تراجعت الحسابات الزمنية إلى الوراء، خلال الجلسات الأخيرة لمحاكمة أحداث الحسيمة، وقد أصبحت مسلسلا مطولا يضاهي المسلسلات التلفزيونية في طولها، حين قلب وكيل الملك في محكمة الدارالبيضاء "علي الوردي" المائدة المسطرية على هياكل المحكمة، وقدم بيانات مذهلة عن حقيقة الأحداث التي عرفتها الحسيمة، وحراك الزفزافي الذي تبين أنه كان يتعلق حسب وكيل الملك بالتخطيط لتنفيذ عناصر مخطط مرسوم من طرف معارضين مستقرين في أوروبا، ذكر من بينهم اسم "إبراهيم البوعزاني" المستقر في هولندا ((الذي التقطت له(...) سبع مكالمات تلفونية، من بينها مكالمات مع الصحفي المهداوي حميد، أكد فيها أن الأسلحة قد تم شراؤها وتعبئتها في صناديق(...) في انتظار تسريبها إلى شمال المغرب عبر إسبانيا، مكذبا أطروحة الدبابات التي سبق الحديث عنها، ومؤكدا جزئية الأسلحة في الصناديق)). ليظهر بالتأكيد أن جماهير الزفزافي، التي كانت تتظاهر في أطراف الحسيمة وإيمزورن، إنما كانت تنفذ وربما بدون علمها، مخططا مرسوما في الخارج، خارج إرادتها، فيه أطراف مغربية نافذة، حيث عادت النيابة مؤخرا للاستماع إلى المحامي إسحاق شارية، الذي أكد بدوره للمحكمة اتهاماته في حق قطب حزب الأصالة، إلياس العماري، بعد أن كانت الجهود قد صرفت لتجاوز هذا الاتهام(...) الذي يستنده أيضا المحامي زيان، ويدعمه من هولندا، علنا، النائب البرلماني السابق، القريب العائلي لإلياس العماري، شعو، الذي لم تعتقله السلطات الهولندية رغم طلب القضاء المغربي، لأنه يتمتع في هولندا بحقه في الإعلان عن موقف سياسي. وهكذا اتخذت محاكمة حراك الحسيمة، توجها جديدا، بعيدا عن حق جماهير الريف في المطالبة بحقوقها الاجتماعية المشروعة، لتبقى الحقوق الاجتماعية المشروعة، حقا لا ينازعها فيه أحد، ولكن يبقى المخطط المرسوم لتنفيذ ما أعلنه وكيل الملك، والذي كان يستهدف إقامة جمهورية الريف(...) هو الملف المطروح على المحكمة، في تناقض مطلق مع ما كان يقال، وما أصبح يقال بناء على الملف الأمني للبحث التمهيدي، إثر ما تبين أنه تعاطف، ودعم قوي من قبل مجموعة من المواطنين المغاربة المقيمين في هولندا وبلجيكا، وأطراف أخرى من أوروبا، ولهم إمكانيات مالية متوفرة. ليعود بنا الملف، إلى المنطلق التاريخي المتناسق مع الواقع الجغرافي المغربي، وقربه من أوروبا شمالا، والجزائر شرقا، والحتمية السياسية المنطلقة من الظروف الإعلامية المتناسقة، مع المخططات الأجنبية لزعزعة مغرب يشكو من فوضى عمت أطرافه(...) وغمرت شماله، بظاهرة الحشيش، وتجارة المخدرات التي تدر الملايير على دعاة الانفصال، الذين أصبحوا يرون في جزء من المغرب فرصة لإقامة كيان انفصالي تغذيه الأطماع الإسبانية، التي كانت دائما، ترى في شمال المغرب، منطقة جاهزة لتنفيذ هذا المخطط، ولماذا لا، وقد قرأنا في الأسبوع الماضي، عدة صحف إسبانية شحذت سكاكينها(...) للتعليق بدل الأقلام(...) على القرار الملكي بتأخير زيارة ملك إسبانيا للمغرب، خصوصا بعد أن كتبت مائتا شخصية إسبانية احتجاجها على تأخير هذه الزيارة التي حضروا لها، وحجزوا من أجلها مقاعدهم في الطائرات، وغرفهم في الفنادق، ودفعوها من جيوبهم كما كتبت جريدة "دياريو دوشبيلية" (9 يناير 2018). بدعم وسند من المواقع الإعلامية الجزائرية، وخاصة موقع "ط.س.