وليد كبير: نظام العسكر غاضب على ولد الغزواني بعدما رفض الانخراط في مخطط لعزل المغرب عن دول الجوار    مجلس الأمن.. بلينكن يشيد بالشراكة مع المغرب في مجال الذكاء الاصطناعي    ألمانيا.. توجيه اتهامات بالقتل للمشتبه به في هجوم سوق عيد الميلاد    خبير أمريكي يحذر من خطورة سماع دقات القلب أثناء وضع الأذن على الوسادة        مقاييس الأمطار بالمغرب في 24 ساعة    تبييض الأموال في مشاريع عقارية جامدة يستنفر الهيئة الوطنية للمعلومات المالية    "اليونيسكو" تستفسر عن تأخر مشروع "جاهزية التسونامي" في الجديدة    حملة توقف 40 شخصا بجهة الشرق    ندوة تسائل تطورات واتجاهات الرواية والنقد الأدبي المعاصر    استيراد اللحوم الحمراء سبب زيارة وفد الاتحاد العام للمقاولات والمهن لإسبانيا    ارتفاع حصيلة ضحايا الحرب في قطاع غزة إلى 45259 قتيلا    رشاوى الكفاءة المهنية تدفع التنسيق النقابي الخماسي بجماعة الرباط إلى المطالبة بفتح تحقيق    القافلة الوطنية رياضة بدون منشطات تحط الرحال بسيدي قاسم    توقعات أحوال الطقس ليوم غد الاثنين    نادي المغرب التطواني يقيل المدرب عزيز العامري من مهامه    العرائش: الأمين العام لحزب الاستقلال في زيارة عزاء لبيت "العتابي" عضو المجلس الوطني للحزب    سويسرا تعتمد استراتيجية جديدة لإفريقيا على قاعدة تعزيز الأمن والديمقراطية    ترامب يهدد باستعادة السيطرة على قناة بنما على خلفية النفوذ الاقتصادي المتنامي للصين    سمية زيوزيو جميلة عارضات الأزياء تشارك ببلجيكا في تنظيم أكبر الحفلات وفي حفل كعارضة أزياء    هجوم ماغدبورغ.. دوافع غامضة لمنفذ العملية بين معاداة الإسلام والاستياء من سياسات الهجرة الألمانية    بيدرو سانشيز: إسبانيا تثمن عاليا جهود جلالة الملك من أجل الاستقرار الإقليمي    تفكيك أطروحة انفصال الصحراء.. المفاهيم القانونية والحقائق السياسية    مجموعة بريد المغرب تصدر طابعا بريديا خاصا بفن الملحون    المجلس الأعلى للدولة في ليبيا ينتقد بيان خارجية حكومة الوحدة ويصفه ب"التدخل غير المبرر"    الأمن في طنجة يواجه خروقات الدراجات النارية بحملات صارمة    الأستاذة لطيفة الكندوز الباحثة في علم التاريخ في ذمة الله    السعودية .. ضبط 20 ألفا و159 مخالفا لأنظمة الإقامة والعمل خلال أسبوع    لأول مرة بالناظور والجهة.. مركز الدكتور وعليت يحدث ثورة علاجية في أورام الغدة الدرقية وأمراض الغدد    إسرائيل تتهم البابا فرنسيس ب"ازدواجية المعايير" على خلفية انتقاده ضرباتها في غزة    المغرب أتلتيك تطوان يتخذ قرارات هامة عقب سلسلة النتائج السلبية    أمسية فنية وتربوية لأبناء الأساتذة تنتصر لجدوى الموسيقى في التعليم    وفاة الممثل محمد الخلفي عن 87 عاما    سابينتو يكشف سبب مغادرة الرجاء    الممثل القدير محمد الخلفي في ذمة الله    الدرك الملكي يضبط كمية من اللحوم الفاسدة الموجهة للاستهلاك بالعرائش    دواء مضاد للوزن الزائد يعالج انقطاع التنفس أثناء النوم    المديرية العامة للضرائب تنشر مذكرة تلخيصية بشأن التدابير الجبائية لقانون المالية 2025    توقيف شخص بالناظور يشتبه ارتباطه بشبكة إجرامية تنشط في ترويج المخدرات والفرار وتغيير معالم حادثة سير    جلسة نقاش: المناظرة الوطنية للجهوية المتقدمة.. الدعوة إلى تعزيز القدرات التمويلية للجهات    توقعات أحوال الطقس ليوم غد الأحد    علوي تقر بعدم انخفاض أثمان المحروقات بالسوق المغربي رغم تراجع سعرها عالميا في 2024    بطولة انجلترا.. الإصابة تبعد البرتغالي دياش عن مانشستر سيتي حوالي 4 أسابيع        دراسة: إدراج الصحة النفسية ضمن السياسات المتعلقة بالتكيف مع تغير المناخ ضرورة ملحة    بريد المغرب يحتفي بفن الملحون    اصطدامات قوية في ختام شطر ذهاب الدوري..    