– جولة في مستشفى المدينة ! لم أكن اتوقع يوما أن حكاياتي التي كنت احكيها عن مستشفى المدينة ستصبح – بعد أن أقتربت منه أكثر ودخلت دهاليزه – مجرد غيضٌ من فيض ! تذكرت حديث صديقي ذات مساء : "داخل مستشفى المدينة تستطيع أن تلمس من خلال جولة قصيرة فقط ، المشاكل التي يتخبّط فيها المستشفى، ويُعاني من ويلاتها المرضى." جولة قصيرة!! .. أعدت الجملة في ذهني مرارا ..متسائلا ،هل جولة قصيرة فعلا كافية!؟.. ذات صباح صيفي قررت فعلا وانا في جولة داخل المدينة أن أعرّج على المستشفى إياه...كان ينتابني شعورغريب غير معتاد وانا في الطريق الى المستشفى ولكن لم أكن أتصور أن` الوضع` هناك مؤلم جداً، وأن فعلا ، جولة صامتة بقسم المستعجلات و دون حتى استجواب أحد كافية لنقل الصورة...وأكثر! تعمدت أن أبدأ جولتي جهة قسم المستعجلات ...البداية لم تكن مشجعة بالمرة! قسم المستعجلات بالمستشفى لا يحمل أي صفة للاستعجال، فانتظار المريض هناك قد يدوم لساعات طويلة، وقد تتقاذفه الاقسام بينها للتخلّص من الضغط الذي يعاني منه قسم المستعجلات خاصة ليلا. الازدحام أمر لا مفر منه ، ولابد للانسان مهما حاول التحكم في اعصابه أن يفقد بين الفينة والأخرى صبره...نظرات سمّرها الذهول .. عشرات من الوجوه المشدوهة التصقت بزجاج الابواب و النوافذ المسيجة تنتظر دورها ومنها من فقط تراقب ما يحدث...تعاني في صمت، مرددة وبقوة وهي تمسح دموعها بأكف يديها " لا حول ولا قوة الا بالله ". قسم المستعجلات بأكمله يئن تحت وطأة الإكتظاظ والإزدحام الشديد، مرضى يصارعون الموت في غرف تفتقد لأدنى شروط السلامة الصحية، في الوقت الذي يجب فيه أن تتجاوز المستشفيات العمومية هذه المشاكل البدائية ... فقسم المستعجلات توجد به فعلا أزمة مزمنة... وهي ليست من الأزمات التي سيكون الزمن كفيلاً بحلها لأن الزمن كما ثبت بالتجربة لا يزيدها إلا تفاقماً!! بين قسم المستعجلات وأقسام المستشفى الأخرى مسافة قد تحتاج فعلا الى "طاكسي" لقطعها ، ممرات وسراديب ومنعرجات داكنة اللون لاحياة فيها، تشبه أحلام المرضى الهاربة من العلاج..مكتظة بالغموض والخوف.. نباتات زاحفة تنمو من خلال النوافذ المسيجة، بقع دم متناثرة هنا وهناك بالأروقة ،صمت يصم الآذان في الممرات و روائح قوية تنبعث من هنا وهناك ...حال مجنون مروع يجعل القلوب تدق بسرعة جنونية. الكثير من المرضى هناك وعلى مدار الساعة يكتظ بهم المكان، ضيق الغرف والممرات يزيد الوضع تأزماً وتعقيداً حيث يرتفع أنين المرضى وتذرف دموع المرافقين على مرضى زادهم الانتظار ألماً على ألم ومعاناة فوق معاناة بالرغم من أن الاطباء وعلى قلتهم والممرضين يحاولون المساعدة بما يستطيعون ! عشرات المرضى كانوا يمرون امامي ، إما على أسرة المستشفى المتنقلة الصدئة او على الكراسي المتحركة المهترئة ، أو في بعض الأحيان على ظهور بشرية متأبطة لملفات وأشعة أو أغراض أخرى شبيهة .. وحتى وإن بقي المريض في المستشفى فهو يوضع