لكُلّ من عجزتْ قدامهُ عن بُلوغِ أرْضَ الحجاز لأداءِ مناسكِ الحجّ والطّوافِ حوْل البيت الحرامِ، مُتعذّراً بضيقِ المَال وشقاءَ المسيرِ إلى مهدِ الدّعوة الإسلامية، فعليهِ أن يقْصدَ موسم "سيدي بوخيار"، المُتعالي ببهائهِ وشموخهِ في قلبِ جبال الرّيف، وبالضّبط في جماعة شقران، التي تبعدُ عن الحسيمة بحوالي 90 كلم، فهناك يقفُ النّاس يوم عرفة في جوّ "روحاني" شبيهٍ بالموسم الذي ينظّم في مكّة. موسم سيدي "بوخيار" أو "حجّ الفقراء" يجتمعُ حوله النّاس، الذين يأتون من كلّ فجِّ عميقٍ، يوم الوقوفِ بعرفة في التاسع من شهر ذي الحجة من كل سنة هجرية، حيثُ ينظّمُ، موازاةً مع شعائر الحجّ، التي يؤديها "أتباعُ" سيدي بوخيار، من طوافٍ ورمْي الجمرات والأدعية، موسمٌ ثقافي، وديني، واجتماعي، واقتصادي، على ارتفاع يقدر ب 1952 مترا عن سطح البحر. هذا الموسم الدّيني، الذي يقْصدُه الآلاف من ساكنة المنطقة ونواحيها، يرادُ له أن "يكون ظاهرة اجتماعية شمولية، تقوم على تجمعٍ احتفالي، خاضعٍ لتنظيم زمكاني يتأسَّسُ على أصولٍ ومرجعياتٍ يتداخل فيها الأسطوري بالواقعي والتاريخي، والديني بالدنيوي والمقدس بالمدنس، والاقتصادي بالسياسي والاجتماعي، والشرعي بالعرفي"، يقول الأستاذ المتخصّصُ في الثقافة والتّواصل اليماني قسوح. المقدّس والمدنّس وفي دراسة ميدانية له همّت الوالي سيدي بوخيار، رصدَ قسوح تداخلات المقدّس والمدنّس والطّقوسي والرّمزي والاقتصادي والاحتفالي. ويفسّر الأستاذ المتخصّصُ في الثقافة الأمازيغية أنّ "هذا الموسم يجسّد نوعاً من التعويض بالنسبة للفئات الفقيرة غير القادرة على أداء الحج، إذ تتمكن من الإحساس فعليا بأنها مندمجة في الأمة الإسلامية رغم بعد المكان". وفي رأي المتخصّص في الثقافة المحلية فإنّ هذا الموسم الدّيني "يعبر بفضائه وممارساته الطقوسية عن حركية المقدس الذي انتقل بفضل الأولياء والصلحاء والشرفاء من مكان إلى مكان، نتيجة تداخل عدد من العوامل والأسس، وتضافرها لتأسيس سلطتهم ومكانتهم في ارتباط بهويتهم العامة وأعمالهم المنجزة بفعل الأدوار والممارسات المرتبطة بهم". نصف الحجّويُعتقدُ أنّ تكرار الزيارة إلى سيدي بوخيار، خلال موسمه السّنوي، لثلاث مواسم متتالية، تسمح للزائر بالحصول على "حج الفقير" أو "حج المسكين"، الذي يُساوي في قيمته الدينية نصف الحج إلى مكة "أَزْيَنْ نرْحِجْ" (نصف الحج)". ووفقاً للبحث الميداني دائماً ينطوي هذا الاعتقاد على رغبة في تعويض طقس يعتبر ركنا من أركان الإسلام الخمسة، وهو الحج إلى بيت الله الحرام بمكةالمكرمة. لماذا يحجّ النّاس في الرّيف؟ وما هي المبرّرات التي قُدّمت حتّى يتبعهُ النّاس؟ يجيبُ قسوح بأنّ "القيام بهذا الفرض في الأزمان الغابرة كان صعبا على مسلمي المنطقة، في ظل البعد الجغرافي، وضعف البنيات التحتية للمواصلات، وضعف الأمن، ولذلك ارتأت شخصية فقهية من المنطقة تعويض فريضة الحج إلى مكة بحج الفقير أو المسكين، أو بعبارة أخرى تعويض الحج المنشود بآخر مشهود؛ فانتشر الاعتقاد بأن زيارة مقام الأولياء والصلحاء، ومنهم سيدي بوخيار بالريف الأوسط، وسيدي عيسى أوسيغاو، الواقع بقمة جبال إفرني بقبيلة "أيت توزين" بالريف الشرقي، وسيدي عبد السلام بن مشيش بالريف الغربي، وغيرهم بمناطق أخرى من المغرب وشمال إفريقيا، هي بمثابة "حج المسكين"". ولاحظ البحث الميداني في سياق تحليله للأبعاد الخفية لهذا الموسم الديني وجود نسبة كبيرة من الأضرحة المشيدة فوق قمم الجبال أو سفوحها أو عند قدمها، أو على الهضاب والتلال، بالريفين الأوسط والشرقي. وفي الغالب يختار المكان المرتفع لإقامة ضريح الولي المشرف على تجمعات السكان، وعلى الأسواق والطرق والساحل. رمزية "العلو"ويوجدُ والي سيدي بوخيار في قمة جبال الرّيف معزولاً عن البنايات والسّاكنة، ويبرّر صاحب الدّراسة الميدانية ذلك بكون "المرتفع يدل على تلك المكانة المرموقة التي يحظى بها الولي الصالح وشموخه المتسامي فوق الجميع، ما يكسبه قوة رمزية كبيرة بمقدورها حماية الأهالي من كل الشرور التي تصيبهم، وعلى رأسها هجمات الأعداء الخارجيين أو المجاورين؛ إذ تتخذ بعض الأضرحة المبنية فوق قمم الجبال كمرصد طبيعي لكل ما يجري في الساحل". ولاحظ الباحث أنّ موسم الولي الصالح سيدي بوخيار يجلبُ عددا كبيرا من الناس، من مختلف مناطق الريف الأوسط وقبائله ومراكزه وقراه، ومن خارجه، أجانب ومهاجرين ريفيين بأوروبا.. أعمارهم مختلفة.. شيوخ كهول، شباب، وأطفال من كلا الجنسين، مع غلبة ساحقة للذكور، واقتصار الحضور النسوي على نساء كبيرات في السن، وفتيات صغيرات العمر؛ أما انتماءاتهم الاجتماعية فهي مختلفة: تجار، فلاحون، عمال موظفون، طلبة باحثون، سياح، فقهاء، ومتصوفة. توسّل وحاجةوفي هذا الإطار، يتوسّل الإنسان الشعبي من سيدي بوخيار المساعدة والمعاضدة عبر "الأزلي" الغنائي الشعبي، رغم وعر موضع ضريحه، وتضرس موقعه، ما قد يكون حال دون تحقق زيارة المريد (ة) للمقام، في زمن نفسي يبدو فيه طالب (ة) المساعدة في وضعية ضعف واحتياج واشتياق للزيارة والتواصل مع "سيدي بوخيار"، تضيفُ الدّراسة الميدانية. وتاريخيا، توجّه الإنسان الشعبي إلى الوالي سيدي بوخيار، المؤمن ببركته التي لا تنقطع، خلال فترة اجتياح القوات الغازية للمجال، متوسلا منه، عبر "الإيزلي" التالي، رد العدوان وإبعاد أحصنته التي استعملها جنود الاستعمار للصعود نحو قمة جبل شقران بالريف الأوسط. وبلجوئهم إلى الجبال، تزيد الدراسة، يشكل الأولياء والصلحاء، بالنسبة لمن حولهم من السكان مركز العالم، وخزانة للقداسة السماوية التي تتجلى في أضرحتهم. والصعود إلى هذه الأضرحة والقمم المرتفعة، التي تأوي مزارات آل الفضل والصلاح والولاية، هو ارتقاء يجعل الزائر يحس بسمو المكان وتعاليه، وجاذبيته ومركزيته، مثلما تراءى لنا، من خلال زيارات متكررة لضريح الولي الصالح "سيدي بوخيار"، وضريح الولية "للا منانة" بقمة جبل حمام. غرف للذّكر والاستغفارويتكون ضريح سيدي بوخيار، وفقاً لما جاءت به الدّراسة، من بناية مستطيلة الشكل، تقدر مساحتها بتسعين مترا، ويقدر طولها بعشرة أمتار، تتوفر على بابين