أثار مؤرخ عراقي، خلال مؤتمر دولي حول «البحر الأبيض المتوسط في العهد العثماني»عقد بالرباط سنة 2012، قضية قديمة تتعلق بالوجود العثماني في المغرب ودحض المؤرخ العراقي فاضل بيات، خلال أعمال المؤتمر، الأطروحة التي تقول إن العثمانيين لم يحكموا المغرب في تاريخهم، وإنهم توقفوا عند الحدود الجزائرية المغربية. وأكد بيات، من خلال وثائق تاريخية، أن الأمر على العكس من ذلك، وأن المغرب خضع لحكم الإمبراطورية العثمانية... يطرح تاريخ العلاقات المغربية العثمانية إشكالية مزدوجة فمن جهة، هناك قلة المصادر والتي يوجد غالبها في الأرشيف العثماني، ومن جهة ثانية في نوع المقاربة التي يمكن تبنيها من أجل فهم طبيعة تاريخ هذه العلاقات. إن تاريخ علاقات المغرب مع الدولة العثمانية يكتسي أهمية خاصة، على اعتبار أن المغرب ظل البلد الوحيد من بلدان العالم الإسلامي الذي أفلت من الخضوع للإمبراطورية العثمانية. ولا يمكن فهم طبيعة هذه العلاقات المغربية-العثمانية إلا في ظل نوعية العلاقات التي ربطت بين المسلمين داخل «دار الإسلام»، فالمغرب والدولة العثمانية انتميا إلى المنظومة الدينية والمذهبية نفسها (إسلامية سنية) وهو الأمر الذي يعطي لموضوع العلاقات المغربية العثمانية تميزا جوهريا، عن نوعية العلاقات التي جمعته مع الدول الأوربية. وإذا كان كل من الشرفاء المغاربة والسلاطين العثمانيين قد اكتسبوا حظوة ونفوذا على أساس قيامهما ب»الجهاد ضد الكافر»، فقد حاول كل طرف فرض هيمنته على الطرف الآخر تحت هذا الشعار، لكن الفرق هو أن العثمانيين بفضل المؤهلات الاقتصادية والحربية التي توفروا عليها، دخلوا عالم الإمبراطوريات، إذ استطاعت الدولة العثمانية أن ترقى إلى مستوى توسعي هائل داخل التراب الأوربي. في حين ظل المغرب حبيس مشاكله الداخلية. وبالرغم من ذلك، فقد ظل دائماً يرفض التبعية لهذه الخلافة، وقد ظهر هذا الموقف جلياً، خاصة في فترة حكم كل من: محمد الشيخ السعدي (946 ه/ 1539م و964ه/ 1557م)، الذي اغتاله الأتراك لمعاندته لهم، وكذاك في عهد المنصور السعدي (986 ه/ 1578م و1012ه/ 1603م) الذي حاول إحياء الخلافة الهاشمية على حساب العثمانية، فقد نظر أغلب السلاطين السعديين ومن بعدهم العلويين، لقضية الخلافة من خلال نسبهم القرشي الشريف الذي لا يصح معه أن يخرج منصب إمارة المؤمنين من بين أيديهم. كما كان من نتائج تفوق الإيبيريين احتلالهم للسواحل الأطلسية والمتوسطية في الشمال الإفريقى، وإذا كان المغرب قد استطاع التصدي للحملة الإبيرية على شواطئه بفضل الدولة السعدية الناشئة، فإن بلدان شمال إفريقيا الأخرى اختارت حلا مغايرا تجلى في استقدام قوة خارجية عن البلاد وهي القوة التركية، فأمام الصعوبات التي وجدها عروج بعد فشله في استخلاص قلعة الجزائر بعث بوفد إلى اصطانبول سنة 1519 محملا بالهدايا والبيعة للسلطان سليم الأول، هذه البيعة التي لم يتردد السلطان العثماني في قبولها، لأنها فتحت الطريق لهم بسهولة للوصول إلى الحوض الغربي للبحر الأبيض المتوسط. يمكن القول بأن تواجد الأتراك بالمغرب العربي، حصل نتيجة استنجاد بلدانه بالقوة التركية ضد الحملات الإبيرية للسواحل الأطلسية والمتوسطية، بخلاف المغرب السعدي الذي اختار التصدي لهذه الحملات بنفسه. وبالعودة إلى أواخر القرن السادس عشر، فقد عرف عالم البحر الأبيض المتوسط مرحلة مهمة، تجلت في بدء التفوق الأوربي في مجال التقنيات الحربية والبحرية، وهو الأمر الذي ساهم في تغيير ميزان القوى بين ضفتي البحر الأبيض المتوسط وتراجع نفوذ القوى الدولية الكبرى داخله. ويبقى السؤال المشروع هو لماذا لم يخضع المغرب للإمبراطورية العثمانية ؟ وما هي الظروف التي حالت دون ذلك؟ وكيف كانت طبيعة العلاقات بين كل من السلاطين المغاربة وسلطة الباب العالي. أسئلة ضمن أخرى يحاول الملف التالي ملامستها. عندما اجتاح الجيش العثماني مدينة فاس مقابل الغنائم مشاركة العثمانيين في معركة وادي المخازن كانت ثمرة التعاون التركي المغربي مباشرة بعد وفاة السلطان أبي عنان المريني سنة 759ه/م1359 دخلت العاصمة فاس في مرحلة تميزت بالنكسات. خاصة وأن الأشراف السعديين قد انصرفوا عنها، وجعلوا من مدينة مراكش عاصمة لسلطانهم. ففي سنة 955/1547، دخل السعديون المدينة، لكنهم سرعان ما طردوا منها من قبل الشريف الوطاسي أبو حسون، سنة 961/1554 بمساعدة فيلق تركي رافقه من الجزائر، قبل أن ينجحوا – في السنة نفسها - في قهر آخر الملوك الوطاسيين وجيشه والتغلب عليه بالمدينة. سيطر السعديون من جديد في العام نفسه على المدينة وأحيائها، فبالغوا في التنكيل بسكانها عقابا لهم عن ولائهم لبني وطاس وتحالفهم مع أتراك الجزائر. دخول الأتراك فاس سنة 1554 م عن هذه الواقعة يروي الناصري في الاستقصا : «لما دخل السلطان أبو عبد الله محمد الشيخ السعدي إلى فاس سنة ست وخمسين وتسعمائة وقبض على بني وطاس بها فر أبو حسون هذا إلى ثغر الجزائر حقنا لدمه ومحرضا لتركيا