ولي العهد الأمير الحسن يستقبل الرئيس الصيني بالدار البيضاء الذي يقوم بزيارة قصيرة للمغرب    المغرب يدعو إلى هامش أكبر من الاستقلالية المادية لمجلس حقوق الإنسان    تحطم طائرة تدريب يودي بحياة ضابطين بالقوات الجوية الملكية    متابعة موظفين وسماسرة ومسيري شركات في حالة سراح في قضية التلاعب في تعشير السيارات    هل يؤثر قرار اعتقال نتنياهو في مسار المفاوضات؟    عشر سنوات سجنا وغرامة 20 مليون سنتيما... عقوبات قصوى ضد كل من مس بتراث المغرب        رسميا: الشروع في اعتماد 'بطاقة الملاعب'    أبناء "ملايرية" مشهورين يتورطون في اغتصاب مواطنة فرنسية واختطاف صديقها في الدار البيضاء    الحكومة توقف رسوم الاستيراد المفروض على الأبقار والأغنام    الصحراء: الممكن من المستحيل في فتح قنصلية الصين..        المغرب التطواني يقاطع الإجتماعات التنظيمية مستنكرا حرمانه من مساندة جماهيره    أول دبلوم في طب القلب الرياضي بالمغرب.. خطوة استراتيجية لكرة القدم والرياضات ذات الأداء العالي    الحزب الحاكم في البرازيل يؤكد أن المخطط المغربي للحكم الذاتي في الصحراء يرتكز على مبادئ الحوار والقانون الدولي ومصالح السكان    تعيينات بمناصب عليا بمجلس الحكومة    مجلس الحكومة يصادق على مشروع مرسوم بوقف استيفاء رسم الاستيراد المفروض على الأبقار والأغنام الأليفة    "بتكوين" تقترب من 100 ألف دولار مواصلة قفزاتها بعد فوز ترامب    الرباط : ندوة حول « المرأة المغربية الصحراوية» و» الكتابة النسائية بالمغرب»    المنتدى الوطني للتراث الحساني ينظم الدورة الثالثة لمهرجان خيمة الثقافة الحسانية بالرباط    بعد غياب طويل.. سعاد صابر تعلن اعتزالها احترامًا لكرامتها ومسيرتها الفنية    القوات المسلحة الملكية تفتح تحقيقًا في تحطم طائرة ببنسليمان    استطلاع: 39% من الأطفال في المغرب يواجهون صعوبة التمدرس بالقرى    "الدستورية" تصرح بشغور مقاعد برلمانية    تناول الوجبات الثقيلة بعد الساعة الخامسة مساء له تأثيرات سلبية على الصحة (دراسة)    بإذن من الملك محمد السادس.. المجلس العلمي الأعلى يعقد دورته العادية ال 34    المغربيات حاضرات بقوة في جوائز الكاف 2024    توقعات أحوال الطقس ليوم غد الجمعة    الاستئناف يرفع عقوبة رئيس ورزازات    المركز السينمائي المغربي يقصي الناظور مجدداً .. الفشل يلاحق ممثلي الإقليم    مؤشر الحوافز.. المغرب يواصل جذب الإنتاجات السينمائية العالمية بفضل نظام استرداد 30% من النفقات    طنجة.. توقيف شخصين بحوزتهما 116 كيلوغرام من مخدر الشيرا    ميركل: ترامب يميل للقادة السلطويين    لأول مرة.. روسيا تطلق صاروخا باليستيا عابر للقارات على أوكرانيا    زكية الدريوش: قطاع الصيد البحري يحقق نموًا قياسيًا ويواجه تحديات مناخية تتطلب تعزيز الشراكة بين القطاعين العام والخاص    وزارة الإقتصاد والمالية…زيادة في مداخيل الضريبة    ارتفاع أسعار الذهب مع تصاعد الطلب على أصول الملاذ الآمن        رودري: ميسي هو الأفضل في التاريخ    أنفوغرافيك | يتحسن ببطئ.. تموقع المغرب وفق مؤشرات الحوكمة الإفريقية 2024    ارتفاع أسعار النفط وسط قلق بشأن الإمدادات جراء التوترات الجيوسياسية    بعد تأهلهم ل"الكان" على حساب الجزائر.. مدرب الشبان يشيد بالمستوى الجيد للاعبين    8.5 ملايين من المغاربة لا يستفيدون من التأمين الإجباري الأساسي عن المرض    مدرب ريال سوسيداد يقرر إراحة أكرد    انطلاق الدورة الثانية للمعرض الدولي "رحلات تصويرية" بالدار البيضاء    الشرطة الإسبانية تفكك عصابة خطيرة تجند القاصرين لتنفيذ عمليات اغتيال مأجورة    من شنغهاي إلى الدار البيضاء.. إنجاز طبي مغربي تاريخي    تشكل مادة "الأكريلاميد" يهدد الناس بالأمراض السرطانية    اليسار الأميركي يفشل في تعطيل صفقة بيع أسلحة لإسرائيل بقيمة 20 مليار دولار    شي جين بينغ ولولا دا سيلفا يعلنان تعزيز العلاقات بين الصين والبرازيل    جائزة "صُنع في قطر" تشعل تنافس 5 أفلام بمهرجان "أجيال السينمائي"    تفاصيل قضية تلوث معلبات التونة بالزئبق..    دراسة: المواظبة على استهلاك الفستق تحافظ على البصر    اليونسكو: المغرب يتصدر العالم في حفظ القرآن الكريم    بوغطاط المغربي | تصريحات خطيرة لحميد المهداوي تضعه في صدام مباشر مع الشعب المغربي والملك والدين.. في إساءة وتطاول غير مسبوقين !!!    في تنظيم العلاقة بين الأغنياء والفقراء    غياب علماء الدين عن النقاش العمومي.. سكنفل: علماء الأمة ليسوا مثيرين للفتنة ولا ساكتين عن الحق    سطات تفقد العلامة أحمد كثير أحد مراجعها في العلوم القانونية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



سلسلة سيرة محمد بن عبد الكريم الخطابي
نشر في أريفينو يوم 02 - 07 - 2009

تنشر يومية المساء منذ الاول من يوليوز حلقات يومية عن الأمير محمد بن عبد الكريم الخطابي و سيرته الذاتية
أريفينو تقدم لكم كل ليلة الحلقة الجديدة من هذه السلسلة الشيقة فتابعوا معنا
الحلقة التاسعة
عبد الكريم يقود جيشه الصغير لمقاومة الإسبان
هذه هي قصة شعب «الريف» وقد هب في العشرينيات من هذا القرن، بقيادة رجل يدعى عبد الكريم، يحارب إسبانيا الطامعة في أراضيه، وذلك بالسلاح الذي يكسبه منها في ميادين القتال، فينزل بها هزائم يشهد المؤرخون أن أية دولة استعمارية لم تمن بمثلها قط، كما يشهدون على أنه كان لها أكبر الأثر في تطور الأحداث في ما بعد في إسبانيا بالذات.