العرض ما قبل الأول للفيلم الطويل "404.01" للمخرج يونس الركاب    جويطي: الرواية تُنقذ الإنسان البسيط من النسيان وتَكشف عن فظاعات الدكتاتوريين    مؤتمر "الترجمة والذكاء الاصطناعي"    كودار ينتقد تمركز القرار بيد الوزارات    أخطاء كنجهلوها..سلامة الأطفال والرضع أثناء نومهم في مقاعد السيارات (فيديو)    "بوحمرون" يخطف طفلة جديدة بشفشاون    للطغيان وجه واحد بين الدولة و المدينة و الإدارة …فهل من معتبر …؟!!! (الجزء الأول)    حماية الحياة في الإسلام تحريم الوأد والإجهاض والقتل بجميع أشكاله    عبادي: المغرب ليس بمنأى عن الكوارث التي تعصف بالأمة    توفيق بوعشرين يكتب.. "رواية جديدة لأحمد التوفيق: المغرب بلد علماني"    توفيق بوعشرين يكتب: "رواية" جديدة لأحمد التوفيق.. المغرب بلد علماني    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



عودة فرنسا إلى مربعها الإفريقي .. إحياء لمشروع قديم
نشر في التجديد يوم 16 - 12 - 2013

الحقيقة أن الربيع العربي، لم يكن منطلقه الأول من بلدة سيدي بوزيد التونسية؛ بل إن زهورَهُ برعمت أول ما برعمت في الجزائر؛ فقد كانت انتفاضة أكتوبر 1988؛ سببا في إعلان الرئيس الجزائري الشاذلي بنجديد رحمه الله عن دستور جديد للبلاد، وعن إلغاء نظام الحزب الواحد وإقرار نظام التعددية؛ لتدخل البلاد في مسلسل دَمَقرطة انتهى إلى أول انتخابات نزيهة وشفافة في كل المنطقة العربية.
ولكن الديمقراطية؛ في صيغتها الغربية عندما طبقت في بلاد المسلمين حملت إلى السلطة التيار الإسلامي الذي اكتسح صناديق الاقتراع؛ مما أرعب المستعمر القديم - الجديد وأذنابه الذين تعهد نخبهم بالعناية والتدريب قبل أن يتركهم وراءه يسْدِنون مصالحه ويرضون منه بالفتات على حساب شعوبهم؛ فأوعز بضرورة إيقاف المسلسل الانتخابي، بانقلاب أبيض أرغم من خلاله قادةُ العسكر؛ الذين يسميهم الجزائريون "جنرالات فرنسا"؛ الرئيس بنجديد على الاستقالة.
وأذكر أن مجلة "ليكسبريس" الباريسية كانت حينها قد أجرت استجوابا مع المفكر الفرنسي "فرانسوا بورغات" قال فيه إنه كان يفضل أن تُترك للإسلاميين فرصة ممارسة الحكم بما أن صناديق الاقتراع هي التي أوصلتهم إلى ذلك؛ رغم أنه يعلم أنهم لا يتوفرون على برنامج حقيقي؛ فقط شعارات حركت الجماهير التواقة لحكم الإسلام لتلتف حولهم؛ أما الانقلاب عليهم فهو استهتار بمبادئ الديمقراطية التي طالما تغنى بها من أوعزوا بهذا الانقلاب ومن نفذوه. ذلك أنه حتى إذا فشل الإسلاميون في تدبير الشأن العام فإن الجزائر كانت ستربح نظاما ديمقراطيا قد يأتي بعد خمس سنوات بمن ينجح في ما فشل فيه غيره. فبادره الصحفي بالقول: "ولكن هذا لا يمنع من القول بأن ما يقوم به الإسلاميون سيئ للغاية"، وهنا أجاب المفكر الفرنسي بقولة يجب أن نستحضرها في ظل ما تشهده جمهورية إفريقيا الوسطى اليوم؛ بعد أن شهدته مالي بالأمس، وكذلك ما تشهده مصر وتونس وغيرها من بلاد المسلمين. قال "فرونسوا بورغات" مجيبا: "نعم، سيئ ولكنه سيء لنا نحن؛ فما الذي يسعى إليه الإسلاميون بالضبط؟ إذا حللنا عمق الأمور؛ فإن الإسلاميين يسعون في الحقيقة إلى استئناف مسلسل تصفية الاستعمار الذي تم إيقافه منذ ما يقارب النصف قرن بأشباه استقلالات".