ومستجيشا على السعدي وكان الترك قد استولوا على المغرب الأوسط وانتزعوه من يد بني زيان فلم يزل أبو حسون عندهم «يفتل لهم في الغارات والسنام» ويحسن لهم بلاد المغرب الأقصى ويعظمها في أعينهم ويقول: «إن المتغلب عليها قد سلبني ملكي وملك آبائي وغلبني على تراث أجدادي فلو ذهبتم معي لقتاله لكنا نرجو الله تعالى أن يتيح لنا النصر عليه ويرزقنا الظفر به ولا تعدمون أنتم مع ذلك منفعة من ملء أيديكم غنائم وذخائر». ووعدهم بمال جزيل فأجابوه إلى ما طلب وأقبلوا معه في جيش كثيف تحت راية باشاهم صالح التركماني المعروف بصالح رئيس إلى أن اقتحموا فاس بعد حروب عظيمة ومعارك شديدة وفر عنها محمد الشيخ السعدي إلى منجاته وكان دخول السلطان أبي حسون إلى فاس ثالث صفر من هذه السنة (961) ولما دخلها فرح به أهلها فرحا شديدا وترجل هو عن فرسه وصار يعانق الناس كبيرا وصغيرا شريفا ووضيعا ويبكي على ما دهمه وأهل بيته من أمر السعديين واستبشر الناس بمقدمه وتيمنوا بمقدمه وقبض على كبير فاس يومئذ القائد أبي عبد الله محمد بن راشد الشريف الإدريسي وسادت أيام من الاستقرار، ثم لم يلبث السلطان أبو حسون إلا وقتا قليلا، حتى كثرت شكاية الناس إليه ضد الترك وأنهم مدوا أيديهم إلى الحريم وعاثوا في البلاد فبادر بدفع ما اتفق معهم عليه من المال وأخرجهم عن فاس». تبعية عبد الملك السعدي للعثمانيين تريث العثمانيون خلال فترة حكم السلطان عبد الله الغالب، إذ رفضوا دعم أخيه عبد الملك السعدي (1576/1578) الذي التجأ إلى الأراضي الجزائرية، حينما خاطبه السلطان العثماني قائلا : «إني لا أعينك على فتنة المسلمين ...». وقد تحكمت في مواقف عبد الله الغالب( 1557/1574) معطيات الصراع العثماني الأوربي، لكن وفاته جاءت قبل أن تكتمل سفارته إلى استانبول، ولعل وعي العثمانيين أدى بهم إلى المراهنة على التدخل في الصراع الداخلي لصالح عبد الملك ضد المتوكل (1574/1576)، فدعموه بحملة انتهت بدخوله فاس، وفرار المتوكل الذي لجأ إلى نجدة الملك البرتغالي. وقد أغدق عبد الملك على الأتراك أموالا كثيرة، وحملهم بأنواع من الهدايا مكافأة لهم، كما استمر في بعث الهدايا إلى «الأستانة» العاصمة، وكان يلقي الخطبة باسم السلطان العثماني، ويسك النقود باسمه، وهذه كلها مظاهر تؤكد التبعية للباب العالي، كما أن الرسائل العثمانية للسلطان عبد الملك كانت تحضه على الجهاد والتعاون مع أمير إيالة الجزائر (محمد فريد بك، تاريخ الدولة العلية العثمانية )، وقد ظل الباب العالي مساندا لعبد الملك السعدي، وهو ما يتجلى في مشاركة الأتراك في معركة واد المخازن بغض النظر عن طبيعة وحجم هذه المشاركة. والمعروف تاريخيا أن ''عبد الملك السعدي''خلال تواجده مع الأتراك في الجزائر، وخلال تواجده بتونس للمشاركة في المعركة المشهورة باسم''معركة حلق الوادي'' التي أبلى فيها، كان دائم التتبع لمجريات الأحداث داخل وطنه الأصلي المغرب، ودائم التواصل في الخفاء مع مناصريه من الأشراف والعلماء ووجهاء القبائل. ولم يكنْ هناك من مكان استراتيجي لذلك التواصل آمن وأخفى من ''زاوية دويرة السبع'' المتواجدة –إلى حد اليوم-. وفي نهاية المطاف تمكن عبد الملك - رفقة أخيه أحمد-من الاتصال مباشرة بالخليفة العثماني – كما هو معلوم- بإصطنبول، واستطاع الحصول على مساعدة الأتراك، فدخل إلى المغرب على رأس''خمسة آلاف من عسكر الترك'' مارا من منطقة الحدود الشرقية الجنوبية، متوقفا للتنظيم والتخطيط في '' زاوية السبع'' حيث سيكون قد التحقت به في سرية تامة فرق المتطوّعين من أنصاره في البلاد..وهاهنا بالضبط ستكون زاوية'' دويرة السبع'' التي كانت مقاما لعبد الملك وأخيه أحمد قد لعبت دورها الثاني الحاسم. إذ بتخطيطه العبقري استطاع عبد الملك السعدي أن يباغت ابن أخيه ''محمد المتوكل'' في فاس، وأن يزيحه بيسر وسهولة عن العرش. صراع الأحقية حول الخلافة يرى المؤرخ العماري أن الخلاف بين الشرفاء بالمغرب سواء السعديين أو العلويين من جهة، وبين الأتراك من جهة أخرى، لم يكن في عمقه يدور حول مشكلة الحدود، وإنما كان يدور حول مسألتين أساسيتين: أولا: أحقية الخلافة التي كان السعديون والعلويون يعتبرون أنفسهم أحق بها من الأتراك وينظرون إلى هؤلاء كمغتصبين للخلافة. ثانيا: وحدة شمال إفريقيا التي كانت تبدو ضرورة تاريخية وقومية أمام الخطر المسيحي.(العماري، تاريخ الضعيف..) لقد كانت السلطة العثمانية على وعي بهذين المبدأين....