ترثي الناظور مجدها التجاري، فهي، الآن، مدينة للأشباح، فشوارعها خالية، إلا من مارة يحتمون بالمنازل من الشمس الحارقة، ومحلاتها التجارية، إما مغلقة أو عزف عنها الزبائن، مأصابها بالإفلاس، والعاطلون يقضون نهارهم بالمقاهي أو يتجولون على الكورنيش الجميل. ودعت الناظور أوجها التجاري، منذ قرار المغرب إغلاق معبر بني أنصار، حتى كادت الحركة التجارية أن تتوقف وبدت المحلات التجارية، المتخصصة في التهريب، مغلقة، واقتصر نشاط بعض المحلات المفتوحة أبوابها على بيع ما تبقى من مخزون السلع، خاصة الملابس. في قلب سوق لبيع الأفرشة ، قرب محطة سيارات الأجرة، تبدو الحياة بطيئة جدا، رغم أن السوق كان يضج بالزبائن القادمين من مختلف مناطق المغرب لاقتناء أجود أنواع السلع وبأسعار رخيصة، أما، الآن، فالسوق، وهو عبارة عن خيمة كبرى، فهو فارغ، إذ رغم وجود السلع، إلا أن أثمانها ارتفعت بشكل كبير، ما دفع الزبناء إلى العزوف عنها، أو كما قال تاجر:"قبل قرار منع التهريب المعيشي من بني أنصار كان العرض يفوق الطلب بكثير، مما أدى إلى انخفاض الأثمنة وإقبال الزبناء"، مشيرا إلى أن ما ميز الحركة التجارية بالناظور استقبال آلاف الزبناء من مختلف المناطق لاقتناء الأفرشة، إلا أن قلة البضائع وارتفاع سعرها دفعاهم إلى التوجه إلى الفنيدق ومرتيل. بدا تاجر الأغطية غاضبا، فالفترة الحالية عادة تشهد إقبالا على الأغطية لحلول فصل الشتاء، إلا أنه يعاني كسادا كبيرا، وفي نظره، فإن إغلاق معبر بني أنصار غير منصف، مادامت معابر أخرى، خاصة مع سبتةالمحتلة، مازالت مفتوحة وبدأت تستقطب الزبناء، فأفلست التجارة بالناظور، لأسباب غير مفهومة، حسب قوله. ليست تجارة الأغطية وحدها المتضررة، فالناظور تشتهر بالملابس وعجلات السيارات الإسبانية، وكانت محلات كثيرة تحقق رقم معاملات كبيرا جدا، قبل أن تفلس بدورها، فتوقف التهريب أدى إلى توقف تزويد الأسواق، بل أصبحت المدينة تستهلك عجلات صنعت في المغرب. حاول بعض التجار التكيف مع الوضع الجديد في انتظار نهاية الأزمة التجارية مع مليلية المحتلة، فلجؤوا إلى بيع منتجات صنعت في المغرب، وإيهام الزبناء بأن مصدرها إسبانيا، لكن الحيلة لا تنطلي على الجميع، خاصة مع ارتفاع الأثمنة. يقول تاجر للملابس:"أصبحت أجلب السلع من البيضاء، وأبيعها، بعد إضافة ثمن النقل المرتفع بسبب طول المسافة، مما يكبدني خسائر مالية كبيرة". يتجه اقتصاد الناظور نحو الأسوأ، إذ تحدثت التقارير عن كساد كبير يشمل جميع القطاعات، وتراجع النشاط التجاري بنسبة 40 في المائة مع بداية السنة الحالية (قبل إغلاق معبر بني أنصار)، تسبب في خسائر كبيرة، قبل أن تنزل الصاعقة بإغلاق المعبر الحدودي، رغم استمرار المشاكل نفسها، ومنها أعباء الضرائب، وضعف الاستثمار بالمنطقة، ونفور كبار أثرياء المدينة من ضخ أموالهم في اقتصادها، والنتيجة "موت سريري" لمدينة يعاني شبابها بطالة قاتلة. لا يمانع التجار في إغلاق المعابر مع مليلية المحتلة، لكنهم يشترطون إيجاد بدائل وحلول لمشاكلهم، فالمدينة كانت تنتعش بالتهريب، ومنعه فجأة يتسبب في "موتها"، خاصة أنها تفتقد لقطاعات صناعية وخدماتية قادرة على