واليوم يتكرر نفس السيناريو بصيغ أخرى، فالربيع العربي كما انتفاضة 88 في الجزائر انتهى بثورات، انتهت بدورها إلى نفس ما انتهت إليه انتفاضة الجزائر، من دساتير جديدة وانتخابات نزيهة أدت هي الأخرى إلى ما أدت إليه انتخابات الجزائر من فوز للإسلاميين، ووصولهم إلى سدة الحكم عبر صناديق الاقتراع في كل من تونس ومصر والمغرب.
فطن الغرب إلى أنه مهما افتعل موالوه من فوضى؛ لعرقلة عمل الحكومات الإسلامية والدفع إلى ثورات مضادة أو حتى إلى التراجع عن الديمقراطية والعودة إلى سياسات التحكم والضبط؛ فإن عهد النخب التي صنعها على عينه قد ولى وانتهى؛ وأن أي انتخابات نزيهة لن تأتي إلى الحكم إلا بنخب أصيلة منبثقة من الشعوب وتحمل هم هذه الشعوب.
إن التدخل الاستعماري في مالي ليس بعيدا عن نفس المخططات الاستعمارية؛ فهذا التدخل إنما هو إحياء لمشروع صليبي قديم كان قد أفشله الانتصار الماحق للإسلام على الحملة الصليبية التي قادها البرتغاليون في معركة وادي المخازن؛ التي كانت لحظة فاصلة بين الإسلام والتغلغل المسيحي في إفريقيا.
المسلم أخو المسلم لا يسلمه .. مهما كان الخلاف بينهما
وحتى نفهم جيدا معنى أن يكون التدخل الفرنسي هذه المرة تكرارا لمحاولة التدخل البرتغالي في غشت 1578؛ لابد لنا من أن نرجع إلى ذلك العهد؛ بل إلى ما قبل ذلك بقرون؛ عندما كانت الدول الإسلامية رغم اختلافها وتفرقها تحكم نفسها وتتمتع بكامل سيادتها واستقلالها. فبعد أن قهر صلاح الدين الأيوبي جيوش الصليبيين في البر؛ حوصر أسطوله الضعيف في المياه الشرقية للبحر الأبيض المتوسط من طرف الأساطيل الأوروبية الهائلة؛ ففكر في الاستنجاد بملك المغرب يعقوب المنصور الموحدي؛ الذي كان له أسطول بحري هائل؛ ولكن بعض رجاله نبهوه إلى أن يعقوب المنصور قد يرفض طلبه نظرا للخلاف العقدي العميق بينهما؛ فصلاح الدين كان سلفي العقيدة مثل ملوك دولة المرابطين الذين كانت تربطه بهم علاقات وطيدة، واستمر يمد فلولهم الذين استمروا في ألميريا جنوب الأندلس يحاربون الموحدين بالدعم والسلاح؛ قبل أن يستتب الأمر للموحدين، الذين كانوا يختلفون معه سياسيا وعقديا؛ فهم أول من أدخل العقائد الصوفية والطرقية إلى المغرب. غير أن بعض العلماء من حوله نصحوه بأن يبعث إلى يعقوب المنصور طالبا النصرة ويترك لهذا الأخير أن يقبل أو يرفض. فكان رد يعقوب المنصور أن أوقف بناء أكبر مسجد في العالم كان قد شرع في بنائه؛ وهو مسجد حسان الذي لا زالت صومعته إلى الآن من معالم الرباط المعروفة، وحوَّل كل الخشب الذي هيأه للتسقيف حتى يعيد به بناء سفن أخرى تعوض المائة و ثمانين قطعة بحرية التي أرسلها إلى صلاح الدين مع رسالة تقول ما معناه: "لا أستطيع أن أرسل إليك كل أسطولي؛ ولو استطعت لفعلت؛ ولكنني على ثغر في غرب بلاد الإسلام يتربص به الإسبان ومن ورائهم قومهم من الإفرنج؛ ولا ينتظرون إلا فرصة كهاته لينقضوا على بلادنا، ولا أستطيع أن أترك