لذلك حاول الأتراك تطويق موقف الشرفاء بخطة سياسة الحدود في عهد الدولة العلوية. وهذا يعني أن العلاقات الدبلوماسية بين الجانبين تحكم فيها بقوة الصراع حول أحقية الخلافة، فالعثمانيون امتلكوا مفاتيح الكعبة بتأييد شريف مكة، فأصبح السلطان حامي الحرمين الشريفين وراعيا للحجاج المسلمين، بالإضافة إلى ذلك أصبحت الدولة العثمانية الحامل لراية الجهاد، خصوصا بعد عجز المماليك عن مواجهة الحملات الصليبية المتأخرة، فتقوضت بذلك زعامتهم نهائيا كحماة للإسلام. كما يورد نيقولا زيادة في مقاله «الدولة العثمانية في الدراسات الحديثة». ومن هنا اكتسب العثمانيون أحقية الزعامة والقيادة، ومنحهم ذلك تأييد الزعامات المحلية في غالبية البلاد العربية، ومنها المغرب وهكذا نجد على سبيل المثال الفقيه ابن أبي محلي يصف السلطان أحمد العثماني بملك البحرين وإمام الحرمين الشريفين، ويرى في العثمانيين «عصابة الجهاد» في الحروب، ولذلك استنفرهم للجهاد ضد من كان يسميهم «عبدة الصليب»، كما أن الحجري أيضا خصص للأتراك مكانة متميزة في رحلته(ناصر الدين على القوم الكافرين ) إذ تحدث بإعجاب كبير عن دولتهم ودورهم في صيانة دار الإسلام، واعتبرهم القوة الوحيدة القادرة على مواجهة المد الأوربي» وكل واحد من السلاطين النصارى يرتعد ويخاف من سلاطين الإسلام والدين المجاهدين في سبيل رب العالمين ....وهم السلاطين الفضلاء العظماء ..العثمانيون التركيون ..». (عبد المجيد قدوري، سفراء مغاربة إلى أوربا ). إذا كان السلاطين المغاربة يشتركون مع العثمانيين في القيام بواجب الجهاد، فإنهم ارتكزوا على النسب الشريف الذي له دلالة خاصة في مسألة شرعية الخلافة، لكن التساؤل الذي يطرح نفسه بقوة هو لماذا كان السلاطين الأشراف يلجؤون في بعض الأحيان إلى الدعاء للعثمانيين على المنابر؟ ومن ثم نتساءل هل كان هذا الاعتراف وسيلة لقطع الطريق على أي تدخل عثماني محتمل؟ أم أنه ناجم عن قناعة حقيقية بوجوب وحدة دار الإسلام؟ إن الصراع حول الخلافة تحكم في كثير من الأحيان في نوعية العلاقات بين الطرفين إلى حد كبير ونذكر على سبيل المثال: * اتخاذ المنصور لقب الخليفة وأمير المؤمنين بعد توليه السلطة، مما أثار حفيظة العثمانيين خاصة عندما استقبل سفارة من ملك بورنو إدريس ألوما الذي بحث عن دعم عسكري لمواجهة أعدائه الصونغاي. يقول المؤرخ الفشتالي: « ... ورد الرسول(من ملك بورنو)...إلى الأبواب العلية المشرفة، فوافق أمير المؤمنين بحضرته العلية مراكش دار الخلافة، فأزاح اللبس وبين الغرض، فصدع لهم أمير المؤمنين... وطالبهم بالمبايعة له والدخول في دعوته المباركة التي أوجب الله عليهم ... وقرر لهم ... أن الجهاد الذي ينقلونه ويظهرون الميل إليه، لا يتم لهم فرصة ولا يكتب إليهم عمله، ما لم يستندوا في أمرهم إلى إمام الجماعة الذي اختصه الله إلى يوم الدين بوصفه الشريف ... وعلق لهم أيده الله الإمداد على الوفاء بهذا الشرط فالتزمه الرسول» وموازاة مع ذلك قام الأتراك بتقديم الدعم العسكري لإمبراطورية الصونغاي، وهذا لا شك يدخل في إطار الصراع الخفي حول الخلافة وأحقية زعامة العالم الإسلامي .وذلك بحسب مصطفى الغاشي في أطروحته «الرحلة المغربية والشرق العثماني، محاولة في بناء الصورة». كما نجد أن هذا الصراع الخفي حتى في رحلة سفير السعديين التمكروتي التي دونها بعد سفارته إلى اصطانبول، يقول «والترك جاروا على أهل تلك البلاد وأفسدوها، وضيقوا على أهلها في أرضهم وديارهم وأموالهم..إلى غير ذلك من الذل والإهانة ..هذا وأهل إفريقية...في كثرة اشتياقهم وحنينهم إلى حكم موالينا الشرفاء، تالله لقد كنا من تحدثنا معه من خيار أهل تونس وأعيان مصر الذين لقيناهم بالقسطنطينية يبكون على ذلك ...ويودون لو وجدوا سبيلا إلى الانتقال إلى المغرب والتخلص إليه لاشتروه بالدنيا وما فيها..» إن هذا الموقف يوضح ما كان بين الكيانين من تنافس وصراع حول ولايات الشمال الإفريقي، وكان خطاب التمكروتي أكثر وضوحا في مسألة الأحقية في الخلافة، يقول( والعثمانيون من جملة..الموالي الذين دافع الله بهم على المسلمين، وجعلهم حصنا وسورا للإسلام، وإن كان أكثرهم وأكثر أتباعهم ممن يصدق عليه قوله صلى الله عليه وسلم «إن الله يؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر» وإنما كانوا حملوا الإمارة وقلدوا الأمر في الحقيقة نيابة وأمانة يؤدونها إلى من هو أحق بها .. وهم موالينا الشرفاء ملوك بلاد المغرب الذين شرفت بهم الإمامة والخلافة، وكل مسلم لا يقول عكس هذا ولا خلافه .. وقد اجتمع المسلمون على أن الإمامة لا تنعقد إلا لمن هو من صحيح قريش، لقوله صلى الله عليه وسلم «الخلافة في قريش» وكون ملوك المغرب أولى بهم من غيرهم»، (عبد اللطيف الشاذلي، مقالة مسألة الانتماء من خلال رحلة التمكروتي إلى القسطنطينية سنة 1590) السعديون أتقنوا لعبة التحالفات الدولية استغل أحمد المنصور الأوضاع الدولية لصالحه، ولعب بالورقة الإسبانية الرابحة، وهو الشيء الذي فطن له سيلفا الذي بعث رسالة إلى الملك فيليب الثاني سنة 1583 يقول فيها( إن إمبراطور المغرب يسخر منا فهو متأرجح بين مصانعتنا ومصانعة الأتراك، فعندما يطالبه صاحب الجلالة بالعرائش يقول هيا بنا إلى الجزائر، وعندما يهدده الأتراك يقول هيا بنا إلى إسبانيا). (أنظر أطروحة عبد الرحيم بنحادة «المغرب والباب العالي من منتصف القرن السادس إلى أواخر القرن الثامن عشر ). ولا شك أن التخوف العثماني من إمكانية قيام تحالف