سد الخصاص. في كورنيش بحيرة "مارشيكا" الجميل تخرج الأسر لاستنشاق هواء والترويح عن النفس، لكن ملامح أغلبهم حزينة، تخفي ألما ومعاناة في توفير لقمة العيش، حسب لقاءات مع عدد من السكان، إذ اختفت كل مظاهر الأمل في تحسين ظروف حياة الأسر الفقيرة أو الفئات المتوسطة، وما إن تقترب عقارب الساعة من السابعة مساء، حتى يخلد سكان المدينة إلى النوم، فتغلق كل أبواب المحلات التجارية والمقاهي أبوابها، علهم يحلمون بمستقبل زاهر أو يستيقظون فرحين بعودة الحياة إلى مدينتهم. مهن شاقة ومواجهات واقتصاد يئن، وأحلام كثيرة وحكايات المهاجرين السريين من دول جنوب الصحراء… إنها يوميات "الناظوريين" الذين يواجهون المستقبل بأمل في جعل مدينتهم جميلة، توفر لهم فرصا للشغل وتنقذهم من البطالة ومهن مهينة. يستفز الناظوريين اختزال مدينتهم في التهريب، فالتضاريس الجغرافية للإقليم تجعله أحد أجمل المناطق بالمغرب، إذ تعانقه الجبال من كل الجهات، وشواطئه ساحرة، وبحيرة "مارتشيكا" جعلت منه فردوسا، خاصة بعد انطلاق تهيئتها، وهي كلها عوامل تجعله قطبا اقتصاديا، خاصة على الصعيد السياحي، إذا ما توفرت الرغبة السياسية، حسب الكثيرين. بني أنصار… "القلعة المهجورة" طالما افتخر سكان بني أنصار بمدينتهم، فموقعها الجغرافي جعلها نقطة جذب للكثيرين، فهي تقع في الشمال الشرقي للمغرب، تحدها شمالا مليلية المحتلة، وغربا جبل "غوروغو" وجماعة فرخانة، وشرقا بحيرة "مارتشيكا"، وجنوباالناظور، ويفوق عدد سكانها 40 ألف نسمة، لكنهم يتزايدون بأرقام كبيرة، نتيجة استقبالها المهاجرين السريين من دول جنوب الصحراء الراغبين في الوصول إلى مليلية المحتلة أو ممتهني التهريب المعيشي. ما يميز بني أنصار ميناؤها، وهو من أبرز مداخيل المدينة، إذ يحتوي على أرصفة لبواخر نقل المسافرين، وأخرى لبواخر صيد الأسماك، وثالثة لنقل السلع للتصدير والاستيراد، ومرافق مخصصة للتجارة الحرة (محطة القطارات ومحطات نقل السلع)، إضافة إلى أن المدينة بها المعبر الحدودي بني أنصار، ومعبر آخر يبعد عنها بكيلومترات قليلة ويدعى "الباب الصيني". وقرر المغرب، خلال الأشهر الأخيرة، وضع نهاية للتهريب المعيشي في بني أنصار، لأسباب اقتصادية، كما روج المسؤولون، وسرعان، كما تحكي، مصادر الموقع، ما انتعشت الحركة التجارية بالميناء، الذي يعيش "أزهى" فتراته التجارية، إلا أنه بالمقابل ضيق الخناق على الحركة التجارية بالمدينة والمنطقة بأكملها. في كل صباح تنطلق الأجهزة الأمنية والجمارك في تطبيق قرار منع التهريب، فأفراد من القوات المساعدة، كما عاين الموقع، يتدخلون من أجل طرد باعة جائلين يعرضون سلعا مهربة، أو يصادرون أجهزة إلكترونية من السيارات، وسيارات الجمارك تجوب محيط الحدود مع المدينةالمحتلة، في حين لا تغادر فرق أمنية راجلة كل شوارع بني أنصار، خاصة أن المدينة تشهد توافد عشرات المهاجرين من دول جنوب الصحراء الحالمين بالعبور إلى الضفة الأخرى. تبدو المحلات التجارية ببني أنصار، المتخصصة في التهريب، مغلقة، واقتصر نشاط بعض المفتوحة أبوابها على بيع ما تبقى من مخزون السلع، خاصة الملابس. ويقول "حمال"، فضل الجلوس في مقهى