على سرير من دون أغطية أو وسائد ... حتى الأدوية غالبا ما يُطلب من المريض شراؤها من خارج المستشفى، كونها غير متوفرة ( كما يقولون دائما) ، وحتى الصور الشعاعية غالباً ما تسمع الجملة المعهودة هناك " الراديو خاسر" ... كما أن رعاية المريض الشخصية موكلة على مرافقيه ، لذلك يبقى الكثير من المرافقين للمرضى معهم ، ليستطيعوا على الاقل أخذهم إلى الحمام وإعادتهم الى أماكنهم !!! عشرات المرضى يمرون، أصوات متعالية تنبعث من حين لآخر نتيجة صراعات كانت تنشب بين الحين والآخر بين الممرضين ومرافقي المرضى الذين كانوا يحتجون احيانا على عدم العناية بأقربائهم ..! عبر الممر المحادي لقسم المستعجلات ، مجموعة من المرضى مصطفين على أسرتهم، لمحتُ طفلا يحملق بعينيه الذابلتين، وأمه تنظر بعينين أكثر ذبولا... سمعت الأم تصرخ وهي تطوف حائرة في الممر :" هل من طبيب هنا...ابني يموت .. ابحثوا لي عن طبيب.." لم تجد المسكينة بدا من أن توجه وجهها إلى الله وبدأت تدعوا و...تنتظر. عند مكتب الطبيب داخل قسم المستعجلات اصطف طابور من المرضى والزوار، وطابور من المصابين، منهم من يئن تحت وطأة المرض، وآخرون ينتظرون دورهم للدخول الى الطبيب او في انتظار أن تشق أشعة (الراديو) صدورهم.. الكل في مد وجزر... في الوقت الذي يُفتح فيه باب المكتب أو يشاهدون طبيبا او ممرضة قادمة، يقبل الجميع دفعة واحدة مرضى و زوار ثم ينفضون في لحظة واحدة...بدا لي المشهد وكأنه فيلم رعب حقيقي، وكان يبدو مشهد الطبيب وسط الجموع وكأنه غريق يستغيث ، يحاول في كل مرة العودة الى مكتبه لكن الزحام كان يبتلعه كلما حاول ذلك .! تفرقت الجموع حين نهرهم حراس الامن، وحين غاب الحراس بدأوا يتقاطرون من جديد، يحتدمون أمام الباب، يطيلون الوقوف، ينهرهم الحراس، يتراجعون للوراء بخوف ، يختفي الحراس وراء الأبواب، يعودون إلى التدافع من جديد، يفترشون الأرض قرب مكتب الطبيب تحرياً لفتح الباب. عند مدخل الادارة حيث يتم تسجيل دخول وخروج المرضى ، عالم آخر ، فهنا أيضا لابد من الصفوف والانتظار والازدحام و... التشاجر، جحافل من المواطنين يرتادون هذا المكان للتسجيل . في الفناء.. أناس حيارى، مشدوهون، الكل في مد وجزر .. على الجانب الآخر ، وجوه عابسة وغاضبة، لا ادرى اي المناصب تشغل بالمستشفى ، هي ليست اطباء ولا حتى ممرضين..تنظر الى جيبك أكثر ما تنظر الى حالتك الصحية ، شاهدت الكثير من الزوار يفضلون التوجه اليها ك"وسيط"، بل ومنحها مالاً (تدويرة) .. سألتُ أحد الحاضرين الذين يراقبون المشهد، بهدوءٍ مصطنع::" لماذا تقصدون هؤلاء ؟ " قال لي ، إن لم تفعل ، جعلوك تواجه مصيرك بمفردك، من خلال التوجه صوب الادارة للتسجيل والوقوف في " طابور" طويل أوصوب قاعة الإنتظار ..