سعدي إسباني يعتبر في نظرنا من الأسباب التي جعلت العثمانيين لم يسعوا بتاتا إلى القيام بغزو شامل للمغرب، والدخول في مغامرة ليست مضمونة النتائج، خصوصا مع الوعي العثماني بأن القوى الأوربية لن تقف صامتة إزاء مثل هذا المشروع الذي يهدد طموحاتها في السيطرة على الموارد الإفريقية انطلاقا من السواحل الأطلسية، كما نعتقد أنه لا يمكن بأي حال من الأحوال أن يسمح الأوربيون لقوة بحرية واحدة بالسيطرة على منافذ الطرق التجارية المتوسطية والأطلسية في آن واحد. وبعد أن حرر العثمانيون تونس بعد معركة حلق الوادي، من يد الإسبان سنة 1574م، زاد الرعب من إنزال عثماني في مملكة بلنسية، بمساندة المسلمين، الذين كانوا يكونون ثلث سكانها، وربع سكان مملكة أراغون القديمة. فقرر الملك في 9/10/1575م منع المسلمين من سكنى الشواطئ، فأجلوا عنها. وأخذت الشائعات تنتشر بقرب تحالف ثلاثي بين المورسكيين، والعثمانيين، وبروتستانت فرنسا (الهوكونو)، عندما اكتشفت شبكات اتصالات بينهم. فزادت سلاحهم، لتركهم فريسة سهلة للمجرمين، والمنتقمين، والطامعين من النصارى. وظلت لمسلمي إسبانيا في هذه الفترة صلات وثيقة مع الثلاث جهات المعادية لأسبانيا: الدولة العثمانية، كأكبر قوة إسلامية في البحر الأبيض المتوسط؛ والمملكة المغربية، التي كانت بمثابة الدعم الطبيعي لمسلمي الأندلس عبر التاريخ، وهوكونو فرنسا، الذين يشاركونهم في عداوتهم للكاثوليك. ابتدأت علاقة الأندلسيين بالدولة العثمانية منذ سقوط غرناطة، وتزايد أملهم في نصرتها لهم بتزايد قوتها. وبعد انهيار ثورة غرناطة الكبرى سنة 1570م، عملت السفن العثمانية على حمل اللاجئين، وتحول مركز المقاومة إلى بلنسية. وقدر عدد الحملات العثمانية على الشواطئ الإسبانية، بين سنتي 1528 و1584م بحوالي 33 حملة. وفي سنة 1575م توصل قضاة محاكم التفتيش في سرقسطة وبلنسية بأخبار مفادها أن المسلمين يهيئون لثورة شاملة بتأطير غرناطي، وإنزال بحري عثماني. وأرسل مورسكيو سرقسطة سفارة إلى الباب العالي يطلبون المال والسلاح. وتجددت الأنباء بين عامي 1578م و 1580م، عن تبادل مبعوثين بين الدولة العثمانية ومسلمي بلنسية وسرقسطة. ولكن أمل المسلمين بوصول الأسطول العثماني لتحريرهم لم يتحقق قط. أما علاقة الأندلسيين بالدولة السعدية بالمغرب، فلم تكن جيدةً. نعم كانت لانتصارات محمد الشيخ ضد البرتغاليين أحسن الأثر لدى الأندلسيين، فأيدوه تأييدًا كاملاً، كرجل الجهاد المدافع عن المغرب، والمنقذ للأندلس. وحاول «محمد الشيخ» التحالف مع العثمانيين، لإنقاذ الأندلسيين، لكن خوفه منهم أوقفه عن ذلك. وتحول هذا الخوف إلى خيانة أمام الغالب الذي تحالف ضمينًا مع الإسبان ضد المصالح العليا لكل من المغرب والأمة الأندلسية، والإسلامية بصفة عامة. وخلفه المتوكل في السياسة نفسها إلى أن هُزم مع حلفائه البرتغاليين، وقُتل في معركة وادي المخازن سنة 986ه (1578م). وساند الأندلسيون أبا مروان المعتصم، إلى أن بويع سلطانًا على المغرب سنة 1576م. ثم ساندوا عبد الملك، فأصبح الأندلسيون ركنًا قويًا من أركان دولته وجيشه. لكنه غدر بهم وتعاقد مع الإسبان في حلف ضد العثمانيين، وضد المقاومة الأندلسية. ولم تكن معركة وادي المخازن انتصارًا للمغرب على «البرتغال» فحسب؛ بل كانت كذلك انتصارًا للمسلمين على النصارى، إذ كان الجيش البرتغالي يضم أعدادًا كبيرةً من المتطوعين الإسبان وغيرهم من الأوربيين، بينما جاهد الأندلسيون مع المغاربة ببسالة واستماتة. وبعد المعركة، تابع السلطان «أحمد المنصور» السياسة نفسها في مهادنة الإسبان ضد الأندلسيين والعثمانيين، واستعمال المهاجرين الأندلسيين في حروبه الداخلية، وفي غزو مملكة السونغاي المسلمة بتنبكتو. ومنذ سنة 1570م، أخذ مسلمو أراغون القديمة (سرقسطة) يرسلون سفراءهم إلى بيارن بفرنسا، لربط تحالف مع الهوكونوت وهم «بروتستانت فرنسا» ضد إسبانيا. وفي سنة 1571م توصلت الدولة الإسبانية بأخبار مفادها قرب وقوع هجوم على سواحل بلنسية من الجزائر، مقترن بغزو لأراغون القديمة من طرف حكم بيارن. وساند هوكونو فرنسا مسلمي أراغون القديمة في حربهم الأهلية ضد النصارى الجبليين بين عامي 1585م و 1588م. وفي سنتي 1592م و1593م، انتشر الرغب في إسبانيا عندما لجأ أحد زعماء المسلمين الأراغونيين إلى فرنسا، وحصل على وعد أمير بيارن، بالمساندة في حالة ثورتهم. وفي سنة 1605م، اكتشف ديوان التفتيش تخطيطاً لثورة المسلمين في مملكتي بلنسية وأراغون القديمة، كان متوقعا أن يتزامن مع إنزال فرنسي في شواطئ بلنسية. ولكن لم يفعل الفرنسيون شيئًا لصالح المورسكيين، إذ يبدو أنهم أرادوا استعمالهم فقط لتخويف الإسبان، وخلق مشاكل لهم عند الضرورة للحصول على مكاسب منهم بأرخص الأثمنة سفارة السلطان عبد الله الغالب إلى اسطنبول تسلم السلطان مولاي عبد الله الأول الغالب حكم فاس سنة 1557م، فقام بقتل عائلة عمه، كما تمكن من إلقاء القبض على أولاد عمه أبي سعيد عثمان