تقديم نشر موقع أريفينو قبل مدة مقالا للسيد حسين دراز بعنوان “مشاكل تعليم العربية بالمهجر، الرهان والتحديات”. وبداية المقال توحي بان السيد الكاتب سيقدم الجديد باعتباره يقدم دراسة مبنية على الملاحظة والوصف الميداني وهو أمر يرتكز على طول المعايشة حسب صدر المقال المعني. للأسف الشديد بعد قراءتي لهذا المقال ازدادت قناعتي الشخصية بأن أزمات المهاجرين من أصول مغربية بأوروبا عموما وبلجيكا خصوصا (باعتبارها حقل هذه الدراسة/الوصف التي قدمها الكاتب ) سيكون عليها أن تنتظر طويلا لعل الفرج يأتي ولعله قد لا يأتي. فالمقال لم يلامس لا من قريب ولا من بعيد لب مشكلة التعليم ككل ولم يضع قضية تدريس العربية في إطارها الصحيح. فالمقال وصف لحالة وهو أشبه ما يكون بتقرير وتبرير لفشل عملية تدريس العربية دون الجرأة على مساءلة العملية كلية. ومشكلة هذه النوعية من المقالات هو تبسيطها وأهم عنصر ضعف بها هو العجز عن النظر للهجرة من زاوية صيرورتها وتحولاتها العميقة. في هذا المقال يغيب أهم عنصر في القضية وهو وجود جيل جديد من أبناء الهجرة لديه حاجيات مختلفة والأهم انه يواجه تحديات حقيقية لكن بمنظار الأبوان اللذان تتحكم بهما النظرة تقليدية لواقع الهجرة. بمعنى آخر أن مثل هذا الحديث هو تزكية لوضعية قاتمة لثلاثة أجيال من الهجرة وحيث لب المشكلة في واد والتنظير في واد آخر. وللأسف الشديد فقراءة مثل هذا النوع من التصورات حول أزمات المهاجرين باختلاف صورها، ونحن هنا في باب التعليم، توحي بان من يصنفون في خانة النخبة من المهاجرين أنفسهم يقومون في واقع الأمر – بوعي أم لا – بتكريس وإعادة إنتاج مسببات حالة الأزمة التي تعيشها الهجرة المغربية عبر المرور عن لب المسكلة دون تكلف عناء تشريحها. واقع الهجرة وأزمة المثقف المهاجر إن الواقع الجديد والمتحول لطبيعة نتائج الهجرة يفترض أن يفهم هذا الواقع في سياق مختلف، أي في سياق الحديث عن مواطنين أوروبيين بالدرجة الأولى ولا يعيشون بالضرورة بين مجتمعين مختلفين ومتقابلين كما يوحي بذلك مقال السيد دراز. فواقع الأشياء يقول بأن المهاجرين وأبناءهم هم في حكم الأقلية والمجتمعات التي ينحدرون منها وخلفياتها السوسيو ثقافية لا تمثل لهم قوة ارتكاز بقدر ما تمثل لهم نقطة ضعف في أية محاولة للمقارنة. فالمجتمع المغربي هو مجتمع متخلف على المستوى الحضاري المادي وهو الجانب الأكثر رؤية في أية مقارنة مع مجتمعات متقدمة، وبالتالي يصبح كل ما هو نتاج مغربي محل تساؤل ومحل مراجعة وأحيانا كثيرة محل رفض من قبل الجيل الجديد. وواقع الأشياء تقول إن المجتمعات الأوروبية تفرض نفسها بشكل أو بآخر، نفسيا، على شباب الهجرة لأسباب موضوعية وذاتية وليس الخضوع لمبدأ سيادة لغة بلدان الاستقبال سوى أحد هذه المظاهر الأكثر تجليا. الخلاصة أن وضع أبناء المهاجرين من الجيل الثالث في موقع المنزلة بين المنزلتين أو بشكل أكثر تطرفا في حالة مواجهة مع مجتمعاتهم الجديدة والتي ولدوا بها سيكون فشلا ذريعا لتدبير أزمة المهاجرين وأبناءهم، بل هو إعلان بقبول وضعية حالة النفور من المغربي لدى الأوروبي وتكريس لها. إن واقع الهجرة وتحولاتها يؤكد أن الارتباط ببلد الآباء والأجداد موجود لكنه ارتباط يضمحل لفائدة العرى الجديدة التي تنسج مع مرور الزمن وبشكل خاص مع توالي الأجيال. هنا بالضبط تكمن مشكلة التنظير لأزمات الهجرة وهي تعني أن من ينظر لواقع المهاجرين إنما ينظر إليهم من خلال سياق غير واقعي يستصغر فيه ضرورة الإقرار بهذه الصيرورة الطبيعية جدا وهي أن مصير المهاجرين من أصول مغربية