المنبوذون على الأرض .. !! آدميون و لكن !! تقرير وتصوير:شهير أكردوع - العبور الصحفي و أنت تتجول باكرا في أرجاء المدينة يشد ناظرك مظهر غير عادي، أشخاص مهمشون يتخذون من الأرصفة والحدائق أفرشة للنوم، لعدم توفرهم على مسكن يأويهم ليلا ويحميهم من البرد والمخاطر التي قد يتعرضون لها في الشارع. فهل كان هذا خيارهم أم أن الأقدار أرغمتهم على ذلك. “علي.م”. شاب في عقده الثاني، ينحدر من ضواحي مدينة بني ملال، يروي ل “العبور الصحفي” تفاصيل حياته و نمط عيشه، وعن خبايا الليل ومفاجآته له ولأمثاله ممن حكم عليهم بالمبيت في الخلاء. بدأ الحديث عن ظروفه، وكالعادة فالظروف هي الشماعة التي تعلق عليها الأسباب دائما، وهي ظروف يستطيع أي واحد التكهن بها فهي مادية من الدرجة الأولى واجتماعية محضة، بطلها التفكك الأسري، بعد موت الأب ورحيل الأم عن المنزل. وكان هذا وراء قراره بالهجرة إلى الضفة الأخرى من البحر الأبيض المتوسط، وبالطبع فمدينة الناظور هي المحطة الأولى وبداية الحلم، لكن ما لم يدركه “علي” هو أن تكون نهاية رحلته في هذه المدينة التي لا يفترض إلا أن تكون بداية. فبعد اعتقاله في أول محاولة له بالهجرة إلى أوروبا وذلك باقتحام باخرة للمسافرين وتسلق جنباتها بعد قطع مسافة ليست بالهينة سباحة من الميناء التجاري لبني انصار وصولا إلى ميناء المسافرين. استفاق من حلمه واصطدم بالواقع المرير مدركا أن ذلك صعب للغاية ويفوق قدراته، ففي الآونة الأخيرة اشتدت الحراسة الأمنية على الباخرات والموانئ أكثر من أي زمن مضى. لم يجد “علي” خيارا أمامه إلا الإنتظار قليلا وتكرير المحاولة من جديد، عسى أن يقف الحظ هذه المرة إلى جانبه ويقفز قفزة العمر إلى سفينة النجاة، لكن على ما يبدو أن انتظاره طال كثيرا وسيطول ربما للأبد. فهذا الشاب يرفض فكرة العودة إلى الديار، وببساطة لأنه لا يملك شيءا يعود من أجله، فقرر البقاء هنا والبحث على بني جلدته ينحدرون من منطقته، فتجانس معهم وتطبع بطبعهم وشاركهم جلسات تعاطي المخدرات مرغوما لأنه أصبح منهم، وكان كل ما يشغل فكره آنذاك هو أنه كيف يسابق الزمن ليلا ليمر بسرعة إلى نهار جديد. فهذا أقسى ما في يومه، ضلمة وسكون ونباح كلاب، لا جدران تعصمه من البرد والمعتدين ولا سقف يقيه من المطر. وقد سألناه سؤالا حرجا بعض الشيء، عما إن تعرض في ليلة من الليالي لاعتداء وتحرش من قبل شخص ما، فكان في جوابه إحساس بالألم وهو يخبرنا أن الأطفال والقاصرين المتشردين هم الأكثر عرضة لمثل هذه الإعتداءات والقليل فقط يسلم منها، لأن مجتمعهم الصغير هذا قانونه كالغابة، لا مبادئ ولا إنسانية والقوي منهم يعتدي على الضعيف، ولكنه حكى بارتياح عن تعرضه للسرقة أثناء الليل من قبل أشخاص هددوه بالسلاح الأبيض ليستحوذوا على مبلغ 20 درهما كان بحوزته وحذاءه الذي اتخذه وسادة، خصوصا أن أغلبهم مدمن على المخدرات و”السلسيون والقرقوبي” ويكونون في حالات لاوعي تجعلهم يقدمون على أعمال وحشية لا تمت للإنسانية بصلة، وهنا يأتي دور الأمن في ردع مثل هؤلاء الذين يتحركون بحرية وسط المجتمع، فقل ما يشهد اعتقال البعض بسبب مشاجرة أو إخلال بالنظام العالم وغالبا ما يخلى سبيلهم لعدم توفر الحجة ولصغر الفعل الذي لا يرى أي داعي لمحاكمتهم. وأضاف، أن هناك ضروف أخرى تجعل لياليه أقسى، فالمطر لا يتوقف عنده إذا ما أمطرت السماء، ففي كثير من الأحيان يتبلل كليا جراء هطول الأمطار، فحتى لو غطى نفسه بأغطية من البلاستيك يتسرب الماء تحته حينما تتبلل الأرض. وكان سؤالنا التالي عن الأماكن التي يكتريها البعض لقضاء ليلة مقابل مبلغ زهيد في زوايا بعيدة بعض الشيء عن المدينة، ومثال ذلك في “بني انصار وترقاع”، ففي هذه النقط يتجمع الكثير من الفقراء وماسحي الأحذية والمتسولين وهناك يستطيع هو أيضا اكتراء مكان للنوم بمبلغ بسيط جدا. فبدى تهربه من الجواب واضحا وهو يحاول إقناعنا وبسرعة بأنه لا يتوفر على مبلغ 5 دراهم يدفعه مقابل مبيت كل ليلة. فلقد اتضح أنه مدمن على المخدرات بشكل كبير ولا يبقي في جيبه أي فلس إلا واقتنى به ما يحتاجه للإنتشاء، فعمله كمتسول طارة وكحارس سيارات طارة أخرى بالكاد يغطي مصاريف اقتناء المخدرات وبعض الكحول. أما عن الطعام فهو أمر سهل، فجولة صغيرة على مطاعم المدينة تأتي بنتيجة لا بأس بها من بعض الطعام الذي يجود به أهل الخير والكرم عليه خصوصا في مدينة كمدينة الناظور يكون الأكل فيها آخر هم يفكر فيه المرء. أما ما لم يفكر فيه “علي” بجدية، هي الأعراض التي أصابته والتي ستتفاقم أكثر جراء البرد الذي سكن عظامه والذي تحول إلى روماتيزم ينهش مفاصله بسبب نومه على أرضية باردة في فصل الشتاء، والذي يصيب الكثير من المتشردين وكذا أمراض الصدر وما إلى ذلك من أمراض أخرى… وهذا النمط من العيش غالبا ما يغرق صاحبه في هذا اليم المضلم إلى الأبد، بسبب الإدمان وفقدان الأمل والثقة في الغير، ليبقى هذا الوضع واقعا يتعايش معه أمثال “علي” لعدم وجود أي دافع يدفعهم للتغيير، فالفقر والجهل أعدى الأعداء وهذا ما سيطر على حياتهم.