الثلاثة وقتلهم، أمام هذا الوضع ارتعدت فرائص إخوته عبد المؤمن وعبد الملك ففرا إلى الجزائر «التركية» سنة 1558م. وحينها، تدخل العلماء والمصلحون لحل النزاع القائم بين الإخوة، كما أن إحدى مراسلات السلطان العثماني إلى أمير الجزائر أشارت إلى هذا الصراع:» لقد تم إخبارنا بالخلاف القائم بين حاكم فاس عبد الله وإخوته، وعلمنا أن العلماء تدخلوا وأصلحوا البين، وعلمنا أن الخلاف عاد ثانية فعاد الأخوان –عبد المؤمن وعبد الملك- إلى الجزائر...» دفتر المهمات السلطانية رقم 6 ص 541. بعد فرارهم للمرة الثانية إلى الجزائر، قرر السلطان السعدي تضييق الخناق على أخويه بمنفاهم بالجزائر، بالتقرب إلى السلطان العثماني. حيث سيرسل سفارة إلى اسطنبول سنة 1573-1572، وتوجه وفد السفارة بقيادة المرابط محمد بن علي الرائي محملا بالهدايا الثمينة، وحالما انتهى الوفد من مهمته عاد إلى فاس، وفي هذه الظروف توفي عبد الله الغالب وحل مكانه عبد الله محمد المتوكل على الله. عندما هزم السلطان عبد الله الغالب السعدي القوات العثمانية بعد سقوط مملكتهم بيد العثمانيين الذين ارتكبوا مجزرة في حقهم، حيث قتل معظمهم، تحالف القائد منصور بن أبي غنام، وزير آخر ملوك أولاد بوزيان بتلمسان، مع محمد الشيخ السعدي الذي قام باحتلال تلمسان ووضع بن أبي غنام على رأسها، وتزامن سقوط حكم الزيانيين في الجزائر سنة 1556 مع غزو محمد الشيخ السعدي لتلمسان سنة 1557 فمن المنطقي أن بعض من بقي من العائلة الزيانية وخاصة أولاد الملك السادس والعشرون أبو زيان أحمد الذي حكم إلى غاية 1550، أن يفضلوا الانضمام إلى السعديين خشية أن يحل بهم ما حل بأبناء عمومتهم من قتل وتذبيح على يد العثمانيين، وقد زامن هذا سقوط المنطقة في أيدي السعديين، مما رجح فرضية أن الحياينة (أولاد زيان) عناصر من الجيش السعدي، وهذا معقول إذ أن لحياينة كانوا دائما موالين للسعديين. وبسبب عزل الأتراك العثمانيين آخر ملوك بني زيان، وتحالفهم مع السعديين. استغل العثمانيون الوضع فقاموا بالزحف نحو فاس سنة 1558، فكانت معركة واد اللبن التي سينتصر فيها السعديون بمساعدة الحلفاء الجدد «أولاد زيان»، وتقديرا لبسالتهم قدمت لهم الأراضي المحيطة بأرض المعركة فكانت ولادة الحياينة، الذين سيستخدمون كدرع لحماية فاس من أي زحف عثماني. وقعت معركة وادي اللبن في مارس وأبريل سنة 1558 م بمنطقة تيسة (إقليم تاونات -حاليا) شمال مدينة فاس بين السعديين بقيادة عبد الله الغالب والقوات العثمانية تحت قيادة حسن خير الدين باشا، ابن خير الدين بربروسا. فعندما تولى عبد الله الغالب (رابع سلطان سعدي) حكم البلاد بعد مقتل السلطان محمد الشيخ (والده) سنة 1557، واصل سياسة أبيه في مواجهة الدولة العثمانية، فرفض بيعة العثمانيين وشكل تحالفاً مع الإسبانيين لمواجهة المد العثماني. فشل الإسبان في التحالف مع المتوكل ضد الأتراك اتبع السلطان السعدي أبو عبد الله المتوكل على الله سياسة والده اتجاه جيران المغرب الإيبيريين، فعمد إلى نهج الموازنة بين الإسبان والبرتغال، مستغلا ضعف إسبانيا بعد الحرب التي خاضتها بأوربا التي أنهكتها ماديا، إضافة إلى ذلك عاشت إسبانيا على وقع الأزمة الداخلية بعد الثورات الداخلية للمسلمين، أما الأتراك فانشغلوا في تونس لاسترجاعها. في حين فضل السعديون ملاحقة بعض الطرق الصوفية بالشرق بسبب رفض التحالف مع المتوكل على الله. إبان هذه الظرفية المعقدة، عجزت إسبانيا عن التوصل إلى اتفاق مع المتوكل لمحاربة الأتراك معا، لأن الإسبان عمدوا خلال هذه الفترة إخماد انتفاضات مسلمي الأندلس بالحديد والنار، مستغلين انشغال الأتراك في إزالة الصعوبات التي اعترضت استعادة تونس. وفي ربيع الأول لسنة 984 ه/1576م قام الأسطول الإسباني بقيادة ألوفرو باظان ماركي ودي سانت كروسا بمهاجمة جزيرة فرقنة، وألحق أضرار بها، وكان هذا الأسطول من خمس «فرقيطات» وخمس وثلاثين سفينة حربية، كما تمكن قائد الأسطول من أسر ثلاثمائة شخص، وقام كذلك بتهديد الشواطئ الجزائرية، فغضب السلطان العثماني مراد الثالث من تصرف الإسبان إلى حد دفعه إلى التفكير في الرد عليهم والانتقام منهم. ولم يكن بإمكان الأتراك-آنذاك- توجيه ضربة عسكرية قاسية للإسبان في وهران والمرسى الكبير، لأنهم كانوا منشغلين أولا بتسليم عرش المغرب إلى حليفهم عبد الملك السعدي، بعد توجه هذا الأخير إلى الأستانة «اسطمبول» لاستعطاف السلطان لأجل تعيينه حاكما على المغرب الأقصى، وهو الأمر الذي استجاب له السلطان العثماني، بعد أن أثبت عبد الملك السعدي صداقته وإخلاصه للباب العالي، ليصدر «فرمانا» إلى أمير الجزائر، كي يجهز القوة العسكرية الكافية لغزو فاس، وتنصيب عبد الملك حاكما عليها (دفتر المهمات السلطانية رقم 21، ص 130. حكم موجه إلى أمير أمراء الجزائر). سليمان القانوني يقطع رأس السلطان السعدي محمد الشيخ بعد أن لقبه ب«سلطان الحواتة» بعد انقلاب عبد الله محمد الشيخ السعدي، على أخيه