في القرن السادس عشر، كانت الامبراطورية العثمانية المترامية تريد ضم افريقيا الشمالية، وبالفعل سقطت تونس وليبيا والجزائر تحت نفوذها، وبالرغم من القرب الجغرافي ومحاولات الاحتلال المتعددة، ظل المغرب مستعصيا عليها. كيف استطاع النجاح في هذا الإنجاز؟ ستعيد تحركات قرصان دموي رسم ملامح المغرب الكبير في القرن 16، ذلك يبدو مستحيلا، ولكن رغم ذلك، فإن شخصا يدعى بابا عروج الذي استطاع إخراج المستعمر الاسباني من الجزائر سنة 1516، وبالتالي سيغير بشكل غير مباشر مصير المغرب. القرصان الذي جعل من ميناء الجزائر قاعدة دائمة له، أعلن نفسه سلطانا على المدينة قبل أن يضع فتوحاته رهن اشارة السلطان العثماني سليم الأول، وهكذا ستكون المدينة التي تحولت تحت سلطة اسطمبول، أول لبنة لجزائر موحدة من الشرق إلى الغرب وأول أرض تلتحق بالامبراطورية العثمانية، وتحولت الجزائر بسرعة إلى محمية وأصبحت منطلقا جديدا للقوة العثمانية، وستلعب المدينة دورا محوريا في توسع السلطة التركية في تونس وليبيا وستحاول عدة مرات ارساء نفس السلطة إن لم يكن على كل المغرب، على الأقل على عاصمته التاريخية مدينة فاس. لكن خلافا لجيرانه في شمال افريقيا سيعرف المغرب مصيرا مختلفا، وإذا كان الجزء الشمالي من البلاد يبدو ماضيا على خطى الجزائر التركية، فإن الجزء الجنوبي من المغرب سيصنع الفارق. نشأت مملكة جديدة هي مملكة السعديين القادمة من قلب المناطق الجنوبية وبنوا دولتهم على شرعية جديدة ترتكز على الجهاد ضد الغزاة البرتغاليين الذين دخلوا موانئ منطقة سوس مثل اكادير. وتعززت هذه الشرعية بانتماء شريفي، كشرط ضروري آنذاك للتطلع إلى السلطة. موقع سوس وراء الأطلس الكبير، وضع الكيان السياسي الجديد في مأمن من العثمانيين الذين كانوا وقتها منشغلين باستكمال إنهاء سيطرتهم في الجزائر، وكذلك القوى المسيحية,خاصة اسبانيا .ووراء هذا الحاجز الطبيعي (الأطلس الكبير) أكدت الدولة الناشئة وجودها وعملت على بناء كيانها دام حوالي 4 عقود، منذ نداء سكان سوس سنة 1510، لمؤسس الدولة القائم بأمر الله لقيادة مقاومتهم في مواجهة البرتغاليينباكادير، إلى دخولهم الأول لفاس سنة 1549. بين هذين التاريخين وسع ابناء القائم, مجتمعين في البداية ثم بشكل منفصل مجال سيطرة السعديين في جنوب المغرب، استولى أحمد الأعرج على مراكش سنة 1524 وجعل منها قاعدة امارته, بينما عزز أخوه محمد الشيخ المهدي سلطته على تارودانت وعمل على استعادة ميناء اكادير الذي استولى عليه في النهاية سنة 1541. في هذه المرحلة كان الصراع بين الأخوين وشيكا، أحمد كان يخشى من القوة المتنامية لأخيه الأصغر، عمل على التقارب مع الأعداء الوطاسيين حتى يحمي ويحافظ على مكاسبه، لكن دون جدوى... بسرعة ازاحه محمد الشيخ واستولى على السلطة وبالتالي لم يعد هناك أي عائق يعرقل زحفه نحو فاس. وصلت قوات محمد الشيخ مشارف أسوار فاس وأصبحوا يهددون العاصمة. وبذلك أصبحوا يهددون السلطة العثمانية الحامية لآخر الوطاسيين، لكن القائد السعدي لم يكن من النوع الذي يتراجع أمام التهديد العثماني الذي لم يقدره حق قدره، فرد باحتقار واضح على المبعوثين العثمانيين الذين حاولوا مصالحته مع السلطان الوطاسي، قبيل السيطرة على فاس ولا يخفي طموحه في رفض السيطرة العثمانية على شمال افريقيا من تلمسان حتى القاهرة، أصبحت فاس تحت سيطرة محمد الشيخ وبعد أن طرد أبو حسون آخر الوطاسيين من المدينة. كان أحد قراراته الأولى هو أنه أرسل ابنه الحران على رأس حملة للاستيلاء على تلمسان, اللبنة الأولى في مخططه الواسع لإعادة بناء امبراطورية شمال افريقيا مغايرة للامبراطوريات الشرقية. طموح جميل، لكنه طموح لم يدخل في الحسبان القوة العثمانية الهائلة. ودفعه حماسه إلى استصغار عدوه. لم يكتف