إن هدف سيلفستر المباشر هو وادي أقرموس، حيث تعيش قبيلة تمسامان، وهو واد بعرض عشرين ميلا، تطوقه مثل الحزام جبال عالية، ومنحذرات عملاقة من الصخر الوعر، يتلوى عبرها دربان يجتازان المرتفعات البالغة 4000 قدم، دربان شاهقان لا يشكلان في حال عدم الدفاع عنهما أية عقبة في وجه جيش غاز، لكنهما ممران ضيقان متلويان يمكن أن يصبحا مصيدة إذا ما قام على حراستهما عدد قليل من الرجال الحازمين المسلحين بالبنادق.
ويغطس سيلفستر ورأسه إلى الأمام منه في الجبال، إنه لا يطيق أية معارضة، فأساليبه هي أفضل الأساليب، وطريقته في خوض الحرب هي الطريقة الصائبة. إنه يخب أمام الرتل، متشوقا إلى تحقيق خطته، تاركا القرارات الروتينية إلى مرؤوسيه، ضباط الأركان العامة الذين هم عاجزون عن تدبير تلك التفاصيل الصغيرة التي تكسب الحروب بها أو تفقد. (إن الكتب العسكرية تبين أنه يجب إقامة مواقع قوية لدى تقدم الجيش من أجل حماية مؤخرته، وتأمين مواصلاته، وتوفير نقاط الدفاع عنه لدى تراجعه. ولقد أخبر الضباط الإسبانيون رجالهم، أثناء تقدمهم، بأن يشيدوا مراكز حصينة وأن يبنوا مخازن للمؤن والذخيرة. بيد أن المراكز التي أنشؤوها كانت قليلة ومتباعدة، وكانت مواقعها تبعد عن بعضها البعض مسافات كبيرة، بحيث لا تستطيع حامياتها أن تتصل ببعضها بسهولة. وكانت سلسلة الدعم رقيقة جدا، ولقد ارتكب ضباط سيلفستر خطأ أشد فداحة، إذ لم يعمدوا إلى نزع سلاح بني سعيد، القبيلة التي كانوا يجتازون أراضيها في طريقهم إلى الجبال. لقد خلفوا وراءهم قبيلة صغيرة، لكنها متمرسة بالحرب، ولم تكن هذه القبيلة تحتاج لأكثر من بعض التشجيع كي تطعن الإسبانيين في ظهرهم).
وإن الرتل ليتقدم بعد، ولما اقترب من الجبال انفصل إلى ثلاثة أرتال: واتجهت فرقة منه صوب سيدي ادريس على الساحل، حيث كان الجنرال سيلفستر على موعد مع قبر. أما بقية الجند، القسم الأعظم من الجيش، فقد انقسموا إلى رتلين، راح أحدهما يتسلق جاهدا أحد الممرين الجبليين، بينما راح الآخر يجاهد عبر الممر الآخر. إن عبورهم الحاجز الجبلي هادئ لا تتخلله أية أحداث، فليس هناك ريفيون يسدون عليهم الطريق، لأن رجال القبائل المحليين قد ارتشوا. وتهبط الشعبتان المنحدرين المعاكسين وتختلطان في شعبة واحدة. ويحتل الإسبانيون الوادي من دون أن يقاومهم رجال تمسامان. بيد أن أعضاء مجلس هذه القبيلة تذكروا وعدهم لعبد الكريم، وفي تلك الليلة نقلت نيران الحراسة رسالتها المصيرية.
وحملت أنباء النيران المشتعلة فوق الهضاب شرقا إلى عبد الكريم في أجدير، ولم تمض ساعات قليلة حتى وردت معلومات أكثر دقة، يحملها السعاة، هؤلاء الفتية الريفيون الراسخو الأقدام الذين يستطيعون أن يستمروا في خبب وئيد ساعة تلو ساعة.
إن الإسبانيين يغزون الريف كما تنبأ عبر الكريم، وأرسل رسلا يحذرون أعضاء مجلس بني ورياغل، فكان جوابهم ضحلا. إن 125 رجلا فقط قد استجابوا لنداء عبد الكريم الداعي إلى حمل السلاح، لكنه رأى أنهم رجال صالحون عندما تجمعوا في أجدير: إنهم جبليون قساة، قد تمرسوا على تحمل الأحوال الجوية المتقلبة والحرمانات المتنوعة، وتعودوا منذ الطفولة على الركض والتسلق، وكل رجل منهم يشكل وحدة تكفي ذاتها، فهو يحمل طعامه وشرابه وسلاحه، قد تدرب على القتال والقتل، كما أنه رام حاذق، وجميعهم مسلحون ببنادق الموزر ذات الخزان، وقد ابتاعوها من المواقع الإسبانية.
وإن الذخيرة لضئيلة، فكل رجل لا يملك أكثر من عشر طلقات، لكن عبد الكريم قد حسب حساب هذا الضعف، فاشترى من ماله الخاص 1600 طلقة من ضابط إسباني في قلعة الجزيرة، وقد كلفته كل طلقة 11 بيزو، وهو ثمن فاحش جدا. وفقد عبد الكريم جيشه الصغير، وانتزع من رجاله وعدا واحدا فقط، ألا وهو أن «يقاتلوا ما بقوا أحياء». وارتفعت صيحة مدوية تشير إلى موافقة الريفيين. وهذا عبر الكريم، وأخوه إلى جانبه، يقود الجماعة الانتحارية في اتجاه الشرق.
———————————————–
الحلقة الثامنة
الجنرال سلفستري يأمر جيشه بالتحرك نحو الريف
هذه هي قصة شعب «الريف» وقد هب في العشرينيات من هذا القرن، بقيادة رجل يدعى عبد الكريم، يحارب إسبانيا الطامعة في أراضيه، وذلك بالسلاح الذي يكسبه منها في ميادين القتال، فينزل بها هزائم يشهد المؤرخون أن أية دولة استعمارية لم تمن بمثلها قط، كما يشهدون على أنه كان لها أكبر الأثر في تطور الأحداث في ما بعد في إسبانيا بالذات.
اختار سيلفستر أن ينطلق عبر الجبال، خلال الأراضي القبلية الخاصة بتمسمان. وبينما هو يعمل في إحكام خطته وصلته برقية من الملك يعلن ألفونسو فيها: «هيا، إني أنتظر.» وهذا سيلفستر يأمر ضباطه: «تقدموا إلى الريف.»
وراح الرتل الأسود الطويل يزحف عبر السهل الأغبر، إن جبال الريف، هذا الحاجز الوعر الذي تحدى الإسبانيين طويلا، تنتصب في المدى البعيد. وخرج جنود إسبانيا من مليلا وسلكوا الدروب الوعرة التي تؤدي إلى الغرب. هؤلاء الفاتحون يسيرون من جديد، بعد أربعمائة عام من الإنجازات المجيدة والتراجع المهين. وإن سيلفستر ليراقب قواته وهو يمتطي صهوة جواده: تلك هي اللحظة الأسمى من حياته المسلكية. إن الفارس المتهور، المختال، الأنيق، الذي يحمل في جسده ندبات ستين جرحا، لا يراوده أدنى شك أو تردد. إن المشروع له، وله وحده، إن اندفاعه إلى الريف يعني الهزء بأوامر رئيسه العسكري، لكن تفويضه صادر من ألفونسو نفسه – الملك الذي سيكافئه بكل تأكيد ببراءة النبالة التي يتوق إليها. وإن سيلفستر ليتبجح بأنه سيسقي جواده خلال شهر واحد من ينبوع جدين وينظف حذاءه على قبر سيدي ادريس.