السلطان أحمد الأعرج سنة 1540 م وتمكنه من القضاء على من تبقى من الوطاسيين بالرغم من الدعم الكبير الذي تلقوه من العثمانيين ودخل فاس منتصرا سنة 1554 م. وعن هذا يقول المؤرخ المغربي أبو العباس أحمد بن خالد الناصري صاحب كتاب «الاستقصا لأخبار دول المغرب الأقصى»: «إن أبا عبد الله محمد الشيخ السعدي سلطان المغرب كان يطلق لسانه في السلطان سليمان القانوني ويلقبه بسلطان القوارب، أو سلطان «الحواتة» لأن العثمانيين كانوا أصحاب أساطيل وسفر في البحر. فأنهي ذلك إلى السلطان العثماني وبلغه أن دولة الوطاسيين قد انقرضت من المغرب فبعث إليه رسله». وقد عرفت حينها الدولة العثمانية أوجها مع هذا السلطان العثماني، الذي كانت ترتعد فرائص الملوك والأباطرة لدى توصلهم بكتابه، إلا أنه لما وصل كتابه إلى أبو عبد الله محمد الشيخ السعدي، انزعج هذا الأخير من الوعيد والتخويف والتهديد الذي تضمنه الكتاب. يقول الناصري: «قرأ السلطان أبو عبد الله الشيخ كتاب السلطان سليمان ووجد فيه أنه يدعو له على منابر المغرب ويكتب اسمه على سكته كما كان بنو وطاس. حمى أنفه وأبرق وأرعد وأحضر الرسول وأزعجه فطلب منه الجواب فقال: لا جواب لك عندي حتى أكون بمصر إن شاء الله وحينئذ أكتب لسلطان القوارب، فخرج الرسول من عنده مذعورا يلتفت وراءه إلى أن وصل إلى سلطانه.» لم يستسغ السلطان العثماني هذا الرد والجواب، فاجتمع بمستشاريه ووزرائه يستشيرهم في هذا الأمر. وقرر أن يهيئ الحملة العسكرية لكي يغزو المغرب، غير أنهم لم يحبذوا هذه الفكرة، ربما لأن في الأمر خطورة وصعوبة. وبالمقابل، اقترحوا عليه فكرة بسيطة مفادها أن يتم اغتيال السلطان السعدي، وهي الفكرة التي استحسنها السلطان سليمان العثماني، فكلفوا جماعة من الأتراك للقيام بهذه المهمة. وورد في الاستقصا أن «هؤلاء الأتراك خرجوا من الجزائر إلى مراكش مظهرين أنهم فروا من سلطانهم ورغبوا في خدمة الشيخ والاستيجار به، ثم إن صالحا الكاهية دخل على السلطان أبي عبد الله الشيخ وقال: يا مولاي إن جماعة من أعيان جند الجزائر سمعوا بمقامنا عندك ومنزلتنا منك فرغبوا في جوارك والتشرف بخدمتك وليس فوقهم من جند الجزائر أحد وهم إن شاء الله السبب في تملكها فأمره بإدخالهم عليه، ولما مثلوا بين يديه رأى وجوها حسانا وأجساما عظاما فأكبرهم، ثم ترجع له صالح كلامهم فأفرغه في قالب المحبة والنصح والاجتهاد في الطاعة والخدمة حتى خيل إلى الشيخ أنه قد حصل على ملك الجزائر فأمره بإكرامهم وأن يعطيهم الخيل والسلاح». ولما اطمأن السلطان السعدي إلى هؤلاء الأتراك الذين أكرم وفادتهم، استغلوا فرصة قيامه بإحدى الحركات إلى الجنوب المغربي فقاموا بقتله. قال الناصري: «واستمر الحال إلى أن أمكنتهم فيه الفرصة وهو في بعض حركاته بجبل درن بموضع يقال له آكلكال بظاهر تارودانت فولجوا عليه خباءه ليلا على حين غفلة من العسس فضربوا عنقه بشاقور ضربة أبانوا بها رأسه واحتملوه في مخلاة ملؤوها نخالة وملحا وخاضوا به أحشاء الظلماء وسلكوا طريق درعة وسجلماسة كأنهم أرسال تلمسان لئلا يفطن بهم أحد من أهل تلك البلاد، ثم أدركوا ببعض الطريق فقاتلت طائفة منهم حتى قتلوا ونجا الباقون بالرأس وقتل مع الشيخ في تلك الليلة الفقيه مفتي مراكش أبو الحسن علي بن أبي بكر السكتاني والكاتب أبو عمران الوجاني». ولما وصل رأس السلطان أبي عبد الله محمد الشيخ السعدي إلى السلطان العثماني سليمان الذي كان في إقامة بإسطنبول، فأمر بجعله في شبكة نحاس وتعليقه على باب القلعة، وظل هناك إلى أن قدم ابناه عبد الملك المعتصم وأحمد المنصور على السلطان سليم بن سليمان يطلبان مساندتهما في مواجهة البرتغاليين والملك المخلوع المتوكل. مساعدة الأتراك في معركة وادي المخازن أدى الضعف العسكري للدولة الوطاسية وانطفاء جذوتها إلى فراغ في السلطة السياسية المغربية، وهو ما ساهم في طمع الأيبيريين في سواحل المغرب وثغوره، رغبة منهم في تقويض استقلاله بعد ضعف سلطته وانهيار دولته واستغلاله اقتصاديا وتجاريا، حيث يلخص الدكتور إبراهيم حركات الأسباب التي سمحت للبرتغاليين بالاستيلاء على السواحل المغربية، في خمسة أسباب رئيسية أهمها: الضعف العسكري المغربي، والتعصب للمسيحية، إذ كان البرتغاليون من الأوائل الذين استجابوا بحماس لنداء البابا الذي كان يدعوهم لقتال المسلمين وغزو بلادهم، خصوصا نداؤه الموجه إليهم سنة 1496 م، وينضاف كذلك عامل آخر تمثل في قوة الأسطول البحري الذي امتلكه الأيبيريون خلال القرن الخامس عشر. وساهم كذلك العامل الاقتصادي والتجاري المهم الذي تتيحه الثغور المغربية، ثم الرغبة في نشر المسيحية بين المسلمين. أتت معركة وادي المخازن التي جرت على أرض قبيلة الخلط بثلاثاء ريصانة يوم 30 جمادى الأولى 986 ه الموافق ل 4 غشت 1578، لتتوج مسيرة المقاومة المغربية المسلمة للحملات الصليبية الأيبيرية بعد أن قرر الملك سباستيان في صفقة سياسية عسكرية مع السلطان الفار محمد المتوكل، أن يهاجم