الصليبيين يحيطونك؛ فأنت على ثغر في شرق بلاد الإسلام. وأرسل لك هذه المائة وثمانين قطعة حربية بحرية لعلها تفي بالغرض". (لاحظوا أن كل الدول العربية والإسلامية لا تمتلك اليوم في القرن الواحد والعشرين؛ أي بعد أزيد من ثمانية قرون عن تلك الأحداث؛ مائة وثمانين قطعة بحرية حربية). هذه السفن المائة والثمانون هي التي تمكنت من فك الحصار عن أسطول المسلمين في شرق الأبيض المتوسط ومن محاصرة عكا ثم تحريرها؛ وتحرير عكا مهد الطريق سالكة إلى القدس؛ قال ابن خلدون: "إن الخليفة الموحدي أسف أول الأمر لعدم تمكنه من تلبية رغبة صلاح الدين. إلا أنه استطرد بأن يعقوب المنصور أرسل إليه بعد ذلك أسطولا من مائة و ثمانين مركبا كان كافيا لمنع الصليبيين من الاقتراب من سوريا كما تمكن من تحرير عكا". ولعل تردد يعقوب المنصور في البداية كان مرده إلى أنه كان يستعد لمعركة الأرك بالأندلس.
حكمة عبد الملك السعدي التي فوتت على الصليبيين محاصرة الإسلام في شمال إفريقيا
وبعد ذلك بأربعة قرون، بعد أن طرد السعديون جيوش العثمانيين الذين كانوا قد توغلوا داخل المغرب في عهد الوطاسيين؛ أرسل السلطان سليمان القانوني إلى السلطان السعدي محمد الشيخ؛ يطلب منه أن يجعل خطباء الجمعة يدعون له في المساجد وأن يسك النقود باسم الدولة العثمانية وصورة السلطان سليمان؛ على أن يتركه يستقل بحكم المغرب؛ ولكن تحت السيادة ولو رمزيا للدولة العثمانية. جاء في كتاب "الاستقصا في تاريخ المغرب الأقصى" لأحمد الناصري: « قرأ السلطان أبو عبد الله محمد الشيخ كتاب السلطان سليمان ووجد فيه أنه يدعو له على منابر المغرب ويكتب اسمه على سكته كما كان بنو وطاس. حمى أنفه وأبرق وأرعد وأحضر الرسول وأزعجه فطلب منه الجواب، فقال: «لا جواب لك عندي حتى أكون بمصر إن شاء الله وحينئذ أكتب لسلطان قوارب الصيادين». فخرج الرسول من عنده مذعورا يلتفت وراءه إلى أن وصل إلى سلطانه». فهو لم يخطر على باله أن هناك في العالم من يجرأ على مثل هذا الرد على السلطان سليمان، الذي كانت ملوك العالم ترتعد فرائصهم لمجرد ذكر اسمه. وكان محمد الشيخ ينوي طرد سليمان من بلاد العرب جميعها بما فيها مصر؛ بل إنه كان يعتقد أنه أولى منه بخلافة المسلمين لأنه من قريش وسليمان تركي أعجمي. وبعد أن عاد الرسول إلى سليمان وأبلغه برد محمد الشيخ؛ لم يستسغ السلطان العثماني هذا الرد والجواب، فاجتمع بمستشاريه ووزرائه يستشيرهم في هذا الأمر. وقرر أن يهيئ العمارة والعسكر لكي يغزو المغرب، غير أنهم لم يحبذوا هذه الفكرة؛ ربما لأن في الأمر خطورة وصعوبة. فكما قالوا له إنها مَهْلَكة؛ فليست تمر سفينة من المضيق بين طنجة والأندلس، فرنسية كانت أو إسبانية أو برتغالية؛ إلا بإذن من المغاربة؛ غير أنهم اقترحوا عليه فكرة بسيطة: أن يتم اغتيال السلطان السعدي، وهي الفكرة التي استحسنها السلطان سليمان العثماني، فكلفوا جماعة من الأتراك للقيام بهذه المهمة.