ويتقدم رتل مليلا جاهدا في القيظ اللاهب. إن الشمس الإفريقية الحارقة تلسعه، وغبار المسيرة يرتفع عاليا في سحب عريضة، تبعثر دواماته الريح الطرية التي تهب من الجبال، إن طعم الهواء لأشبه بالشمبانيا بالنسبة إلى سيلفستر، يسكره فيصيح: «إلى الأمام، إلى الأمام.» ويعجل الرجال الكادحون من خطواتهم، وتنطلق الجماعات في سير سريع، والرايات ترفرف في النسيم العليل. إن عشرين ألف جندي يتهادون عبر السهل، وأسلحتهم وتجهيزاتهم تلمع بصورة كليلة في نور الشمس البراق، تلمع ولا تتلألأ، لأن هذا الحشد حشد حزين. إن بزات الجنود ملطخة مرقعة، وعتادهم كليل فاقد اللمعان، وسلاحهم عتيق صدئ، والكثيرون منهم لا يعدون كونهم صبية، فتيانا فلاحين، أميين ونصف جائعين، أولئك المجندين البائسين الذين هم أفقر من أن يبتاعوا بديلا يخوض عنهم معارك إسبانيا. وإن الكثيرين منهم لم يطلقوا قط رصاصة واحدة، كما أن كثيرا من البنادق لا تصلح لإطلاق النار، إضافة إلى أن نصف الطلقات التي تعد بالآلاف والتي زودوا بها محشوة بنشارة الخشب والرمل. وإنهم ليسيرون، نظريا، في طريق معبدة قد اقترع من أجل تعبيدها على مئات الألوف من البيزوات، وهي أموال اختفت في جيوب ضباطهم.
ويركب الضباط على مسافة من رجالهم المشاة، فهم بعيدون عن سحب الغبار، وعلى الرغم من أن إسبانيا تحشد عددا من الضباط بالنسبة إلى عدد الجنود أعظم من أي جيش أوربي آخر، فإن هؤلاء الضباط قلة هنا، لأن الكثيرين منهم قد تخلفوا، في «إجازة»، في مليلا، كيما يستمتعوا بمباهج الحانات ويثروا بفضل المخازن العسكرية. إن الكثيرين من هؤلاء الضباط يكسبون 600 بيزو في الشهر ويصرفون 1200 بيزو في الشهر. إن هؤلاء الأرستقراطيين المفلسين ليرحبون بالخدمة العسكرية ما وراء البحار، وهم يستطيعون في مراكش أن يثروا بفضل تجويع الفتية الفلاحين الذين تدفع لهم الأموال من أجل تأمين معيشتهم..
وتمشي فتيات إسبانيات عديدات في الرتل الطويل، إحداهن شقراء فاتنة، وأخرى سمراء تلفت الأنظار. ولسوف يختبرن بعض الخيبات المرموقة قبل دعوتهن إلى الوطن الأم إسبانيا.
وهذا الرتل، بعدما عبر نهر كيرت، أبعد نقطة سبق للإسبانيين أن تقدموا إليها، يندفع قدما صوب الجبال، إلى بلاد مجهولة غير مستكشفة، بلاد من القمم الشاهقة، والجبال الظمأى، والممرات الصخرية المكهفة، والوديان العميقة، ومجاري الأنهار الصخرية. إن وديانها الخصبة القليلة تتصل ببعضها بعضا بواسطة دروب الماعز، هذه المعابر الضيقة التي سيتعثر فيها الرجال لابسو الأحذية العالية ويسقطون، هذه الطرق المنزلقة التي يستطيع أهل الريف خفيفي الحركة أن يتسلقوا منها إلى الأعالي التي تشرف عليها.
———————————————–
الحلقة السابعة
عبد الكريم يستنهض القبائل لمواجهة سلفستري
هذه هي قصة شعب «الريف» وقد هب في العشرينيات من هذا القرن، بقيادة رجل يدعى عبد الكريم، يحارب إسبانيا الطامعة في أراضيه، وذلك بالسلاح الذي يكسبه منها في ميادين القتال، فينزل بها هزائم يشهد المؤرخون أن أية دولة استعمارية لم تمن بمثلها قط، كما يشهدون على أنه كان لها أكبر الأثر في تطور الأحداث في ما بعد في إسبانيا بالذات.
لقد حقق عبد الكريم نجاحه المذهل في استنهاض مواطنيه بقوة ذكائه وشخصيته وحدهما. لم يكن يحتل أي مركز بارز في قبيلته الخاصة، فكم بالأحرى في الريف بأسره، لقد كان قاضيا لمدينة واحدة فقط، وكان لابد له أن يتغلب على الشك في كونه أداة إسبانية باعتبار أنه كان مستخدما في مليلا. ولم يكن جنديا، كما أنه لم يشترك قط في الضغائن الدموية ولم يطلق يوما رصاصة واحدة بدافع الغضب. ولم يكن في مظهره، كما وصفوه لي، ما يميزه بصورة مخصوصة: كان قصير القامة، أقرب إلى السمنة، غامق الشعر والملامح. وكان يبدو لطيفا ودودا. وكانت عيناه وحدهما تعطيان قبسا من النار المتأججة في باطنه. كانت هاتان العينان سوداوين نافذتين.
ولما كان شتاء 1920-1921 يقترب من نهايته، كان عبد الكريم يعيش في بيته في أجدير، حيث كانت زوجته تنتظر ولدها الأول. وحين ذهب الشتاء جعل الرجل يراقب الثلوج تتراجع عن قمم جبل حمام. وفي أوائل أبريل باشرت طيور السنونو التي كانت تأتي لقضاء الشتاء في شمالي إفريقيا طيرانها العائد إلى مراعيها في أوربا الشمالية. لقد جاء الربيع إلى الريف متأخرا في ذلك العام.
كان الجنرال سيلفستر يراقب طيور السنونو وهي تتجه صوب الشمال، لقد عاد إلى مليلا في فبراير بعدما وقع عليه اختيار الملك في مدريد ليكون الرجل القوي الذي يدعم النظام. ولقد أصدر ألفونسو أمره إلى سيلفستر بأن يحطم المأزق في مراكش، وكانت رسالة الملك السرية إلى سيلفستر لا تبرح جيبه: «إفعل كما أقول لك ولا تلق بالا إلى وزير الحربية الذي هو رجل أحمق.»