المغرب لكي يستحوذ على كل سواحله بدعم من البابا وملوك أروبا، إذ يقول صاحب مساهمة «رباط تازروت في معركة وادي المخازن» : « وطلب مولاي محمد من طاغية بردقيز أن يعينه على عمه عبد الملك فاشترط عليه الطاغية أن يكون للنصارى سائر ثغر المسلمين وله ما وراء السواحل، فقبل منه ذلك المتوكل وأمر قائده عبد الكريم بن تودة بأن يسلم أصيلا إلى أعداء الله ورسوله، نصارى بردقيز، فقال له القائد المذكور عند السمع والطاعة وأخرج من أصيلا رجاله ودخلها جنود الكفر دمرهم الله في شهر ربيع الثاني 985 ه موافق شهر يوليوز 1577.» كما أن تولية عبد الله الغالب ولاية العهد لابنه المتوكل وتدبيره لمذبحة رهيبة لإخوته كي تصفو له مسألة الخلافة، دفع عبد الملك السعدي وأحمد المنصور إلى الفرار نحو تلمسان، واستنجادهما بالدولة العثمانية القوية التي قدمت لهما الدعم الكامل من أجل استرداد العرش من ابن أخيهما. فكانت النتيجة المباشرة لجدل الصراع الداخلي حول العرش السعدي والتفوق العسكري الذي حققه عبد الملك السعدي وأحمد المنصور على جيوش المتوكل، هي تلك الصفقة المخزية التي عقدها المتوكل مع ملك البرتغال سباستيان، والتي شكلت على المستوى العام ارتدادا من قبل المتوكل عن نهج الجهاد والمقاومة المسلحة الذي تبنته الدولة المغربية على مر تاريخها، وتنازلا عن دعم مقاومة الموريسكيين التي كبدت البرتغاليين خسائر فادحة طيلة النصف الأول من القرن السادس عشر، كما مثلت تلك الصفقة نكسة غير متوقعة في المسار السياسي لدولة السعديين التي قامت أساسا على جهاد النصارى ومعاداتهم، أما على المستوى الخاص فقد كانت خطأ سياسيا فادحا وقاتلا ارتكبه المتوكل رغبة منه في حماية حكمه في مواجهة أعمامه المساندين من قبل العثمانيين. أما علي محمد الصلابي مؤلف كتاب «الدولة العثمانية» فيقول: « إذ لم يعد هناك مجال للشك في أن العثمانيين إنما يسعون جادين للاستيلاء على المغرب، لا باعتباره الجزء المتمم للشمال الإفريقي فحسب، بل وللأهمية الاستراتيجية كأقرب نقطة إلى بلاد الإسبان والبرتغال ...» وبهذا، يظهر أن المغرب كان شوكة في حلق الأيبيريين، مما دفع بسباستيان لحشد ملوك أوروبا وأمرائها، وتجييش عشرات الألوف من البرتغاليين الإسبان والطليان والألمان وتجهيزهم بجميع الأسلحة الممكنة في زمانه، وتجهيز ألف مركب لتحمل أولئك الجنود لغزو المغرب والسيطرة عليه. وبغض النظر عن الخطأ التاريخي الفادح للمتوكل في انحيازه للبرتغال ضد أعمامه وحلفائهم العثمانيين، فسياسة الدولة السعدية منذ نشأتها حتى مع أحمد المنصور الذهبي حليف الدولة العثمانية، اتخذت موقف الند للند من آل عثمان ولم تكن تابعة لهم في يوم من الأيام كما كانوا يطمحون، ولهذا فقد ذهب علي الصلابي في ختام استعراضه للأحداث إلى القول بأن من بين الأسباب التي حالت دون ضم المغرب الأقصى للدولة العثمانية، هو ظهور شخصية قوية حاكمة في المغرب، وهو أحمد المنصور الذهبي وانتصار معركة وادي المخازن، الذي فرض على العثمانيين احترام السعديين وتقديرهم. وهكذا خرج الجيش المغربي بقيادة عبد الملك السعدي لمجابهة النصارى في موقعة وادي المخازن العظيمة، إذ يقول إبراهيم حركات « وكان الجيش المغربي يتألف من عناصر عديدة فيها بربر وعرب وأتراك، وحضر المعركة عدد كبير من الصلحاء والعلماء حبا في الجهاد ...» ومهما يكن من شيء فلم تكن القوات العددية هي السبب المباشر في تحديد الانتصار أو الهزيمة، وإنما كان من دون شك الحماس الديني العظيم الذي قابل به المغاربة أعداءهم ....وكان للصلحاء دور فائق في حمل المسلمين على الثبات، وهكذا تم اندحار المسيحيين الذين تراجعوا نحو النهر فوجدوا القنطرة قد اندكت بفعل قذائف المدافع السعدية وتراموا إلى النهر فغرق كثير منهم من بينهم سباستيان والمتوكل..... فكان للانتصار المغربي على البرتغال نتائج بعيدة المدى ليس على المغرب الأقصى فقط بل على العالم الإسلامي والمسيحي أيضا، فقد استطاعت الدولة المغربية استعادة هيبتها العسكرية والسياسية وتحصين مركزها الدولي، كقوة مستقلة في حوض البحر الأبيض المتوسط، وتوحيد الصف الداخلي وضمان الوحدة الترابية للإمبراطورية الشريفة، كما حققت للعالم الإسلامي نصرا إسلاميا باهرا على المسحيين الذين كانوا يرغبون في تنصير المسلمين والقضاء على الإسلام في المغرب، وشكل الانتصار صدمة كبرى وانتكاسة عظمى للنصارى عامة وللبرتغال خاصة يصفها المؤرخ البرتغالي لويس ماريه بقوله: «وقد كان مخبوءاً لنا في مستقبل العصور، العصر الذي لو وصفته لقلت: هو العصر النحس البالغ النحوسة، الذي انتهت فيه مدة الصولة والظفر والنجاح، وانقضت فيه أيام العناية من البرتغال وانطفأ مصباحهم بين الأجناس وزال رونقهم، وذهبت النخوة والقوة منهم وخلفها الفشل الذريع وانقطع الرجاء واضمحل إبان الغنى والربح، وذلك هو العصر الذي هلك فيه سباستيان في القصر الكبير في بلاد المغرب». معركة «ليبانتو» التي شكلت منعطفا في طموحات