ورد في كتب الاستقصا أن «هؤلاء الأتراك خرجوا من الجزائر إلى مراكش مظهرين أنهم فروا من سلطانهم ورغبوا في خدمة الشيخ والاستيجار به، ثم إن الحاجب"صالحا الكاهية" - وهو تركي استمر في خدمة الدولة المغربية بعد خروج جند سليمان إلى الجزائر، وقيام دولة السعديين في المغرب- دخل على السلطان أبي عبد الله محمد الشيخ وقال: يا مولاي إن جماعة من أعيان جند الجزائر سمعوا بمقامنا عندك ومنزلتنا منك فرغبوا في جوارك والتشرف بخدمتك، وليس فوقهم من جند الجزائر أحد، وهم إن شاء الله السبب في تملكها. فأمره بإدخالهم عليه ولما مثلوا بين يديه رأى وجوها حسانا وأجساما عظاما فأكبرهم، ثم ترجم له "صالح الكاهية" كلامهم فأفرغه في قالب المحبة والنصح والاجتهاد في الطاعة والخدمة حتى خيل إلى محمد الشيخ أنه قد حصل على ملك الجزائر؛ فأمره بإكرامهم وأن يعطيهم الخيل والسلاح». ولما اطمأن السلطان السعدي إلى هؤلاء الأتراك الذين أكرم وفادتهم، استغلوا فرصة قيامه بإحدى الحركات إلى الجنوب المغربي؛ فقاموا بقتله. قال الناصري في الاستقصا: «واستمر الحال إلى أن أمكنتهم فيه الفرصة وهو في بعض حركاته بجبل "درن" بموضع يقال له "آكلكال" بظاهر تارودانت" فولجوا عليه خباءه ليلا على حين غفلة من العسس فضربوا عنقه بشاقور(ساطور) ضربة أبانوا بها رأسه واحتملوه في مخلاة ملؤوها نخالة وملحا وخاضوا به أحشاء الظلماء. ولما وصل رأس السلطان أبي عبد الله محمد الشيخ السعدي إلى السلطان العثماني سليمان الذي كان في إقامته بالقسطنطينة، أمر بجعله في شبكة نحاس وتعليقه على باب القلعة، وظل هناك إلى أن قدم ابنه عبد الملك المعتصم وحفيده أحمد المنصور على السلطان سليم بن سليمان يطلبان مساندتهما في مواجهة البرتغاليين والملك المخلوع المتوكل؛ وهي معركة وادي المخازن؛ وطلبا منه أن يعطيهما رأس أبيهما لدفنه في المغرب».
المعركة التي منعت الصليبيين من غزو إفريقيا
ومن حسن حظ سليمان، وكذلك من حسن حظ الإسلام؛ أن ابن محمد الشيخ عبد الملك، وابن أخيه أحمد المنصور كانا أعقل منه؛ فعوض الزحف شرقا لمحاربة العثمانيين، زحفوا جنوبا بعد معركة وادي المخازن، التي تسمى كذلك معركة الملوك الثلاثة؛ لأنها مات فيها ثلاثة ملوك، هم عبد الملك السعدي، وعمه الخائن المتوكل الذي استنجد بالبرتغاليين؛ الذين كانوا ينوون تنصيبه ملكا على المغرب تحت سيادتهم، و"سيباستيان" ملك البرتغال. وهي المعركة التي كانت حدا فاصلا بين الإسلام والمسيحية في إفريقيا، إذ أن السعديين بعد أن حصنوا حدود المغرب شمالا مع إسبانيا والبرتغال؛ انطلقوا لتحصين ما انتشر من دعوة الإسلام في إفريقيا. فالمخطط، كان أن يبادر البرتغاليون لاحتلال المغرب بعد طرد المسلمين من الأندلس؛ ثم ينضم إليهم الإسبان وغيرهم من الصليبيين؛ بإيعاز من الفاتكان، للزحف جنوبا إلى إفريقيا لمحاصرة كل المسلمين من المحيط الأطلسي إلى البحر الأحمر من جهة الجنوب ومن جهة الشمال؛ للقضاء على دولة الإسلام نهائيا.