ولم يكن سيلفستر، الشجاع والسريع التأثر، المتهور حتى درجة الجنون، يحتاج إلى أي تشجيع، إنه المخلص الذي سيحرر إسبانيا من متاعبها. إن فرديناند سيلفستر، نصف القشتالي ونصف الكوبي مولدا، هو فتى العالم القديم وابن العالم الجديد، الجندي الذي سيقلب مصائر إسبانيا، العملاق الذي سيوقف مد الزمان، إنه الرجل الوحيد الذي يستطيع أن يغزو الريف، فبيرنجر يبالغ في الاحتراس، وتقدمه البطيء، الثقيل، سيتطلب سنوات عديدة. ولسوف ينطلق سيلفستر، بينما الآخر يراوح مكانه، وسيكسب النصر، ويحصل على المجد. ولسوف يلهي انتصاره العظيم الشعب في بلاده عن نقائص الحكم الأرستقراطي ومساوئه.
إن سيلفستر ليزدري أهل الريف، جنود «التنورة» كما كان يسميهم. ولسوف يقسمهم قبل أن يتمكنوا من تعبئة أنفسهم، وهو ما سيحققه بهجوم مباغت على خليج الحسيمة، في قلب الأراضي القبلية الخاصة ببني ورياغل. ومن أجدير، سوف يسخر من بيرنجر بأنباء نصره السهل. ولسوف تنتهي الحرب بإخضاع بني ورياغل، لأن القبائل الأخرى ستكون عاجزة عن المقاومة بدونهم. وليس سيلفستر بجاهل محاولات عبد الكريم لاستنهاض القبائل ضد إسبانيا، كما يعلم إخفاقه في الحصول على تأييد القادة. وعلى أية حالة، فإن معارضة قاضي أجدير لا تقلق بال سيلفست، إن كريما المغرور يمكن أن يعوق قوة إسبانيا، لكنه لا يستطيع سبيلا إلى مقاومتها.
وكان سيلفستر يأمر في مليلا 20000 جندي إسباني و4000 تابع من المولدين. وفي الحسيمة، هدف الإسبانيين، تقف حامية قلعة الجزيرة، على أهبة ضرب الريف من الخلف لدى اقتراب سيلفستر. وثمة طريقان مفتوحان أمامه، ففي استطاعته أن يسلك الطريق الطويل، الطريق البطيء الملتف الأمين، دائرا حول الجبل الأشد ارتفاعا، بحيث يبلغ أجدير من الجنوب، أو يستطيع أن يسلك الطريق المختصر عبر الجبال، مجتازا وادي أقريس، شاقا طريقه ما وراء جبل أبران، مفتاح المعابر إلى الغرب. تلك بلاد مجهولة بالنسبة إلى الإسبانيين، وهم لا يعرفون شيئا عن ممراتها المتعرجة، ووديانها العميقة، ومنحدراتها الزلقة.
———————————————–
الحلقة السادسة
ملك إسبانيا يستغل تناقضات الجيش لحل أزمته الداخلية
هذه هي قصة شعب «الريف» وقد هب في العشرينيات من هذا القرن، بقيادة رجل يدعى عبد الكريم، يحارب إسبانيا الطامعة في أراضيه، وذلك بالسلاح الذي يكسبه منها في ميادين القتال، فينزل بها هزائم يشهد المؤرخون أن أية دولة استعمارية لم تمن بمثلها قط، كما يشهدون على أنه كان لها أكبر الأثر في تطور الأحداث في ما بعد في إسبانيا بالذات.
قرر ألفونسو أن ينشئ نظاما للترفيع وفقا للجدارة، دونما اعتبار للرتبة، وهو اقتراح ساعدته فيه عدم شعبية الجنرالات المفتقرين إلى الكفاءة، هؤلاء الذين لم يحققوا شيئا سوى سلسلة من الكوارث في مراكش. وفي عام 1920 كان الجيش يعد ب100000 رجل و12000 ضابط، وهو رقم غير متناسب يترأس صفوفه 690 جنرالا و2000 عقيد وكان الضباط الأصغر سنا يتناولون مرتبات ضئيلة جدا بحيث سقطوا بكل سهولة ضحايا لنظام الفساد الذي كان متغلغلا في جميع مراتب الجيش. ولقد وقع ألفونسو على الفكرة الصائبة، لكنه اختار الرجل الخاطئ من أجل تنفيذ مشروعه.
كان التقدم في مراكش بطيئا جدا منذ عام 1915. ففي الشرق بقي الإسبانيون محصورين في مليلا والمناطق المجاورة لها بصورة مباشرة. وفي الغرب أخذ الجنرال دماسكو بير نجر مكان الجنرال جوردانا الذي مات خلف مكتبه في 11 نوفمبر عام 1918. وفي أعقاب تعيينه مفوضا ساميا وجنراليسيما للقوات الإسبانية في مراكش. ذهب بيرنجر إلى الرباط، عاصمة مراكش الفرنسية حيث تشاور مع المقيم العام، وهو المارشال ليوطي في ذلك الحين، الذي نصحه باتباع سياسة تغلغل بطيء، حيث يسبق كل خطوة تحضير مناسب لها. وعاد بيرنجر إلى تطوان، مقتنعا بما شاهده في مراكش الفرنسية، وتنبأ بكل ثقة بأنه «لم يعد ثمة حاجة لإسالة المزيد من الدماء». وأخذ يسعى إلى كسب تعاون القبائل بواسطة التغلغل السلمي، لكنه اصطدم بريسولي الذي كان مصمما على الاحتفاظ باستقلاله، والذي استنهض قبائله واحتل الهضاب المحيطة بتطوان. واضطر بيرنجر إلى إرسال القوات لإبعاده، بحيث دخلت إسبانيا الحرب من جديد ضد ريسولي. ولقد أدى هذا التجدد للقتال إلى انفجار وحشي في مدريد، فقد راحت الصحافة الجمهورية تصيح: «إننا نواصل القتال في مراكش بصورة مناقضة لوعود الحكومة. إن العرب قد قتلوا عددا كبيرا من جنودنا والحرب مستمرة، ولا يريد الناس أن يذهبوا إلى مراكش، وهم لا يريدون أن يصرفوا فلسا آخر هناك وقد تعبت إسبانيا من التضحية بأبنائها في غزو أرض لا تحمل إليها سوى المتاعب، باستثناء توفير المرتبات للملكيين والأرستقراطيين».
كان هذا الاستياء الشعبي ضد القيادة العسكرية في مصلحة خطط الملك. وهكذا عمد ألفونسو إلى اعتبار ذلك تنازلا أمام المطالبة بترفيع ضباط أكثر كفاءة، إلى الحد من سلطة بيرنجر بتعيين سيلفيستر قائدا للقوات العسكرية. ولقد احتفظ بيرنجر بمركزه كمفوض سام، وكان مضطرا إلى مراقبة منافسه سيء الانضباط وهو يحقق نجاحا كبيرا ضد ريسولي الذي اضطره سيلفيستر إلى الانسحاب إلى قلاعه الجبلية. ولقد تحسنت الأوضاع بالنسبة إلى بيرنجر وريسولي على حد سواء حين نقل سيلفيستر، نزولا عند أمر الملك الشخصي، إلى مليلا قائدا عاما للقوات العسكرية.