الأتراك التوسعية عندما جلس سليم الثاني على العرش خلفا لوالده القانوني في ربيع 974ه/ أيلول/سبتمبر ظهر بعض التمرد في الدولة، فقامت حركة تمرد فياليمن سنة 1567 استطاعت حصر العثمانيين في الشريط الساحلي، ولم يستطع العثمانيون إعادة سيطرتهم على اليمن إلا بعد عامين. كان العثمانيون رغم المشاريع الكبيرة التي أعلنوا عنها في تلك الفترة يركزون اهتمامهم على فتح جزيرة قبرص التي كانت عقبة كبيرة في طريق التجارة المنتعشة بين مصر وإستانبول والتي تسيطر عليها البندقية وتمارس من خلالها بعض أعمال القرصنة البحرية، ولذا شرع العثمانيون في غزوها رغم إدراكهم أن الهجوم على هذه الجزيرة سوف يؤدي إلى قيام تحالف مسيحي قوي ضدهم. عندما اقترب الأسطول الصليبي من ميناء «إينبختي» الذي يرسو فيه الأسطول العثماني اجتمع برتو باشا مع كبار قادة البحر لبحث الموقف، وانفض هذا الاجتماع دون أن يتوصل القادة إلى خطة لمواجهة المعركة القادمة التي لا يفصل بينها وبينهم إلا وقت قصير. وكانت المؤشرات تؤكد أن هناك ميلا لما يطرحه برتو باشا ومؤذن باشا لمواجهة الموقف المتأزم، على اعتبار أنهما المسئولان أمام الدولة في إستانبول. وكان رأي القادة البحريين في الأسطول هو عدم الدخول في هذه المعركة -غير المتكافئة- إلا بعد أن تقصف مدافع القلاع العثمانية سفن العدو وتتلفها، وهو ما يعطي فرصة كبيرة لسفن الأسطول العثماني لتتبع ومطاردة الأسطول الصليبي، أو بمعنى آخر إنهاك الأسطول الصليبي قبل بدء المعركة ثم الانقضاض عليه بعد ذلك. ولكن برتو باشا ومؤذن باشا أعلنا أنهما تسلما أمرا بالهجوم على الأسطول الصليبي. ولما رأى قادة البحر في الأسطول العثماني ذلك نصحوهما بأن يخرجا إلى القتال في البحار المفتوحة، لأن ذلك يعطي الفرصة للسفن العثمانية بأن تقوم بالمناورة، وأن تستخدم مدفعيتها القوية بكفاءة عالية ضد الأسطول الصليبي. إلا أن برتو وغيره من القادة لم يستمعوا إلى هذه النصائح من أهل الخبرة في القتال البحري، وأعلن أنه سيقاتل بالقرب من الساحل، وقال: «أي كلب هو ذلك الكافر حتى نخافه؟» ثم قال: «إنني لا أخشى على منصبي ولا على رأسي، إن الأوامر الواردة تشير بالهجوم، لا ضير من نقص خمسة أو عشرة أشخاص من كل سفينة، ألا توجد غيرة على الإسلام؟ ألا يُصان شرف البادشاه؟ وكانت هذه المقولة تعبر عن الجهل بالحقائق ولا تعبر عن شجاعة أو حماسة دينية، إذ إنه من غير المعقول أن تدار حرب بحرية على الساحل، ومن ثم فقد كانت النتيجة في تلك المعركة محسومة لصالح الأسطول الصليبي قبل أن تبدأ. اتسمت معركة ليبانتو بالدموية والعنف الشديدين، فتوفي قائد القوة البحرية مؤذن علي باشا وابنه مع بداية المعركة كما أسر ابنه الثاني، وغرقت سفينة القيادة في الأسطول العثماني التي كان فيها برتو باشا وتم سحبها إلى الشاطئ بتضحيات كبيرة. أما القائد البحري العثماني أولوج الذي كان يقود الجناح الأيمن، فإنه لم يخسر أيا من سفنه البالغة 42 سفينة، واستطاع أن يقضي على الأسطول المالطي بالكامل الذي يتكون من ست سفن واغتنم رايته، وعندما رأى أن الهزيمة تقع بالأسطول العثماني وأن تدخله لإنقاذه هو انتحار مؤكد، رأى أن من الحكمة الابتعاد عن الميدان حفاظا على بقية الأسطول والاستعداد لمعركة قادمة. كانت الخسائر في تلك المعركة ضخمة للغاية لكلا الطرفين، فقد خسر العثمانيون 142 سفينة بين غارقة وجانحة وأسر الصليبيون 60 سفينة عثمانية، واستولوا كذلك على 117 مدفعا كبيرا، و256 مدفعا صغيرا، كما تم تخليص 30 ألف «جداف» مسيحي كانوا في الأسر، وسقط من العثمانيين حوالي 20 ألف قتيل وأسير، من بينهم 3460 أسيرا، ومن بين الأسرى 3 برتبة لواء بحري، وحاز الصليبيون راية مؤذن باشا الحريرية المطرزة بالذهب، وقد أعادها بابا روما إلى تركيا سنة (1385ه= 1965م) كتعبير عن الصداقة بين الجانبين. وقتل من القوة الصليبية حوالي 8 آلاف وسقط 20 ألف جريح، وأصيبت غالبية السفن المسيحية، وكان من بين الأسرى المسيحيين ميغيل دي ثيربانتس الذي فقد ذراعه الأيسر وعاش أسيرا في الجزائر وألف روايته المشهورة «دون كيشوت» . والواقع أن خسائر العثمانيين المعنوية كانت أشد فداحة من خسائرهم المادية، حيث كانت تلك المعركة الكبيرة ذات مردود سلبي في علاقة الدولة العثمانية بالأوبيين فزال من نفوس الأوربيين أن الدولة العثمانية دولة لا تقهر، وهو ما شجع التحالفات الأوربية ضدها بعد ذلك، وظهرت المراهنات على هزيمتها. ورغم هذا الانتصار الباهر للأوربيين في معركة ليبانتو البحرية فإن الأوربيين لم يستطيعوا استغلال هذا الانتصار الكبير من الناحية الاستراتيجية، فقد استطاع العثمانيون بعد أقل من عام واحد على هذه الهزيمة بناء أسطول جديد كان أكثر قوة وعددا من الأسطول الذي تحطم في تلك المعركة، وهو ما أثبت حينها، أن الدولة العثمانية مازالت تحتفظ بقوتها، وأنها تستطيع في وقت قليل تعويض خسائرها نظرا لما تمتعت به من موارد وطاقات ضخمة. أعد الملف - منصف يوسف