ولقد كان في تخلي السعديين عن بلاد الشرق الإسلامي للعثمانيين واتجاههم جنوبا؛ الفضل في أن أغلب دول إفريقيا الغربية اليوم هي مسلمة. فبعد أن كان الموحدون يحكمون من الأندلس شمالا إلى موريتانيا جنوبا ومن المحيط الأطلسي غربا إلى الحدود مع مصر شرقا؛ أصبح السعديون يحكمون من البحر الأبيض المتوسط شمالا إلى نهر السنغال جنوبا و نهر النيجر شرقا. وبفضلهم تقوى وجود الإسلام إلى غرب إفريقيا. ولنا أن نلاحظ أن عناية الله تعالى وحكمته شاءت دائما أن تبقى دولة الإسلام قوية ما دام المسلمون متشبثين بدينهم؛ فعندما أخذ الضعف والوهن يدبان في أوصال الخلافة العباسية في المشرق قامت دولة المرابطين وبعدها دولة الموحدين في المغرب، وفي نفس الفترة التي سقطت فيها الأندلس في المغرب قامت الخلافة العثمانية القوية في المشرق لتحافظ على وحدة المسلمين.
ما أشبه اليوم بالبارحة
هذه النبذة التاريخية كان لابد منها لنحاول استكناه حقيقة ما يجري اليوم في مالي، وخصوصا في "تومبوكتو" التي استعملها السعديون مركزا ومنطلقا لنشر الإسلام في إفريقا. فصحيح أنه إذا كان الهدف المعلن هو إنقاذ مالي من التفكك، وإعادة تمكينها من وحدتها الترابية التي أزرى بها انفصاليو الشمال؛ فإن الهدف غير المعلن هو الاستيلاء على ما تحت الأرض من مناجم؛ وخصوصا يورانيوم النيجر ومالي، غير أن الهدف الخفي الآخر هو إحياء المشروع القديم. وإلا فكيف يمكن تفسير أن متزعم انقلاب مارس 2012، الذي أطاح بالرئيس المالي المنتخب آمادو تومانى تورى؛ المدعو الجنرال صانوجو؛ والذي دفع البلاد إلى حالة من الفوضى مكنت من تقسيم البلاد إلى شمال يحكمه الانفصاليون وجنوب يحتاج إلى تدخل أجنبي لتمكينه من عدم السقوط هو الآخر في قبضة الجماعات المسلحة؛ هذا الجنرال الذي قاد الانقلاب وتسبب في الفوضى التي عمت البلاد؛ والتي استفاد منها المستعمرون القدامى للعودة؛ تم تمكينه بعد إبطال الانقلاب؛ من سلطات تفوق بكثير سلطات الرئيس، بل هو الذي؛ وبعد أن أصبح مواطنا عاديا قام باعتقال رئيس الحكومة أياما قليلة قبل التدخل العسكري الفرنسي وعين رئيس حكومة بدلا عنه؛ وظل يتصرف كحاكم حقيقي للبلاد، ثم بعد أن استوفى أغراضه، تم أخيرا اعتقاله في نونبر 2013 بتهم الاختطاف و التعذيب والتورط في عمليات اختفاء قسري وقتل العديد من الجنود؛ ألم تكن هذه التهم قائمة ضده منذ ذلك الحين؛ أم أن الحاجة إليه وإلى الطغمة الموالية له كانت لا تزال؟
إننا في الحقيقة أمام عودة لفرنسا إلى مربعها الإفريقي الذي كانت قد تخلت عنه منذ أزيد من عشرين سنة؛ عندما اتخذ رئيس حكومة التعايش الثانية "إيدوارد بالادور" في عهد رئاسة فرنسوا ميتران قرار التخلي عن إفريقيا التي اعتبرها عبأً من الأفضل لفرنسا أن تتخفف من تبعاته؛ لأنه كان يرى أن القارة السمراء ميئوس من أن يكون لها أي أمل في التقدم يوما؛ بعد أن استنزفت الدول الاستعمارية خيراتها؛ بل اعتبر نفسه في غاية السعادة إذ «يغسل يديه نهائيا من إفريقيا جنوب الصحراء»، وأن