واستعاد بيرنجر منصبه كجنراليسيم للجيوش الإسبانية في مراكش، هذه الجيوش التي ازداد عددها عام 1920 بقدوم الفرقة الأجنبية الاسبانية المشكلة حديثا، الثالثة كما سميت وقتذاك، وكانت الفرقة الأجنبية الفرنسية نموذجا لها، وقد جند فيها العسكريون المستاؤون من أمم عديدة ونفاية السجون الاسبانية. ووضعت القوة الجديدة تحت قيادة العميد ميلان أستري، وقد ألحق به رائد يدعى فرنشسكو فرنكو لمساعدته.
إن هذه القوات الجديدة قد رفعت الجيش الإسباني في مراكش إلى تعداد 63000 رجل كان 24000 منهم معسكرين في مليلا. وواصل الجنرال برينجر، عند النهاية الغربية من المنطقة الاسبانية، تقدمه البطيء محتلا عام 1920 شفشاون، وهي مدينة صغيرة عند طرف الريف. وفي أواخر العام حضر سيلفيستر صلاة احتفالية في كاتيدرائية مليلا، ومن ثم قصد مدريد حيث استقبله الملك على انفراد.
———————————————–
الحلقة الخامسة
الإسبان يحشدون العملاء في الريف
هذه هي قصة شعب «الريف» وقد هب في العشرينيات من هذا القرن، بقيادة رجل يدعى عبد الكريم، يحارب إسبانيا الطامعة في أراضيه، وذلك بالسلاح الذي يكسبه منها في ميادين القتال، فينزل بها هزائم يشهد المؤرخون أن أية دولة استعمارية لم تمن بمثلها قط، كما يشهدون على أنه كان لها أكبر الأثر في تطور الأحداث في ما بعد في إسبانيا بالذات.استقال مارينا من منصبه وأسرع عائدا إلى مدريد حيث استدعى سيلفيستر بدوره. واحتدم شجار عنيف بين الرجلين، لكن الحكومة هدأت من حدته بأن منحتهما أوسمة عسكرية رفيعة، ومن بعد عين مفوض سام جديد هو الجنرال جوردانا الذي أرسل إلى تطوان، بينما أسكت سيلفيستر بإعطائه منصبا مؤقتا في مليلا.
وحاول عبد الكريم، ذات ليلة من عام 1916، أن يهرب من «البرج» وهو الإسم الذي كان يطلق على سجن مليلا. كان بعض الأصدقاء قد هربوا إليه حبلا تدلى بواسطته من نافذة زنزانته. بيد أن عمامته علقت بمصراع النافذة بعد خروجه منها. بحيث وجد نفسه بعدما تدلى عالقا على ارتفاع عشر أقدام من الأرض. ولما كان رجلا ثقيلا، وقد أثقل نفسه فضلا عن ذلك بالثياب الاحتياطية التي ارتداها كي يأخذها معه، فإنه لم يستطع أن يتسلق الحبل من جديد. وسقط على الأرض، فكسرت ساقه ووجده الحرس الذين أخذوه إلى المستشفى حيث نصح الأطباء بقطع رجله. ورفض عبد الكريم ذلك، وكان من نتيجة هذا الحادث أنه ظل يعرج قليلا على رجله طوال حياته. وأطلق سراحه قبل نهاية العام لقاء بعض الرهائن، فذهب إلى أجدير حيث قضى سنتين في داره قبل أن يعود إلى مليلا حيث أعيد تعيينه رئيسا للعدل في المحكمة المحلية. أما أخوه الأصغر محمد فقد أرسله والده إلى مدريد ليتمرن على هندسة المناجم. وعلم عبد الكريم في مليلا أن الإسبانيين يجندون العملاء في الريف ويصدرون إليهم التعليمات باغتيال الزعماء الذين يعارضون المطامح والأهداف الإسبانية.
أجبرت نهاية الحرب الكبرى في أوربا إسبانيا على التعجيل بغزو المنطقة الشمالية من مراكش. كان الوضع المتردي في الداخل يتطلب إنهاء المشروع الاستعماري بصورة ناجحة في محاولة لدعم النظام المترنح. وفي عام 1920 واجه الملك ألفونسو أحد أمرين: إما أن يقبل راضخا بشعبية الحكومة المتعاظمة أبدا. وإما أن يرتد إلى النظام التعسفي الذي وضع له حد نظريا بإعطاء الدستور عام 1867، حين أعيدت الملكية بعد فترة من الحكم الجمهوري.
وكانت إسبانيا قد انتفعت كثيرا، لكن بصورة مؤقتة، من الحرب الأوربية، وذلك من بيع المواد الغذائية والفلزات الحديدية والذخيرة إلى الحلفاء، وأدى ميزان تجارتها الموافق إلى زيادة احتياطاتها من الذهب من 23 مليون بيزو عام 1914 إلى 89 مليون بيزو عام 1918. بيد أن رفاهية زمن الحرب قد استبدلت بالفقر حين توقفت طلبات الحرب. وانخفض الإنتاج، وانتشرت البطالة. وأدى البؤس الناجم عن هذه الأوضاع، وهو البؤس الذي كانت الطبقات العاملة المحتقرة ضحيته الأولى، إلى زيادة كبيرة في قوة الاشتراكية والنزعة الجمهورية التي قدم نجاح ثورة البروليتاريا في روسيا دعما هائلا لها.
وكانت إسبانيا دولة إقطاعية رغما عن الدستور، وكان النبلاء في هذه الدولة يرفضون أن يقبلوا المسؤوليات التي قام النظام القديم عليها، فالمطالبة بالإصلاح تعرض للخطر الامتيازات التي طالما استمتعوا بها. إن ملاك الأراضي الأرسطقراطيين قد خرقوا روح الدستور منذ عام 1876، بينما هم يقبلون نصه، وذلك بالتعاون مع الطبقات الوسطى، هذه الطبقات التي كانوا يتناوبون معها في السلطة، كي لا يمنعوا أمثال كورتيس من تحقيق الإصلاحات المطلوبة. وأبقي على مظهر الحكم الديمقراطي، وكان الطرفان يستفيدان معا من نظام الفساد القديم.
واعترف ألفونسو بالخطر حين أصيب الاقتصاد بالجمود عام 1920، ما كان يمكن تفادي الحرب الأهلية إذن إلا بوضع الدستور موضع التنفيذ أو بتطبيق الدكتاتورية. ولما كانت عدم شعبية الملكية عقبة في سبيل استيلاء الملك على السلطة الشخصية، فقد بحث عن بديل ووجده في جماعة الضباط الساخطين الذين كانوا يطمعون في الترفيع العاجل، لكن أعاقتهم عن ذلك الجونتاس، وهي الاتحاد العسكري الذي كان يطالب بالتقيد الصارم بمبدأ الترفيع المقرر وفقا للرتبة والقدم.
———————————————–
الحلقة الرابعة
اتضاح مقاصد الإسبان في منطقة الريف
هذه هي قصة شعب «الريف» وقد هب في العشرينيات من هذا القرن، بقيادة رجل يدعى عبد الكريم، يحارب إسبانيا الطامعة في أراضيه، وذلك بالسلاح الذي يكسبه منها في ميادين القتال، فينزل بها هزائم يشهد المؤرخون أن أية دولة استعمارية لم تمن بمثلها قط، كما يشهدون على أنه كان لها أكبر الأثر في تطور الأحداث في ما بعد في إسبانيا بالذات.