وأبناءهم سيكون مصيرهم أوروبيا إما كأقلية ثقافية-دينية ( بشروط) أو كمجموعة “مذوبة” هوياتيا. إن أزمة الهجرة في عمومها تمس شظاياها من يفترض فيهم أنهم مواطنون أوروبيون في غالبيتهم بحكم واقع الأمر وبحكم الروابط الجديدة التي نسجت ومازالت تنسج مع المجتمع الذي تبناهم. وهذا الواقع الجديد والمتحول بطبيعته يفرض فهمه في سياق وأكثر جرأة على طرحه. ومقال السيد دراز يوحي بان المثقف المهاجر يبدو عاجزا عن التمييز بين الأزمة كمظهر وبين مسبباتها في يوميات حياة المهاجرين وهي حالة من الشيوع بمكان. فعندما يصبح هذا المثقف عاجزا عن الإلمام، ليس فقط بالواقع الحقيقي لأزمات الهجرة، بل ويزيد على الأمر أن يدعي تقديم دراسة ميدانية تنأى عن ما يسميه بالتنظير المجرد لقضية تشكل مظهرا حقيقيا لأزمة أساسية لدى اغلب المهاجرين وهي ترتيب الأولويات. ويزيد صاحب المقال من البيت شعرا، كما يقال، فتظهر جليا صعوبة الإلمام ( أو عدم الوقوف عندها كفاية) بأبجديات المصطلحات التي يسترسل في إطلاقها، كحديثه بشكل خاص عن المجتمعات الأوروبية في مقابل المجتمعات الأصلية الملتصقة بالنسب القبلي (!!) وماهية هذه “المدرسة العربية” واستعمال اللهجات المعبرة عن الانتماءات العرقية! إن الأمر كان من الممكن أن يكون مفيدا لو أن السيد دراز فصل ولو قليلا في هذا الباب بالذات وحدثنا كقراء عمن تكون هذه اللهجات وكيف يمكن للهجة/للغة أن تعبر عن انتماء عرقي!! تساؤلات منهجية أول ما يلاحظ على كاتب المقال أنه يكتفي بعملية وصف لمشكلة تدريس اللغة العربية دون التجرؤ على طرح الأسئلة المصاحبة. فالمقال قراءة جيدة لعناصر مشكلة تعليم العربية والوقوف عندها، لكن مكمن الضعف في فيه أنه مر على موضوع تعليم العربية وكأنه من لزوميات ما يلزم المهاجرين دون أن يكلف نفسه عناء طرح أسئلة تبدو ملحة وهي أسئلة ترافق العملية التعليمية برمتها. فالكاتب تغافل عن مجموعة من الأسئلة البديهية التي لم يطرحها لا بشكل ظاهر ولا بشكل مستتر مع أنها من الأهمية بمكان في فهم موضوع من هذا الحجم واقعيا وفهم مستوى القراءة التي يقدمها. إن المنهجية التي قدمها السيد الكاتب هي منهجية وصف وليس تحليل، ومثل هذه الطريقة تعطي إيحاءا مغلوطا بأن مهمة تدريس اللغة العربية وفشلها مشكلة كبيرة للمهاجرين. ألا يحق التساؤل وبكل حياد، ألن يكون تدريس العربية – في وضعها الحالي - هو أحد الأضلاع التي تكرس أزمة المهاجرين؟ وهل تدريس العربية ضروري في إطار معطيات الواقع الحالي للهجرة؟! ثم ما الهدف المتوخى تربويا – أؤكد على كلمة تربويا – من تدريس العربية؟ هذا السؤال بالذات هو ما كنت أنتظر معرفة جوابه من السيد دراز وهو على حسب ما قال يعيش الوضع ميدانيا. ما الهدف من تدريس اللغة العربية؟ في غياب وجود جواب من أهل الاختصاص والمتحمسين لتدريس العربية بطريقتها الحالية فإنه لا يسع إلا استقراء رأي المعنيين مباشرة بالأمر من المهاجرين. ففي سؤال المهاجر الذي يقرر تعليم أبنائه العربية نجد الإجابة المباشرة ترتبط بهاجس واحد ووحيد وهو الهاجس العاطفي. فالآباء لا ينظرون إلى مسألة تعليم الأبناء هذه اللغة إلا كون الأمر طبيعيا بالنظر أن أطفالهم مسلمون وبالتالي فعليهم تعلم لغة الدين! إن هذا الفهم لعلاقة اللغة بالدين هو إرث يتم اختزاله في المساجد ويتم تعميمه على أساس انه أمر طبيعي جدا، بل أحيانا من باب ما عرف من الدين بالضرورة. وفي سؤال بعض المهاجرين يزيدون على الأمر بكونه ضروري لتدبر (نعم تدبر) القرآن الكريم. هذا الفهم المعمم يتم في غياب أي نقاش جدي وعلمي بين المهاجرين