أ. ألجيري" الذي عنون مقاله: ((الملك محمد السادس يخلف وعده في حق ضيفه الإسباني)). حقا إن المغرب سبق أن ارتكب خطئا فادحا عندما لم تتصرف حكومته بالجدية المفروضة، تجاه مشاكل الشمال الذي كان مفروضا أن يتحول إلى جنة نتيجة موقعه الجغرافي المتميز، على بعد أقل من عشر كيلومترات من أوروبا. كما ارتكب المغرب أخطاء فادحة أخرى، وهو يتجاهل ماضي هذه المنطقة، التي كانت منذ أيام الدولة السعدية، مباشرة قبل الدولة العلوية، ضحية التواجد التركي الذي كان يحتل الجزائر، والإسباني والبرتغالي، الذي كان يخطط للانتقام من المغرب، لمعاقبته على الماضي الأندلسي(...). فهل نسي المغرب، وفعلا نسي، أن الملك السعدي أحمد الذهبي في سنة 1583 ميلادية توجه بجيوشه لفرض دولته في منطقة الجنوب، في توات، وتمبكتو، الشيء الذي ضايق المخططات التركية في الجزائر ((فدفعوا أحد إخوة الملك السعدي، عبد الناصر لإعلان الثورة، ففر إلى إسبانيا لينصحه الإسبانيون باللجوء إلى مليلية، بمنطقة الريف(...))) (كتاب الأتراك العثمانيون. عزيز سامح). وكانت هذه التطورات، مواكبة، للتدخل البرتغالي في الشمال حتى وصل الملك البرتغالي إلى مدينة أصيلا في 1578، حيث وقعت معركة وادي المخازن التي مات فيها ثلاث ملوك، بعد أن سميت معركة القصر الكبير، حيث مات فيها الملك البرتغالي "سبستيان"، والملك المغربي عبد المالك، وخليفته محمد المسلوخ، المعركة التي شارك فيها بابا روما، بأربعة آلاف عسكري، كما قال الاستقصا. الاستقصا الذي شبهها بمعركة بدر. كل هذا بسبب شمال المغرب، الذي كان مركزا للنفوذ الإسباني، والبرتغالي، والتركي، إضافة إلى نفوذ الملوك المغاربة السعديين. ولا ننسى أن هذه الحرب أدركت منطقة فجيج، جنوبوجدة ((وكانت فجيج تابعة مرتبطة بالجزائر منذ زمن قديم قبل ن يستولي عليها الملك السعدي عبد المالك، سنة 1584، الذي استرجع فجيج، وقتل المسؤولين الجزائريين الذين كانوا يحكمونها، ليحتج الحاكم التركي للجزائر حسن باشا وليخبره الملك السعدي عبد المالك، بأن نظام اسطنبول هو الذي سمح له باحتلال فجيج)) (الأتراك والعثمانيون. سامح البر). وها نحن في زمن عادت فيه تركيا في عهد "أردوغان" إلى إحياء أمجادها القديمة، وها هي تلعب أدوارا عالمية كبرى في منطقة الشرق الأوسط، وتغزو المغرب اقتصاديا حتى فرض وزير التجارة المغربي مؤخرا ضرائب إضافية لتطويق الغزو التركي التجاري للمغرب. أم نسينا أن الاحتلال الإسباني لشمال المغرب، بعد أن سبق لإسبانيا اقتسام المغرب مع الاحتلال الفرنسي، كان يضاهي في مفاوضات الاستقلال مع الاحتلال الفرنسي، وأن إسبانيا سبق لها أن ألغت عقود الملكية الفردية في الشمال، بعد أن اعتبرته جزءا من ترابها ولازالت تحتل سبتة ومليلية، وهو واقع لازال يطرح مشاكل الملكية الفردية في الشمال إلى الآن، كما أن هذه المنطقة كانت منطلقا لمشاكل الملك محمد الخامس بعد الاستقلال مباشرة، حيث اكتشف هذا الملك أن ضابطا من ضباطه الكبار، الجنرال المذبوح كان يعقد في ذلك الزمان، قبل الصخيرات، اجتماعات سرية مع ضباط من الشمال، عبابو وأمقران، وهو الوضع الذي أدى إلى ما سمي بحرب الريف، وتمرد الريف في 1958، لأن إسبانيا كانت ترفض دائما التنازل عن مصالحها في الشمال، الواقع الذي زادته أخطاء المغرب استفحالا، بتنامي النوايا الثورية عند الريفيين، وهي تبحث عن جذورها في تاريخ ثورة الريف التي قادها الأمير عبد الكريم الخطابي، وإن كانت ثورة لا علاقة لها أصلا بالانفصال، وإنما بالتحرير.