لقد كشفت هذه التقارير عن الإيمان الإسباني بالثروة المعدنية لجبال الريف وعن خطة فورية من أجل التنقيب في الأراضي القبلية التابعة لبني ورياغل. وكانت المعلومات التي استقاها عبد الكريم من هذه المصادر تثبت أن مقاصد الإسبان أنانية تماما، وأنه ليس في نيتهم على الإطلاق السماح لأهل الريف بالانتفاع من ثرواتهم الطبيعية الخاصة، أو معاملتهم كشركاء متساوين كما كانوا يعلنون على الملأ.
وبحث عبد الكريم عن المعونة عند الألمان الذين شجعوه، إذ تبينوا الفائدة التي يمكن أن يحصلوا عليها من كسب تأييد رجل ريفي بارز، على أن يكتب في الصفحة. العربية التي لا يبرح يصدرها، محتجا على تقاسم مراكش من قبل فرنسا وإسبانيا. كان عبد الكريم على استعداد إذن للتعاون مع أي إنسان يستطيع أن يساعد أهل الريف في الحفاظ على استقلالهم وفي الانتفاع بمواردهم الطبيعية الخاصة. لقد كان على استعداد «للعشاء مع الشيطان نفسه» على حد تعبير السير ونستون تشرشل حين رحب عام 1941 بدخول روسيا الحرب ضد هتلر.
والتقى عبد الكريم بالجنرال سيلفستر الذي كان يقوم بزيارة لمليلا. ويروى- وهذا ما تنكره العائلة- أن الرجلين دخلا في نقاش انتهى بشجار غير لائق على الأرض. وكائنا ما كان يصيب هذه الرواية من الصدق أو غير ذلك، فإن الإسبانيين زجوا بعبد الكريم في السجن، وهو توقيف تقول الأسرة إن العداء الفرنسي كان سببا له، هذا العداء الذي أثارته المناداة بآرائه الصريحة وحماسته غير المقنعة للنجاحات التي حققها الأتراك، حلفاء الألمان وأعداء فرنسا بنتيجة ذلك.
إن جزائريا بارزا هاجر إلى مراكش قد جعل من نفسه، على النقيض من عبد الكريم، أداة ألمانية. إن هذا الرجل، عبد المالك، قد كان حفيدا لعبد القادر الشهير الذي قاتل بشجاعة ضد الفرنسيين في الجزائر في القرن السابق. ولقد جاء عبد المالك، الذي ولد في سورية أثناء إقامة جده في المنفى، إلى مراكش عام 1902 حيث دعم الروغي، وقد تخلص من قضيته الخاسرة بمحاولة اغتياله فيما بعد. ولقد جعله هذا السلوك عزيزا في عيني السلطان عبد العزيز، لكنه سرعان ما تخلى عن قضية هذا السلطان أيضا حين أصبح مولاي حفيظ سلطانا. ولقد عين عبد المالك، مكافأة له على إخلاصه للنظام الجديد، رئيسا لشرطة السلطان في طنجة. وفي عام 1914 أصبح عميلا ألمانيا. لكنه حين ارتاب بأن أحاديثه الهاتفية السرية مع القائم بالأعمال الألماني قد سجلت، هرب إلى جبال الريف. يرافقه عميل ألماني يدعى فار يحمل كيسا مليئا بالذهب. ولقد تعاون مالك وفار على إثارة قبائل الريف الجنوبي، ومن بعد أعلن مالك حربا مقدسة ضد الفرنسيين وهاجم مواقعهم. كذلك أعلن السلطان، بتحريض من المقيم العام ليوتيي، حربا مقدسة ضد الألمان وهكذا تمزقت القبائل بين إخلاصين: وأثبت الذهب الفرنسي أنه أشد إقناعا من الذهب الألماني، فترنحت قوى مالك، وانحلت إلى عصابات من اللصوص. وتبخرت سلطته، واضطر إلى الفرار إلى المنطقة الإسبانية التي حاول الفرنسيون عبثا إخراجه منها. ولسوف نسمع من أخبار عبد المالك مرة أخرى فيما بعد.
ولقد أثرى ريسولي هو الآخر من الرغبة الألمانية في كسب تعاونه ضد الفرنسيين، وكان يتناول الرشاوى دونما تمييز من الألمان والإسبانيين ولا يفعل شيئا لقاء ذلك.
وكان الإسبانيون معنيين بعد بكسب ولائه لقضيتهم. ولقد أرسل الجنرال مارينا، عام 1914، إليه رسالة يعرض عليه شروطا مناسبة من أجل تعاونه، بيد أن حامل هذه الرسالة الذي كان من السكان المحليين، والذي أعطي جواز مرور من الإسبانيين، لم يبلغ الرذيلة. وادعى ريسولي بشدة أنه قتل في الطريق بتحريض من الجنرال سيلفيستر، لكن سيلفيستر نفى هذه التهمة بأن نفذ حكم الإعدام في أحد مساعدي ريسولي، زاعما أن هذا الرجل هو الذي اغتال رسول الجنرال مارينا.
———————————————–
الحلقة الثالثة
عبد الكريم يناقش مع أبيه مضامين المعاهدة الفرنسية الإسبانية
هذه هي قصة شعب «الريف» وقد هب في العشرينيات من هذا القرن، بقيادة رجل يدعى عبد الكريم، يحارب إسبانيا الطامعة في أراضيه، وذلك بالسلاح الذي يكسبه منها في ميادين القتال، فينزل بها هزائم يشهد المؤرخون أن أية دولة استعمارية لم تمن بمثلها قط، كما يشهدون على أنه كان لها أكبر الأثر في تطور الأحداث في ما بعد في إسبانيا بالذات.
سرت مع سعيد عبر باحة جامعة أبيه القديمة وتفقدت الحجرات الصغيرة التي كان الطلبة يتجمعون فيها حول أساتذتهم. ههنا استكمل عبد الكريم معرفته بالشرع واستمتع بالحياة الطلابية، وإن بارقة زهيدة من الرجل تتضح منذ تلك الأيام. إن رسالة وردت من والده معلنة عن زيارة له ومبينة أنه قد يسبق الرسالة موجة عارمة من النشاط. كان عبد الكريم قد أصبح على بعض الإهمال في تطبيق الطقوس الدينية، ومن المؤكد أن انعدام الطشت والإبريق في حجرته سيكشف النقاب عن تقاعسه عن غسل يديه وقدميه خمس مرات كل يوم. ولما خرج مسرعا من الغرفة كي يستعير هذه الأدوات الأساسية من أجل القيام بالطقوس الدينية طرق سمعه صدى خطوات على السلم وصوت أبيه يستفسر عن ابنه. ولقد تمكن عبد الكريم من الحصول على الطشت والإبريق من جاره في الوقت المناسب قبل أن يدلف والده إلى حجرته. ولقد كان كريم الأب سعيدا جدا برؤية ولده بحيث لم يلاحظ أن الطشت فارغ من المياه.