أو من خلال البحث عن كرسي متحرك للمريض، خاصة وأن المستشفى يعرف "خصاصا" مهولا بالنسبة للكراسي المتحركة، وإن صح القول انعدام تام لوسائل نقل المرضى داخل المستشفى. وهؤلاء "السماسرة " أو لنسميهم " وسطاء" يتكلفون بالامر ..!! أصوات متعالية كانت لا تزال تنبعث من حين لآخر من أمام مكتب الطبيب وعند البوابة الرئيسية لقسم المستعجلات .. طوابير وانتظار وازدحام وتشاجر.. حراس الأمن بالمستشفى كانو يحاولون الحرص على منح الأولوية للحالات الحرجة، ما كان يدفع باقي المرضى وأسرهم، إلى الصراخ والدخول في مشادات كلامية معهم "كلنا حالات حرجة ، وإلا لما جئنا الى هنا " سمعت أحدهم يصرخ في غضب و بأعلى صوته .. لكن رغم تواجد حراس الأمن ، إلا أن مشادات كلامية بين أفراد أسر المرضى والاطباء لم تكن تنتهي بل و كانت تتطور احيانا إلى اعتداءات ، بعض المرضى كانوا يدخلون في مشادات كلامية مع بعض الممرضين والأطباء ، ما كان يعرض حياتهم أحيانا للخطر، ناهيك طبعا عن الاضرار النفسية التي قد تلحقهم من جراء مثل هذه التصرفات التي كثيرا ما تأتي في ظل مداومتهم بقسم المستعجلات. سألت حارس أمن بالمستشفى عن الوضع ، اخذ نفسا عميقا قبل ان يجيب "عملنا شاق جدا لأننا مكلفون بالأمن، وكثيرا ما نصطدم بالمواطنين الذين يرغبون في الدخول عنوة ... فما زال الاطباء هنا يتعرضون اثناء تاديتهم لواجبهم الانساني لشتى انواع الضرب والشتم من قبل بعض مرافقي المرضى...وحين نؤدي واجبنا و نتدخل ننال نصيبنا من الضرب والشتم.." حال الحراس الأمنيين في المستشفى ، هو حال لايختلف كثيرا عن حال الاطباء والممرضين الذين يعيشون ظروف عمل صعبة، بسبب تدهور الأوضاع الحالية التي يعيشون فيها بشكل يومي، فهم أيضا ضحايا الاكتظاظ والضغط الذي يؤدي إليه، ما قد يفسر -ربما- سوء تعامل بعض الاطباء مع المرضى، وكأن حال لسانهم يقول "أخوك مكره لا بطل". خلاصة الجولة.. الوضع الطبي في المستشفى كارثي،أخطاء بالجملة وتسيّب وانعدام الجودة... مستشفى يعرف نقصا مهولا على مستويات عدة منها على مستوى الأطر الطبية العاملة داخله والكفيلة باحتواء أعداد المرضى الذين يتزايدون يوما بعد يوم، زد على ذلك ضعف التجهيزات الطبية داخل أروقة وأقسام المستشفى.. وما لاحظته كذلك ،غياب تام للفنيين القادرين على تشغيل الأجهزة الطبية على الاقل المتوفرة منها. الكثير من أهالي المدينة يبدون تذمرهم من مستوى الخدمات المقدمة هناك ،هذا بالإضافة إلى تجاوزات أخرى كثيرة منها حالات استغلال المرضى أحيانا وتقاضي مبالغ مالية مقابل الحصول على خدمات يفترض أن تكون مجانية.. وعندما تدخل إلى هذا المستشفى إن جاز لنا إطلاق هذا الاسم عليه، أول ما يصدمك ، مستوى النظافة المتدني بشكل كبير... أرض متسخة، حشرات منتشرة ، حمامات قذرة ، القذارة والروائح الكريهة شيء لا يطاق.. الوضع متردٍّ بشكل كبيرجدا..ليبقى واقع الصحة في المدينة، رهين طوابير مرضى يبحثون عن سرير للعلاج أو كما يصفه بعض أهالي المدينة " سرير المرض" ! يناشدون الجهات المعنية بقطاع الصحة، التدخل من أجل تحسين الخدمة العمومية والتكفل الحقيقي بالمرضى، وإعادة الاعتبار للخريطة الصحية بالمدينة .