الجنود العثمانيون بصد قوات السعديين حتى ملوية، بل إن باشا الجزائر وبموافقة اسطمبول، اعتبر أن الوقت مناسب لإتمام السيطرة العثمانية على مجموع »»أقاليم الغرب»»أي المغرب العربي الكبير، وتحت ذريعة تقديم الدعم والمساندة لأبوحسون الوطاسي انخرط الجنود العثمانيون في احتلال المغرب، وتحت هذه الذريعة ظهرت أول محاولة جدية لاحتلال العثمانيين للمغرب انطلاقا من الشرق في نهاية 1553. وكان دييغودو توريس المبعوث الإسباني مقيما في المغرب إبان تلك الأحداث (ما بين 1546 و1554) ويمكن اعتباره شاهد عيان، ويصف الحملة التركية الهائلة بين تلمسانوفاس والتي كانت تتألف من حوالي 5 آلاف جندي و12 قطعة مدفعية. وفي زحفها السريع بقيادة صليح ريس لدعم قوات أبو حسون وصلت الى ضواحي تازة, حيث تعرضت قوات السعديين لهزيمة أمام تنظيم وانضباط وتسليح العثمانيين. وأصبحت فاس في المتناول، وأعادت القوات العثمانية المنتصرة، الحاكم الوطاسي إلى العرش بينما فشلت محاولات مقاومة السعديين. وحسب أحد المصادر الأساسية حول هذه الحقبة »»المجهول««، بمجرد دخولهم العاصمة فاس لم تستطع القوات التركية مفاوضة إغراء اعتبار هذه الأرض ملكا لهم، وأخذوا يتصرفون كغزاة محتلين وارتكبوا تجاوزات مختلفة في حق السكان، وفوق كل ذلك واصلوا طموحهم في إرساء سلطة تركية كاملة مكان الأمير الوطاسي، موقف اعتبره سكان فاس غير مقبول وتمردوا ضده وطردوا الأتراك خارج فاس. من جانبه تراجع محمد الشيخ المنهزم نحو الجنوب، وظل يراقب الأحداث في فاس، وبمجرد خروج الأتراك، عاد للهجوم، وباصرار كبير، استعاد الملك السعدي فاس بشكل نهائي في خريف 1554 ووضع حدا نهائيا لحكم الوطاسيين، وكان انتصاره أيضا إعلانا لفشل أول حملة عثمانية في المغرب، لكنها لم تكن سوى محاولة أولى... أصبح بإمكان محمد الشيخ أن يعلن نفسه سلطانا على كامل المغرب وسليل عائلات عريقة. ولم يتردد في بدء مسلسل تقارب مع اسبانيا من أجل مواجهة الخطر التركي، وهو ما اعتبره السلطان العثماني سليمان القانوني اهانة حيث عمل على استعمال الحيلة لتحقيق ما عجز عنه بالقوة. ورغم أن المصادر العثمانية لا تذكر شيئا عن ذلك، فإن الوثائق المغربية والأوربية تؤكد أن باشا الجزائر الجديد حسن، ابن خيرالدين، وبتعليمات من اسطمبول، تلقى تعليمات بتصفية الملك السعدي، وهكذا أرسل كومندو من الموالين له لتنفيذ المهمة، وبعد وصولهم إلى فاس، قدم أفراد الكومندو أنفسهم لخليفة السلطان، ابنه عبد الله، كفارين يرغبون في الانضمام وتعزيز صفوف جيش السعديين. اقتنع الأمير الشاب بادعاءاتهم وأوصى بهم لأبيه الذي كان في مراكش يعد لحملة ضد قبائل الأطلس, حيث تم ادماج الأتراك المتمردين في الحرس الشخصي للسلطان. وهو موقع متميز لتنفيذ مخططهم، وذات ليل من خريف 1557. فاجأوا السلطان في خيمته وقتلوه قبل أن يلوذوا بالفرار نحو الجزائر وحملوا معهم رأسه، الموت المفاجئ للسلطان خلف موجة من الفوضى استفاد منها العثمانيون مرة أخرى، انخرط الأتراك في حملة جديدة جوا وبحرا قادتهم مرة أخرى إلى ضواحي فاس في فبراير 1558. وتمكن وريث العرش السعدي عبد الله بن محمد الشيخ من مواجهة هذه الحملة التركية الجديدة,حيث تمكن من هزم قوات حسن بن خير الدين الذي تراجع مهزوما عبر مناطق الريف لبلوغ ميناء باديس الذي كان تحت سيطرة الأتراك ومنه للالتحاق بالجزائر. هذه الهزيمة الجديدة اقنعت الحكم المركزي في اسطمبول وكذا الخليفة في الجزائر بأن الدولة الحاكمة الجديدة في المغرب لن يكون سهلا اخضاعها. واستبدل العثمانيون مؤقتا سياسة السلاح بسياسة أخرى ترجح التفاوض والروابط الثقافية والدينية المشتركة وتركز على ضرورة التعاون بين المسلمين وضرورة تفادي أي خلاف. وبالتالي أصبح من الضروري المرور عبر أفراد العائلة المالكة. لم