يتركها للبنك الدولي وصندوق النقد الدولي؛ وهو نفس الحكم الذي أصدره في حقها الوزير الأول الاشتراكي "ليونيل جوسبان" الذي واصل في نفس الاتجاه وألغى من حكومته وزارة التعاون. وهكذا ففرنسا بيمينها ويسارها بعد إفقار القارة الأغنى في العالم من حيث ما تختزنه تحت أرضها، قررت التخلي عنها عندما اعتبرت أن الفرص التي تمنحها أسواقها للمصدرين الفرنسيين أصبحت ضئيلة وأن ما قد تستفيده فرنسا من فوائد على المستوى الدبلوماسي من إفريقيا جنوب الصحراء ليست ذات كبير جدوى. بل إن فرنسا، وأوروبا عموما أغلقت جميع المنافذ إليها في وجه الأفارقة؛ أُطرا عليا وطلبة وطالبي عمل على السواء، وشددت في شروط قبول تأشيرات الدخول التي أصبحت القاعدة فيها هي الرفض والقبول استثناء. وهكذا تفننت وسائل الإعلام الغربية طيلة العقدين الأخيرين في تقديم مراكب المهاجرين السريين وجثث ركابها كفرجة يومية لمشاهديها. وبما أن الطبيعة تكره الفراغ فإن هذا الفراغ الذي تركته أوروبا قد ملأته دول أخرى صاعدة؛ خصوصا الصين التي ضاعفت حصتها من الأسواق الإفريقية خلال العشرين سنة الأخيرة من 2% إلى 16%، وكذلك البرازيل والهند وتركيا وكوريا الجنوبية وماليزيا. هذه الاستثمارات الضخمة لرؤوس أموال هذه الدول الصاعدة مكنت العديد من دول إفريقيا من تنمية قدراتها؛ خصوصا على مستوى البنيات التحتية التي كانت من قبل تعيق التحرك السهل؛ فتحولت من قارة ميئوس منها إلى فضاء استثماري مغرٍ. وعملا بقولة الجنرال دوغول:"ليس لدولة ما أصدقاء؛ لها فقط مصالح" (un état n'a pas d'amis, seulement des intérêt)؛ ها هم نفس أولائك الذين تخلوا من قبل عن إفريقيا؛ بعد أن نهبوا خيراتها، واطمأنوا على استمرار تدفق ما لا يزال ثاويا تحت أرضها إلى بنوكهم؛ مع إحكام إقفال المنافذ إلى شمال الأبيض المتوسط أمام البشر؛ يعودون من جديد؛ وهذه المرة بمشروع استعماري؛ بل وصليبي قديم.
فبعد أن تم فصل جنوب السودان عن شماله وإقامة كيان حليف ل (إسرائيل) موالٍ للغرب في جنوب مصر والسودان؛ بقيت مالي قبل الانقلاب تشكل شرخا في الحزام الذي نسج على مهل ليفصل شمال إفريقيا المسلم عن عمقه الإفريقي جنوب الصحراء.
فدول الاستعمار الجديد؛ كما أشار إلى ذلك "فرونسوا بورغات" في استجوابه مع مجلة "ليكسبريس" تعرف أن زمن التحكم عن طريق تسليط نخب متغربة على رقاب الشعوب العربية والإسلامية قد ولى. وأننا اليوم ومستقبلا في زمن "الشعب يريد"، والشعوب تريد أن تُحكم بالإسلام. وما دامت أي انتخابات قادمة لن تحمل إلى السلطة إلا الإسلاميين؛ أو إلا أحزابا وطنية تأسست من داخل المجتمع، وتهدف فقط إلى خدمة مجتمعاتها وأوطانها؛ وليس ضمان استمرار تحكم المستعمرين القدامى من وراء ستار. فالواجب محاصرتهم من كل جانب ومنعهم من تحقيق أي تنمية تغني عن الغرب و تضمن الاستقلال الحقيقي عنه وليس أشباه استقلالات pseudo-indépendances؛ كما وصفها "فرانسوا بورغات".


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.