وناقش عبد كريم الأب مع ابنه مضامين المعاهدة الفرنسية الإسبانية التي تقسم مراكش إلى مناطق نفوذ، واعترف بأنه حين سمع بها للمرة الأولى لم يكن معارضا كل المعارضة لانتشار النفوذ الإسباني في الريف. كان يعتقد بأن الريف سيكسب كثيرا من شركة على قدم المساواة مع أمة متمدنة. إن أهل الريف أناس متأخرون، وهم يحتاجون إلى الأطباء، والمعلمين، والمهندسين، لمساعدتهم في استخدام مواردهم الطبيعية. لكنه بلغه أن في نية الإسبانيين أن يستغلوا أهل الريف لا أن يساعدوهم. وحين تكلم ضد معاهدة أجدير، أرسل حاكم قلعة الجزيرة فصيلة من الجنود إلى الشاطئ وأحرق داره. ولم يغب عن أعين الأب والابن على السواء الفوضى التي تتردى فيها مراكش والخطر الإسباني على استقلال الريف، وعاد عبد الكريم إلى أجدير بعد تخرجه عام 1909، ومن هناك انطلق مع أبيه للانضمام إلى التحالف الريفي الذي تشكل، بفضل جهود عبد كريم الأب حتى درجة بعيدة، من أجل مقاومة غزو الروغي. وحضر عبد الكريم في هذه الحملة القصيرة «القتال الفعلي» من دون أن يسهم فيه شخصيا. وحين عاد إلى أجدير أرسله أبوه إلى مليلا كي يمارس القانون فيها ويكتسب الخبرة المباشرة من الإسبانيين ويقف على نواياهم.
ووصل عبد الكريم إلى مليلا حين كان النزاع بشأن حقوق التنقيب عن المناجم في جبل ويكش في أوجه، وما أعقبه من قتال استمر، حاميا تارة فاترا تارة، لسنوات طوال. وحصل على عمل بالتدريس في مدرسة محلية، ثم ترك هذا العمل بعد سنة كي يصدر الصفحة المحررة باللغة العربية في برق الريف، وكي يعمل سكرتيرا في مكتب الشؤون المحلية. وأصبح عام 1913 مستشارا لدى محكمة الجنايات، ثم رفع بعد سنتين إلى منصب رئيس العدل، قاضيا في القضايا الجنائية والمدنية على السواء بالنسبة إلى المولدين.
كان الإسبان يسعون بهذه التعيينات إلى كسب عبد الكريم للتعاون معهم، بل لقد عرضوا عليه عرضا أشد إغراء، إذ وعدوه أن يكون حاكما للريف بعد احتلالهم إياه. ورفض عبد الكريم أن يرتشى، وأخبرالإسبانيين أنه مستعد للتعاون معهم إذا استطاعوا أن يقنعوه بنواياهم الطيبة، وفي هذه الحال فقط.
إن مناصب عبد الكريم في النفوذ والسلطة قد جعلته على احتكاك مع الرسميين الإسبانيين من جهة واحدة، ومع مهندسي المناجم وعملاء المخابرات الألمان من جهة ثانية، هؤلاء الذين كانوا يخططون من أجل خلق المتاعب للفرنسيين. ولقد ارتبط بأواصر الصداقة مع ممثل ما نيسمان اخوان، المؤسسة الألمانية التي تعاقدت على حفر المناجم في ويكش، وقد مكنته مهنته من الاطلاع على الوثائق التي كانت تكشف النقاب عن الخطط الإسبانية من أجل استثمار الريف، والتي كانت تبرهن في الوقت نفسه عن العجز والفساد الإسبانيين.
———————————————–
الحلقة الثانية
عبد الكريم الأب يرحل إلى تطوان
هذه هي قصة شعب «الريف» وقد هب في العشرينيات من هذا القرن، بقيادة رجل يدعى عبد الكريم، يحارب إسبانيا الطامعة في أراضيه، وذلك بالسلاح الذي يكسبه منها في ميادين القتال، فينزل بها هزائم يشهد المؤرخون أن أية دولة استعمارية لم تمن بمثلها قط، كما يشهدون على أنه كان لها أكبر الأثر في تطور الأحداث في ما بعد في إسبانيا بالذات.لعل هذه هي اللحظة المناسبة من أجل تقرير نقطة بالغة الضرورة. إن بعض النقاد، وبالخاصة أولئك المتأثرين بالاتهامات الموجهة إلى عبد الكريم من قبل المؤلفين الإسبانيين والفرنسيين، قد يزعمون أنني تأثرت بأبنائه كي أصوره تحت أضواء هي في مصلحته كليا. وقد يكون من العسير دحض هذه التهمة، ولا يمكنني أن أصرح إلا بما يلي: إنه ليكون من الأيسر، ولعله يكون من الأربح، أن أصور عبد الكريم رجلا شريرا وأن أجعله يبدو غدارا قاسيا، لأن تلك هي الصفات التي يتوقعها الغربيون ويعجبون بها. ولقد سبرت الحقيقة عميقا قدر مكنتي، وكان الرجل الذي برز بالنسبة إلي، إنساني ونبيل، وليس في الريف شخص واحد يمكن أن يقول كلمة واحدة ضده. وإنه لمن المحال أن أكون موضوعيا، لأن المواد اللازمة من أجل هذه السيرة غير متوفرة. ولقد كان الإسبانيون والفرنسيون، وهذا أمر طبيعي، «ضد كريم»، وليس لاتهاماتهم أساس من الصحة، كما هي الحال بالنسبة إلى ادعاءاتي المضادة. وفي اعتقادي أن امتداح عبد الكريم ليس من الجور في شيء.
يمكننا أن نتخيل أن عبد الكريم قضى السنوات الخمس الأولى من حياته في منزل الأسرة في أجدير، وهو مكان ذو شأن، إذ كان والده قاضي المدينة، وهو رجل يحاط باحترام عميق لعلمه ولاستقامته على حد سواء. كان قاضيا شريفا، كما أوضح لي أحفاده، لأنه «كان على قدر كاف من الغنى بحيث لا تمسه حاجة إلى تناول الرشوات من كلا الطرفين في أية دعوى». كان كريم الأب صاحب أملاك كبيرة في المنطقة، وكانت منتجات هذه الأملاك تضاعف المرتب القضائي الذي كانت «الخماسيات» المجاورة تدفعه عينا. وهكذا كانت الأسرة غنية في مقاييس الريف، وكانوا يأكلون كل يوم ما هو أكثر مما كان سائر الريفيين يأكلونه في تلك الأيام. وفي سن الخامسة، هبط عبد الكريم الهضبة كي يواظب على الكتاب، المدرسة حيث كان أبناء المحلة يحفظون القرآن عن ظهر قلب، وظل يدرس في هذا الكتاب حتى بلغ العاشرة.