ينفتح أحدها على الجهة الشرقية، والثاني على الجهة الشمالية، حيث يتراءى البحر الأبيض المتوسط، والجنوب الاسباني عندما يكون الجو صحوا. وتتكون البناية المسقفة، باستثناء مركز زقاقه المفتوح على السماء، من خمس غرف، واحدة في زاويتها الجنوبية الغربية تحوي ضريح سيدي بوخيار، بينما الغرف الأربع مخصصة لنزول زوار الضريح. تبدو البناية متواضعة في بنائها، مطلية بالجير، بدون تزيين أو زخرفة، وبدون قبة، تجاورها من جهة الشمال الغربي بناية مسجد، باسم الولي سيدي بوخيار، مخصص للصلوات الخمس، تابع لدوار "محلات"، يتوفر على قاعة للصلاة ومحل للوضوء بدون صومعة، ينتهي سقفه المائل بصفائح وقطع من الزنك. وحسب خلاصات الدّراسة الميدانية توجدُ شرق ضريح سيدي بوخيار ساحة "رْمَجْمَعْ"، بجوار السوق، تخصص لأداء صلاة الجماعة، يجتمع فيها مريدو الطريقة العليوية والراغبين في مشاركتهم طقوسهم، بالمناسبة، والتي يتداخل فيها، التهليل، والذكر، والرقص، بالطواف الجماعي، و"العِمَارة"، انطلاقا من المصلى، في اتجاه الضريح والمرور بجواره نحو ساحة جنوبه، لإقامة طقوس تتخذ شكل دائرة بشرية من المشاركين الذين يوسعون قطرها ويضيقونه حسب كثافة حضورهم، مرددين بشكل جماعي الفاتحة وابتهالات بالعربية تسمى الذكر. أصل سيدي بوخيار وتعود الدّراسة الميدانية إلى تحديد أصل "سيدي بوخيار"، رغم غلبة الرأي القائل بأنه قدم من تلمسان بالجزائر غريبا بدون عائلة أو خدم أو متاع.. اِختار أن يعيش ويستقر كناسك متعبد في المكان الذي ما إن حل به زاهدا متعبدا متجردا، حلت القدسية والمقدس به، إلى درجة أصبحت معه هوية سيدي بوخيار المؤسس هي ذاتها هوية المجال: "أَذْرَارْ نْ سِيدِي بُوخِيَّارْ" (جبل سيدي بوخيار)، "تَامْزِيذَا نْ سِيدِي بُوخِيَّارْ"(مسجد س. بوخيار)، "رَمْوَسًمْ ن س. بوخيار" (موسم. س. بوخيار) مثلما يظهر أن مجموعة من الأشخاص الذكور بالمنطقة يحملون اسم بوخيار تيمنا بالولي الصالح، الذي بفضله ولج المجال دائرة القداسة. وينتظم حول المقام البوخياري تجمع موسمي، حافل بأعمال وممارسات طقسية، ذات أبعاد ودلالات رمزية، يتداخل فيها الديني بالدنيوي. مثلما أن الموسم مناسبة للاحتفال، وللتجارة، وللمتعة الروحية، وللتجمع والتواصل بين الأفراد والمنتسبين إلى طريق الله، والباحثين والباحثات عن الاستجابة لآمالهم وأغراضهم، في التبرك ونيل البركة، أو في الشفاء من سقم، أو طلب ذرية أو زوج أو التخلص من شر أو نحس أو "تابعة". موسم تجاري وتوقّفت الدّراسة ذاتها عند عرض التجار- الذين يشكلون أول الملتحقين قصد الفوز بمكان مناسب بمحيط الضريح- بضائعهم، منذ الصباح الباكر من يوم عرفة، بسوق الصالحين، في انتظار قدوم الزوار والحجاج والمتسوقين، الذين يتوافدون فرادى وجماعات، عبر وسائل نقل تتراوح بين الدواب والدراجات الهوائية والسيارات المتباينة القيمة، حاملين آمالا وانتظارات ونيات كامنة. وترصدُ أعين الباحث الميادين توجّه الزوار فرادى وجماعات نحو مقام سيدي بوخيار، عبر بوابتي بناية الضريح.. يحمل أغلبهم