يعد شبح إقدام العثمانيين على محاولة غزو جديدة هما كبيرا بالنسبة للسلطان مولاي عبدا لله. بل الخطر كان من محيطه المقرب، وخوفا من الخيانة بدأ السلطان حملة تطهيرية. في صفوف أقاربه واستمر في ملاحقة كل المطالبين المحتملين بالعرش. لكن ثلاثة من إخوته وهم عبد المومن وعبد المالك وأحمد أفلتوا من بطشه ولجأوا إلى تلمسان ثم إلى الجزائر، حيث تم استقبالهم بحفاوة، بل تم تعيين عبد المومن والياً على تلمسان، حيث سيتم اغتياله هناك على يد ابن السلطان السعدي محمد المتوكل. من جانبه، خصص عبد المالك سنوات منفاه الثمانية عشر (من 1558 إلى 1576) ليجوب المتوسط بين الجزائر وإسطمبول، حيث تعلم الإسبانية والتركية والايطالية ونسج شبكة من العلاقات، بل شارك في عدة معارك عثمانية كبرى منها معركة ليبانتو (1571) ومعركة حلق الواد (1574) التي فتحت الباب أمام السيطرة العثمانية على تونس. لكن مع ذلك، لم يغير من هدفه الأساسي: ظل يطالب بإلحاح بعرش أبيه معتبراً نفسه الوريث الشرعي، حيث وجد دعماً مهماً من السلطان مراد الثالث سلطان الامبراطورية العثمانية الذي حقق رغبته وأرسل قواته نحو فاس، حيث استطاع عشرات الآلاف من الجنود العثمانيين من هزم محمد المتوكل خليفة السلطان عبد الله. وأمام قوة وحجم القوات التركية، لم يكن أمامه سوى التراجع، خاصة وأن عبد المالك استطاع كسب تأييد الأعيان والفقهاء والصوفيين المغاربة، قبل أن يبدأ حملة استعادة ملكه.. وبقيادة القائد رمضان باشا، أعاد الأتراك عبد الملك إلى فاس مرة أخرى، لكنهم هذه المرة لم يرتكبوا نفس تجاوزات حملتهم الأولى ضد سكان فاس. وحسب كتاب المجهول، فإن عبد الملك استخلص بدوره الدروس من الحملة السابقة. ومنذ عودته إلى فاس، حرص على أداء مصاريف الحملة للأتراك كعرفان لخدماتهم ولم يحتفظ منهم سوى بجزء بسيط لمواجهة المتوكل الذي تراجع إلى مرتفعات الأطلس في منطقة مراكش. وبسرعة، ضمن عبد المالك استقلال مملكته مع حرصه على تقديم إشارات الطاعة لسلطان إسطمبول، من خلال إرسال الهدايا ورسائل التقدير، وفي نفس الوقت، ظل يواصل بعث إشارات المجاملة والتقدير تجاه إسبانيا في أفق تحالف محتمل. وفوق كل شيء حرص على الإبقاء على استقلال تام وواضح تجاه السلطة العثمانية في الجزائر، حيث كانت رسائله وهداياه موجهة مباشرة إلى إسطمبول خلافاً لتونس وليبيا. والبقية معروفة، كان على المتوكل بعد أن ضعف أن يلجأ إلى الريف قبل أن يطلب مساعدة إسبانيا التي لم تستجب لنداءاته، ثم حاول طلب مساعدة البرتغال حيث استجاب لطلبه الملك الشاب دون سيبستيان الملك البرتغالي المتحمس لفكرة المغامرة رغم قلة تجربته. وصلت القوات البرتغالية المدعومة من العديد من القراصنة والمغامرين من جنسيات مختلفة، وصلت إلى ميناء أصيلة لدعم السلطان المتوكل. تعرض الغزاة لهزيمة نكراء على يد جيش عبد المالك، وخلال معركة وادي المخازن (1578) غير بعيد عن القصر الكبير، والتي سميت كذلك معركة الملوك الثلاثة، لأن ثلاثة ملوك قتلوا خلالها (المتوكل، ودون سيبستيان خلال المعركة، وعبد المالك مات بشكل طبيعي، متأثراً بمرض سابق أو ربما تعرض لتسمم، حسب بعض الروايات). وبعد هذا النصر المدوي، لم يكن الفائز الحقيقي سوى أحمد الشقيق الأصغر لعبد المالك، جنى ثمار هذا النصر، وأعلن نفسه أمير المؤمنين المنصور بالله ودشن سياسة حذرة تبتعد تدريجياً تجاه إسطمبول بلغت بعد بضع سنوات مرحلة استقلال تام وجعلت من التواجد السعدي فاعلا رئيسياً لاغنى عنه على الساحة في غرب المتوسط تضاهي القوى الإسبانية والانجليزية. وإذا كانت كل محاولات العثمانيين لغزو المغرب قد فشلت، فإنها شكلت مصدر إلهام على المستوى السياسي والعسكري بالنسبة للمغرب الذي ظل يواجه عدة تحديات. بتصرف عن مجلة »زمان« عدد أبريل 2013