الاستئصال أو النفي أو القمع الشديد، كما حصل في تونس والجزائر وليبيا ومصر، وفي معظم الدول ذات النهج اليساري الشمولي أو القومي البعثي. 5) نعم، عقب أحداث 16 ماي بالدار البيضاء، كان هناك تيار داخل الدولة يدعو لتبني المقاربة الاستئصالية، واتهم حينها حزب العدالة والتنمية بالمسؤولية المعنوية عن تلك الأحداث، ورفع شعار:”ليس في القنافذ أملس”، وتحركت آلته الإعلامية، كما تحرّكت الآلة الأمنية بقوة في استهداف السلفيين، وأغلقت العديد من المساجد ودور القرآن والجمعيات، بعضها كان تابعا لحركة التوحيد والإصلاح، وحصلت تجاوزات كبيرة تحدثت عنها منظمات حقوقية وطنية ودولية،لكن الملك محمد السادس بحكمته المعهودة رفض تلك المقاربة ورفض الدعوة لحل الحزب، بل وأكد لصحيفة “البايس” الإسبانية أن تجاوزات حصلت في مقاربة هذا الملف، ودعا لنهج سياسة إصلاح شمولية تستهدف الجوانب الثقافية والاجتماعية والاقتصادية، خصوصا بالمناطق التي تعاني الهشاشة. 6) جاء زلزال الربيع العربي يرفع أقواما ويضع آخرين، وبلغ هديره المغرب، وقدّر حزب العدالة والتنمية أن نزوله للشارع إلى جانب حركة 20 فبراير قد يؤدي إلى انهيار الدولة، فقرر عدم الخروج، لكنه انتهزها فرصة للضغط من أجل إجراء إصلاحات جذرية، والقطع مع سياسة التحكم التي ورثها الحزب الأغلبي من نظيره السري الذي كانت ترعاه الداخلية إبان ادريس البصري، الرجل القوي في العهد السابق. 7) توالت الإصلاحات الجدية بسرعة : خطاب 9 مارس، دستور فاتح يوليوز 2011 الذي يقلص من صلاحيات المؤسسة الملكية ويوسع من صلاحيات رئيس الحكومة، انتخابات 25 نونبر 2011 التي فاز فيها حزب العدالة والتنمية الإسلامي بحصة الأسد في المؤسسة التشريعية، احترام المنهجية الديمقراطية في تعيين رئيس الحكومة من الحزب الذي حصد أكبر عدد من المقاعد، تشكيل أول حكومة بقيادة الحزب الإسلامي الذي كان مستهدفا من خصوم إيديولوجيين، حكومة تضم أربعة أحزاب، من بينها حزب حداثي يرفع عنها تهمة استهداف ما حققه المغرب من تقدم في مجالات المرأة والديمقراطية وحقوق الإنسان وحرية تعبير. مصدر الداء هذا النمو الطبيعي الذي عرفه حزب العدالة والتنمية المغربي، وهو ينتقل من الدعوة إلى الدولة، ومن المعارضة إلى الحكم، يصاحبه عادة نمو آخر ذو بعدين: أولا : البعد النفسي البشري، بحيث ينتقل الأفراد من مناضلين يتحاشون التطلع إلى القيادة والمسؤولية داخل هياكل الحزب، وهو في المعارضة يتربص به الأعداء، إلى متنافسين على المناصب الحزبية التي تتيح فيما بعد الحصول على منصب سياسي في إدارة الدولة وتسيير الجماعات المحلية؛ هذا التنافس الذي هو من الطبيعة البشرية، تنشأ عنه أمراض، إذا لم يتمّ تداركها، تستفحل لتصبح سرطانا يهدد كيان الحزب، بل والدولة أيضا. ثانيا : البعد الكمّي العددي، حيث تتسع قاعدة الحزب ويلتحق به “مسلمة الفتح”، منهم الراغب في تعزيز تجربة حزب في بداية مشواره يريد منازلة الفساد والاستبداد، ومنهم الراغب في منصب ليس إلا، ومنهم المخبر الذي ينقل أحوال الحزب إلى جهات خارجية، ومنهم من له مصالح مشبوهة يسعى للاختباء داخل حزب معروف بسمعته الحسنة، ومنهم المناضل السابق في صفوف أحزاب أخرى تمرّس على المكر والخديعة وألاعيب السياسة السياسوية، ومنهم ومنهم.. هؤلاء لم يتلقوا تربية داخل خلايا الحركة الإسلامية،ولا يستطيع الحزب أن يؤمّن لهم ذلك بعد انفصال حركة التوحيد والإصلاح عن الحزب، واستقلال كل طرف بهياكله وقراراته، هؤلاء وإن كان وجودهم داخل الحزب الذي يعاني نقصا في الأطر سيفيد في تطوير تجربة الحزب، إلا أنهم من دون شك سيتسببون في مشاكل عديدة، قد تقلص منها الديمقراطية الداخلية الصارمة التي ينهجها الحزب في اختيار مسؤوليه، لكنها لن تزيلها. عادة ما تنشأ عن هذا النمو ذي البعد النفسي والكمّي أمراض تضعف الحزب والدولة، ولا تظهر آثارها إلا بعد عقود من الزمن، منها: أولا : مرض حب الزعامة بغير استحقاق، وينتج عنه إقصاء ذوي الأهلية، ووضع العقبات في وجوههم، وتزوير الانتخابات ضدهم. ثانيا : الاصطفافات داخل الحزب، التي تبنى عادة على الانتماء العرقي أو الجهوي أو القبلي أو العائلي، بعيدا عن معايير المصداقية والقوة والأمانة والكفاءة، وينتج عنها الكولسة والإشاعة والكذب والنفاق السياسي، وانسحاب الصالحين من تلك الأجواء الموبوءة بالغيبة والنميمة، وهو انسحاب يشبه “الفرار يوم الزحف”، وقد يصل الأمر إلى انقسامات وصراعات تؤدي غالبا إلى ضعف التنظيم وترهله، ما يسمح باختراقه من جهات خارجية، تتحكم في مساره، فيصبح أداة لخدمة الفساد والاستبداد بشعارات برّاقة فارغة من أي مضمون. ثالثا : نقل جرثومة الفساد الكامنة في النفس البشرية إلى مؤسسات الدولة عبر قنطرة الحزب، فيتولد عنها داء المحسوبية والزبونية والتورط في الاغتراف من المال العام، ثم تعزيز لوبيات الفساد والارتباط بها خارج أجندة الحزب، في دورة كاملة لا تنتج إلا الفساد والاستبداد. وسنعود في مقال آخر إن شاء الله لتقديم وصفة العلاج لأصل الداء، كما حددتها المرجعية التربوية الإسلامية لتخليق العمل السياسي.