هدايا عبارة عن رزم وقضبان من الشمع، يجمعها القيم على الضريح في أكياس ليعاد بيعها وتوزيعاها في ما بعد. أضيئت غرفة وجود قبر الولي المغطى بتابوت خشبي مكسو بثوب مزركش، بشمع لإنارة حشود "الطُّورْبَا" الذين يرددون آيات بينات من القرآن الكريم، والدعاء بالكلمة الطيبة، للزوار والزائرات الذين يتقدمون بهداياهم لسيدي بوخيار. ويستلقي عدد من الزوار والزائرات في المحلات الأربعة المخصصة للاستقبال والمبيت، وهي لا تتوفر إلا على حصير بلاستيكي، ويتكلف مقدم الضريح بنظافة المقام ومساعدة الزوار وتوجيههم؛ ورغم أنه يتلقى جزءا من الهدايا، إلا أنه مستاء من عدم إدماجه من قبل وزارة الأوقاف، ليستفيد هو الآخر من إعاناتها، وهو الذي يقول إنه مكلف أيضا بمسجد سيدي بوخيار، وراسل المصالح الإدارية للوزارة دون جدوى، تضيفُ الدّراسة. تكبيرات ورقصٌفي الجهة الشرقية لبناية الضريح، حيث "رَمْصَلُى"/المصلى، التأم جمع من الزوار، قبل الاِنطلاق في موكب يتقدمه شيخ كبير السن يرتدي جلبابا، ويلف حول رأسه رَزَّةً برتقالية؛ يتعلق الأمر بمقدم الطريقة العليوية التي يشكل مريدوها وأتباعها أغلب عناصر الموكب الذي انطلق في اتجاه الضريح بمحاذاة سوق الصالحين، بأصوات مُهللة ومذكرة بشكل جماعي أورادا، ومرددة لازمة: "..الله الله الله ..". وقد تدرجت نبرات الأصوات في الحدة، بازدياد الحشود المنضمة إلى الموكب الذي توقف في طوافه أمام مقام ضريح سيدي بوخيار، حيث تم نحر بعض الأضاحي من الجدي المهداة من قبل الزوار. تهليل، تكبير، ذكر، وصلاة على النبي محمد: ".. الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، اللهم صل على رسول الله، اللهم صل على رسول الله، اللهم صل على رسول الله". يزداد المنضمّون إلى الموكب، ويجتمع حشد آخر من المتتبعين لهذا الطقس الذي يشرف عليه أتباع الطريقة العليوية بالمنطقة. واصل الموكب الذكر والقراءة الجماعية لأوراد الطريقة العليوية، والسير نحو ساحة مركز التجمع "رْمَجْمَعْ"، حيث انتظم المشاركون في الطقس في شكل دائري، تحت إشراف مقدم العلاويين، الذي تقدم نحو مركز الدائرة، وأشار للحاضرين بانطلاق المرحلة الثانية من الممارسات الطقسية التي تعرف ب"العِمَارَة" بقراءة جماعية لسورة الفاتحة، ردد بعدها بشكل جماعي عبارة: "يا رحمان يا رحيم" لمرات عديدة، ثم تلاها التهليل الذي تواصل بذكر جماعي لاسم الجلالة الأعظم: "الله الله الله"، إلى درجة أضحت حالات الجذب والاِرتعاش والاِهتزاز والرقص المصاحب بعملية تنفس إيقاعي عميق، بادية للعيان على عدد من المشاركين في طقس "العِمَارَة". ومن كثرة ترداد اسم الجلالة ومداومته "الله الله الله الله" بشكل جماعي وبسرعة، اقشعرت النفوس وارتجت الجبال الواقفة، وأصبحت أجسام الفقراء العلاويين المشاركين تتمايل في حركية إيمائية أكبر إلى الأمام وإلى الخلف، وتغيرت نبرات أصواتهم الممزوجة بعملية تنفس إيقاعي عميق، وحتى لفظ الله تم تحويره إذ لم تعد أسماعنا تلتقط مما يصلها من أفواههم سوى عبارة "هُوْ هُوْ هُوْ" التي تعني؛ الله.