قريب من المعبر الحدودي، إن ممتهني التهريب المعيشي يعيشون بطالة، لكنه يؤكد أن الضرر الأكبر لحق مليلية المحتلة، إذ تكبد اقتصادها خسائر كبيرة، تجاوزت 60 في المائة من مداخيلها الضريبية. الإفلاس تحكي مصادر مطلعة عما أسمته ب"الزلزال" الاقتصادي في مليلية المحتلة، بعدما كانت تعيش، إلى وقت قريب، رواجا كبيرا، فقطاع التجارة أصيب بالكساد، ما دفع بالتجار إلى الاستغاثة بالسلطات الإسبانية المركزية قصد التدخل لإيجاد حل عاجل ينقذ المدينة من الإفلاس، فالمستودعات والمحلات التجارية الكبرى أفلست، ما أدى إلى نقص كبير في السيولة المالية في وكالات البنوك، وغادر مستثمرون المدينةالمحتلة، وشبهتها ب"مدينة للأشباح"، ولولا المساعدات المالية لاضطر أغلب الإسبان لمغادرتها. بالمقابل، لاحظ سكان الناظور، أن منع التهريب دفع الإسبان إلى اللجوء، في نهاية كل أسبوع، إلى الناظور للتسوق من المحلات التجارية الكبرى، في حين لا يطالب ناظوريون، إلا باستغلال الفرصة، وفتح مصانع بالمنطقة من أجل منح فرص تشغيل للشباب وتصدير السلع المغربية إلى مليلية المحتلة. ولم يستسغ إسبان مليلية المحتلة لجوء المغرب إلى منع التهريب بشكل انفرادي، فتعددت ردود أفعالهم، ولجأت مندوبة الحكومة المركزية بالمدينة، إلى تمديد فترة اشتغال معبر فرخانة الحدودي، بدعوى الاستجابة لطلب جمعية التجار ورجال الأعمال، إذ أصبح يفتتح أبوابه إلى غاية العاشرة ليلا في وجه جميع الوافدين وعلى وجه الخصوص رجال الأعمال وممتهني التجارة. "الباب الصيني" وفرخانة… أمل "الحمالة" في بني أنصار والمناطق المجاورة لها معبران مازالا يفتحان أبوابهما للمهربين الصغار، ويلعبان دورا كبيرا في ضمان دخل آلاف الأسر التي تعيش ظروفا اجتماعية صعبة دفعتها لامتهان هذا العمل. وتتنافس النساء والشباب في الحصول على فرصة ولوج المعبرين، ويتحول التدافع والاكتظاظ إلى مواجهات مع الأمن في مشهد صادم أحيانا. وتقدر الإحصائيات المحلية عدد ممتهنات التهريب المعيشي بأربعة آلاف امرأة يقتصر دورهن على نقل البضائع التي يقتنيها المهرب من مليلية إلى خارج ترابها مقابل أجر لا يتعدى مائة درهم عن كل حمولة. ورغم وعود الإسبان بحفظ كرامة النساء الممتهنات للتهريب المعيشي، إلا أن معاناتهن تتواصل، فالإسبان اتخذوا إجراءات لم تجد لها صدى لدى المهربين، منها خفض عدد الحمالين والمركبات التي تدخل يوميا إلى المدينةالمحتلة لنقل البضائع، وإنشاء مركز لتوزيع المنتجات في "الباب الصيني"، وقالوا إن هذه المرافق ستكون مفتوحة للتجار، وسيشيد موقف للسيارات في الداخل، لتخفيض ضغط المرور بالجهة المقابلة. وسينجز هذا المشروع باستثمار يتراوح بين ثلاثة وأربعة ملايين أورو، ستقدمه الدولة. يحكي بعض المهربين عن مآس داخل المعابر الحدودية، أدت في بعض الأحيان إلى حالات الوفيات، فنساء التهريب من مليلية ما زلن يعتمدن على ظهورهن لحمل السلع، علما أن الجمعيات الحقوقية بالمنطقة تطالب بتوسيع المعابر، فمعبر الحي الصيني مثلا لا يستوعب كل الذين يحجون إليه كل صباح، ما يفسر وجود طوابير الانتظار الطويلة، علما أن توسيع المعبر سيفيد النساء ويقلص حوادث التدافع.