علي انوزلا أمام الوكيل العام للمك وقف أحد نشطاء "حراك الريف" المعتقلين على ذمة التحقيق، وبدأ يستمع إلى لائحة الاتهامات الثقيلة التي كان يسردها عليه ممثل النيابة العامة، وكل تهمة قد تصل عقوبتها إلى المؤبد أو الإعدام. وعندما انتهى الإدعاء العام من توجيه تهمه، علق الشاب، الذي كان يبدو منهكا من آثار الاعتقال والتعذيب، بلهجة محلية ساخرة ومستغربة، "وابيك آولدي!؟"، ومعناها "كل هذه التهم أنا هو صاحبها؟!". انفجر محامي الشاب من الضحك، فمن الهم ما يضحك، كما يقول المثل، أمام القاضي الذي لم يفهم معنى عبارة الشاب فظل فاغرا فاه مستغربا من ردة فعل الشاب وهدوئه وضحك محاميه وهو يتلو عليهما لائحة اتهامات خطيرة تقشعر لها الأبدان. هذه الحادثة ببساطتها وعفويتها وتلقائيتها تلخص إلى حد كبير وضع الكثير من المعتقلين على خلفية ما أصبح يعرف في المغرب ب "حراك الريف" الذي بدأ بمسيرات سلمية يرفع مطالب اجتماعية قبل أن تحول السلطة شبابه إلى "مجرمين" يتابعون بأثقل الاتهامات ويواجهون أقصى العقوبات. نفس السلطة التي تكيل اليوم اتهامات ثقيلة لنشطاء "حراك الريف"، وقد تجاوز عدد المعتقلين 104 معتقلا ومعتقلة واحدة والعدد مازال مرشحا للارتفاع، هي نفس السلطة التي كانت ومازالت تصف مطالب نفس الحراك بأنها مشروعة، وتقول إن قوانينها تضمن لنشطائه حقهم في التظاهر السلمي. فهل يتعلق الأمر بازدواجية خطاب لدى نفس السلطة؟ وما الذي جعلها تلتزم الهدوء طيلة سبعة أشهر هي عمر هذا الحراك المتواصل، قبل أن ينفذ صبرها وتتصرف مثل فيل هائج داخل متجر للفخار؟ منطق السلطة اليوم يضع المغرب أمام خيار صعب لم يحسب أصحابه تداعياته ولا أبعاده أو خطورته لأن الاستمرار فيه يعني مزيد من الضغط ومزيد من القوة لإخماد حراك يتمدد ويتوسع يوما بعد يوم تبرر السلطة ردة فعلها العنيفة على حراك اعترفت هي نفسها في مناسبات سابقة بسلميته وبمشروعية مطالبه، بالمحافظة على الاستقرار، وحتى تجد لاتهاماتها ما يسندها قانونيا أو بالأحرى سياسيا، استعانت بالتهم الجاهزة من قبيل البحث عن "الأيادي الخفية" و"الجهات المغرضة" و"المؤامرة المبيتة" و"التمويل الخارجي".. من يقرأ لائحة الاتهامات التي يتابع بها اليوم أكثر من 104 شاب وشابة واحدة، على رأسهم رأس الحراك ورمزه وقائده ناصر الزفزافي، يتخيل إليه بأنه أمام أكبر "خلية إرهابية" تهدد استقرار المغرب ومستقبله وتزرع الفتنة والانقسام داخل مجتمعه، وإذا كان الأمر كذلك، فلماذا صمتت السلطة طيلة الشهور السبعة الماضية عن مثل هذه "الخلية الخطيرة" التي كان عناصرها يتحركون بحرية ويقودون المسيرات بشكل أسبوعي قبل أن يعودوا إلى بيوتهم مساء ينامون ويأكلون الخبز ويمشون في الأسواق مثل أيها الناس؟ لماذا تغاضت السلطة طيلة الفترة الماضية عما تريد اليوم أن تصوره بأنه أكبر وأخطر مخطط كان يحاك ضد المغرب واستقراره ومستقبله؟ إن منطوق التهم الثقيلة التي يواجهها شباب "حراك الريف" والأجواء المشحونة التي قد ترافق محاكمتهم، وحالة الاحتقان العام في الشارع التي تغذيها الاعتقالات المستمرة والقمع اليومي للمظاهرات السلمية، ستجعل من هؤلاء الشباب، واغلبهم في مقتبل العمر، ضحايا خيار أمني قررته السلطة في ربع الساعة الأخيرة لإخماد الحراك بالقوة بعد أن عجزت في الاستجابة لمطالبه الاجتماعية ولم تفلح في إنهاء مظاهراته السلمية. منطق السلطة اليوم يضع المغرب أمام خيار صعب لم يحسب أصحابه تداعياته ولا أبعاده أو خطورته لأن الاستمرار فيه يعني مزيد من الضغط ومزيد من القوة لإخماد حراك يتمدد ويتوسع يوما بعد يوم، ومعه ترتفع صفوف المعتقلين وتتشدد لائحة الاتهامات. وقد يأتي اليوم الذي ستجد فيه السلطة أمام خيارات أصعب إذا ما أرادت أن تبقى منسجمة مع "منطقها"، عندما سيصبح كل تراجع عنه مكلف بالنسبة لها سياسيا ومعنويا ورمزيا. "منطق" السلطة اليوم يدفع إلى إنزال أقصى العقوبات على شباب كل تهمه أنه كان ومازال يتظاهر سلميا للمطالبة بحقوق يعترف له بها دستور المغرب وتضمنها له قوانينه. فهل يجب إعدام الزفزافي ورفاقه من أجل إرضاء "اتهامات" السلطة التي تبررها بالمحافظة على استقرار المغرب وتطوره؟ هل إعدام قادة الحراك الشعبي في الريف هو الذي سيعيد تثبيت استقرار المغرب "المهدد" ويعيد إطلاق عجلة تنميته "المعطلة"؟ إن الحراك الذي ظل بلا قادة ولا رموز صنعت له السلطة، أو هي في طريقها، لتحويل شبابه وشاباته إلى قادة ورموز وأيقونات حتى الآن ما أثبتته السلطة هو فشل مقاربتها الأمنية التي لم تزد سوى في صب مزيد من الزيت على النار، وقد آن الوقت لمراجعة الأخطاء والتراجع عنها قبل أن تتراكم وتتفاقم. فالحراك الذي كان محدودا في المكان والزمان أصبح يتمدد على اتساع الرقعة الجغرافية المغربية، وبعدما كانت مسيراته الاحتجاجية تنظم كل شهر أو أسبوع باتت تخرج كل ليلة وفي أكثر مكان. كما أن الحراك الذي ظل بلا قادة ولا رموز صنعت له السلطة، أو هي في طريقها، لتحويل شبابه وشاباته إلى قادة ورموز وأيقونات.. ومطالب الحراك التي كانت ذات طبيعة اجتماعية محضة تتمثل في بناء مستشفى وجامعة ومنصب شغل، أصبحت تأخذ طابعا سياسيا متمثلا في إطلاق سراح المعتقلين ومحاسبة المسؤولين ومتابعة المفسدين. مازال أمام السلطة أكثر من مخرج من الأزمة التي زجت نفسها فيها، والباب الرئيسي لأي مخرج هو الاعتراف بأخطائها والتوقف مع مراكمتها والتحلي بالشجاعة للتراجع عنها وتصحيحها. وغير ذلك سيكون مزيدا من التصعيد ومزيدا من التأزيم الذي يصعب معرفة طبيعته المستقبلية أو التنبؤ بنهايته.