أنفسهم وحول نتائج مثل هذا الوضع الذي يصير فيه المهاجر والوسط الأوروبي وكأنهما نقيضان. بالنسبة لأغلبية المهاجرين فإنه ليس هناك سن معينة لإدخال أطفالهم “حلقات” تدريس العربية، فكل الأطفال يصبحون منذ السن الثالثة أو الرابعة مشاريع تلاميذ وهم مقبولون في هذه الأقسام. وهذه الفصول تضم في غالب الأحيان أطفالا مختلفين عمريا لحد كبير، فالطفل الصغير، من خلال وجهة النظر هذه، “سيستأنس” بالدرس حتى ولو لم يتعلم. ليس من الوارد في هذا الباب مناقشة علاقة اللغة بالدين ولا صحة هذا الربط “الفطري” بينهما وهل هو ربط صحيح أم لا ؛ إنما الهدف هو طرح سؤال آخر براغماتي وهو هل تدريس العربية بمثل هذه الطريقة ذات جدوى؟ ما هي الإمكانات المتاحة لتدريس العربية؟ إن أهم فشل للجالية المسلمة في بلجيكا والمغربية بشكل خاص أنها فشلت حيث نجح الآخرون. فالأقلية اليهودية في مدينة مثل “أنتورب” لا تزيد عن عشرين ألفا ومع ذلك تتوفر على مدرستين كبيرتين تتكفل بحوالي 90 بالمائة من أطفالها. صحيح أن الحضور اليهودي تاريخيا في بلجيكا لا يقارن مع تاريخية الحضور المغربي مثلا، لكن المغاربة ومعهم بقية المسلمين مازالوا عاجزين حتى طرح الموضوع التعليم للنقاش بشكل جدي. وفي غياب مثل هذا المشروع الذي يمكنه أن يلبي متطلبات هاجس الهوية الدينية للأطفال المسلمين فإن البديل الذي يتم توفيره هي فصول دراسية هي بمثابة عائق أكثر بكثير من كونها تشكل حلا. ما يحمد للسيد دراز في مقاله أنه أشار إلى الضعف المهول التي تعاني منه ما يمكن وصفها مجازا بالفصول الدراسية. فالأمر لا يتعلق هنا بفصول دراسية بالمعنى المتعارف عليه، فالمقصود أساسا هي جمعيات ثقافية عنوانا وفي واقع الأمر هي بنايات وجدت لغرض الصلاة بها والمترف منها من يتوفر على قاعات ملحقة تخصص “للتدريس”. وبما أن هذه الأقسام تفتح حينما تكون أقسام المدرسة البلجيكية مغلقة فهي تشكل “مدرسة رديفة”، لكن في غياب شروط الممارسة التعليمية فإنها لا تحمل من المدرسة إلا الاسم. وحتى على مستوى دعم مشروع تعليم العربية فإن الحاصل أن الآباء لا يستطيعون إلا أن يعولوا على ما تقدمه هذه الفصول دون وجود إمكانية تقديم أي عون لأبنائهم وتسهيل الوصول للهدف. فالواقع أن هؤلاء الآباء أنفسهم لا يعرفون هذه اللغة فيجد الطفل نفسه في مواجهة سيخرج منها خاسرا. فهو عليه بالإضافة للعربية تعلم لغة المدرسة الرسمية (ولاحقا ستصبح لغات بعد إضافة لغات أجنبية أخرى!) وعليه التحدث بلغة الآباء في المنزل للتواصل. وأكبر مشكلة يواجهها الطفل انه لا يجد من يساعده في كل هذه “المعارك” اللغوية. ومما يزيد الطين بلة أن غالبية المهاجرين يعمدون إلى استخدام الصحون المقعرة لالتقاط القنوات الإذاعية وبطبيعة الحال فهي موجهة لالتقاط قنوات شرقية هي أصلا نادرا ما تستعمل اللغة العربية فيما يعرض بها. والحاصل أن الطفل في وقت فراغه – على قلته – يجد في البيت كل اللعجات/اللغات التي يمكن تخيلها في هذه الحالة من المصرية إلى المغربية مرورا بالخليجية والشامية والعراقية.. وللأسف فهو لا يجد ما يحتاج سماعه والتدريب عليه وهي لغة المدرسة الأساسية ولغة البلد الذي ولد به. فالمهاجرون الذين يتهافتون على هذه الأطباق الفضائية نادرا ما يشتركون في خدمة الكابل المؤدى عنها ليتمكن الطفل من مشاهدة قنوات محلية والاستئناس بها. وهذا الواقع يزيد من صعوبة تعلم الطفل للغة المدرسة وتصبح لغته هشة عبارة عن كوكتيل من هنا وهناك مع تعدد هذه “الخيرات” فهو لا يتمكن من أي منها وبشكل خاص على مستوى خاصيات النطق (الفونيتيك). .. يتبع