في عام 1892، وهي السنة التي رزق فيها كريم الأب بابنه الثاني، انخرطت العائلة التي كان ينتسب إليها في قضية ثأر، في ضغينة دموية كانت جذورها قديمة ومنسية منذ زمن طويل. ولقد كان كريم الأب معارضا صريحا لهذه العادة التي كان يسميها «لعنة» الريف، وإذ لم يقبل بالانسياق مع أسرته في تأييد عقيدة «السن بالسن والعين بالعين»، فقد فضل أن يذهب بهم إلى تطوان حيث كان ابنه البكر يدرس اللغة العربية والشرع الإسلامي في الجامعة، ويحصل المعرفة على العالم.
ولا ريب أن مدينة تطوان القديمة المسورة، هذه المدينة التي لم يدخلها مسيحي قط، قد بدت في نظر الصبي الصغير الذي يبلغ العاشرة، بعد الريف المتوحش، فردوسا من الثقافة والعلم ونهل من ينابيعه العتيقة حتى درجة ما حتى عام 1899، حين قفل والده عائدا إلى أجدير بعدما سمع بأن مسألة الضغينة الدموية قد انتهت.
صحب عبد الكريم، الذي بلغ السابع عشرة آنذاك، والده إلى السوق حيث كان يصغي، مستوفزا على الأرض، إلى الأقاصيص المختلفة عن حياة الريف. وتقرر أن يمارس عبد الكريم مهنة والده، التي كانت لجده ووالد جده أيضا، بحيث أرسل عام 1905 إلى فاس ليطلب العلم في جامعة القرويين القديمة، وهي من أقدم مناهل العلم في العالم لأنها أنشئت في القرن التاسع.
———————————————–
الحلقة الأولى
الاسم: محمد بن عبد الكريم الخطابي
هذه هي قصة شعب «الريف» وقد هب في العشرينيات من هذا القرن، بقيادة رجل يدعى عبد الكريم، يحارب إسبانيا الطامعة في أراضيه، وذلك بالسلاح الذي يكسبه منها في ميادين القتال، فينزل بها هزائم يشهد المؤرخون أن أية دولة استعمارية لم تمن بمثلها قط، كما يشهدون على أنه كان لها أكبر الأثر في تطور الأحداث في ما بعد في إسبانيا بالذات.
ولد سيدي محمد بن عبد الكريم الخطابي في أجدير عام 1882، بكرا لأبيه عبد الكريم القاضي المحلي. وهو معروف لدينا بصورة خاطئة، لكنها حاسمة، باسم عبد الكريم الذي هو اسم أبيه والذي حسب الإسبانيين في جهلهم العرف الريفي أنه لقب العائلة بينما لقب العائلة هو الخطابي. أما اسم «عبد الكريم» فقد كان يعطى، ولا يزال، للبكر في كل جيل بعد جيل، وهو يعبر عن إحدى صفات النبي «خادم الله». وإننا لنستطيع، بعدما أوضحنا هذا الغموض جيدا، أن نستمر في تسمية الابن «عبد الكريم» والأب «كريم الأب». ويجب علينا أن نحترس أيضا بخصوص اسمي عبد الكريم وأخيه الأصغر. فقد سمي الابن الأول سيدي محمد كما سمي الابن الآخر محمد، والاسمان يكتبان بصورة متماثلة في اللغة العربية، لكن الميم ترفع في الاسم الأول وتنصب في الاسم الثاني للتمييز ما بينهما.
ولقد نشأ عبد الكريم في دار العائلة في أجدير المشرفة على خليج الحسيمة الذي تنهض في وسطه الجزيرة حيث تقوم القلعة الشاهقة ذكرى دائمة للتهديد الإسباني الموجه إلى الريف. وفي عام 1925 دمر الإسبانيون منزل عبد الكريم في محاولة منهم لمحو ذكرى الرجل الذي سبب لهم جميع تلك المتاعب. وفي عام 1964 وقفت على شرفة البناء الذي شيد مكانه. إن الأرض تمتد شمالا بلطف حتى الشاطئ، باستثناء جرف شاهق شديد الانحدار يحجب مرفأ الحسيمة الصغير الذي ترتفع وراءه ذروة الجبل الجديد الخشنة، وهو اللسان الأرضي الكبير الذي يمتد الساحل حواليه في اتجاه الغرب. وتستلقي سواحل الخليج في الشمال الشرقي منبسطة عريضة حتى يرتفع خط الساحل على بعد حوالي خمسة عشر ميلا من أجدير، في مهماز من الجبال الريفية التي تفصل بني ورياغل عن أراضي بني تمسمان القبلية. وأدرت ظهري إلى البحر وتطلعت نحو الجنوب حيث ترتقي الأرض بعنفوان نحو الجبال التي تنهض في قمم وصفوف متعاقبة، حتى تبلغ ذروتها في سلسلة جبل حمام الذي تشكل الثلوج قلنسوة دائمة له في الشتاء.
ورفعت عيني عن المشهد الذي ألفه عبد الكريم صبيا ورجلا، وتوجهت إلى ابنه سعيد قائلا: «حدثني عن طفولة أبيك». لم يكن من اليسير استدراج سعيد وإخوته إلى الحديث عن والدهم. لقد رووا لي الأحداث الرئيسية في حياته، ذلك أنهم نشؤوا منذ طفولتهم على قصة نضال عبد الكريم من أجل استقلال الريف، وما كانوا يريدون أن يكونوا متكتمين بخصوص والدهم، هذا الرجل من لحم ودم الذي أحاول تصويره.
كانوا يفهمون إلحاحي المتكرر بشأن المعلومات الخاصة به، وإصراري على تلك التفاصيل الخصوصية التي تجلب الطابع العام بملابس يمكننا أن نحسها وأن نلمسها. عبثا توسلت من أجل بعض القصص عن عبد الكريم، وعن نقاط ضعفه وخصائص مزاجه. وعلمت أنه ليس من المستحب، في عالم الريف السعيد، أن يثرثر المرء بشؤون الآخرين، لأن ذلك يعتبر خرقا للتواضع وأمرا معيبا يبعث على الخجل.
إن معاصري عبد الكريم، الرجال الذين نشؤوا معه، قد ماتوا جميعا، كما علمت، لأن «الرجال لا يبلغون الشيخوخة في الريف». ولم يستطع أخو عبد الكريم الذي اجتمعت به في القاهرة، ولا صهره الذي اجتمعت به في الدار البيضاء، أن يساعداني بهذا الخصوص. كان أنسباؤه يحترمونه، وكان أبناؤه يحبونه حبا عظيما، وكان يقابلهم بالإخلاص نفسه. وإذا كان عبد الكريم يحتاج إلى نُصب، فإن أبناءه الستة قد وفروه له، لأنهم يدركون بصورة عميقة الإرث الذي تركه لهم، ألا وهو رفاهية شعب الريف. لكنهم ما كانوا يستطيعون أن يرووا لي الشيء الكثير عن أبيهم. وأعتقد أن مرد ذلك إلى العقلية العربية، أو العقلية الإفريقية الشمالية، التي تميل إلى إدراك الأشياء وتعليلها في بيانات عريضة بالأحرى منها في تلك التفاصيل الخصوصية التي ألفناها نحن الغربيين


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.