رحل الأديب المغربي، اليهودي إدمون عمران المالح، أحد وجوه التعدد الثقافي والحضاري بالمغرب. رحل مخلفا وراءه إرثا إنسانيا ووفرة في العلاقات الإنسانية الرائعة التي طبعها بأريحية ناذرة وابتسامات صادقة وعنفوان ناطق. واليوم، نختار لمتصفحينا مقالا من أروع المقالات التي كتبت عن الراحل أمس، وهو مقال بيار أبي صعب، مقال يعيد إحياء الكاتب، وكأنك تراه !! الرهان أونلاين ولادته الإبداعيّة جاءت متأخرة، مع «المجرى الثابت» الصادر في باريس عام 1980. عميد الأدب المغاربي الذي أغمض عينيه يوم أمس الإثنين في أحد مستشفيات الرباط، ويوارى الثرى اليوم الثلاثاء في مدينته البحرية الجميلة، صاحب مسيرة غنيّة حافلة بالأعمال والمواقف والممارسات التي أسهمت في بلورة وعي أجيال من المثقفين والكتّاب. حين عاد أواخر التسعينيات إلى أرضه، بعد ثلاثة عقود أمضاها في منفاه الطوعي، كان الجميع يعرف أنّها المحطّة الأخيرة في مسيرة خاصة تكاد تختصر تاريخ المغرب الحديث. هكذا أعاد إدمون عمران المليح (1917 2010) تأكيد التمسّك بجذوره الضاربة عميقاً في أرض أجداده، منذ نزوحهم الكبير الذي تلى انهيار الأندلس. وفي تلك الأرض، في الصويرة تحديداً كما أوصى، يدفن اليوم، الكاتب الذي وصفته «الإندبندنت» ب«جيمس جويس المغربي»، بعد تأبين تحتضنه المقبرة اليهوديّة في الرباط. الجنتلمان التسعيني الأنيق، عميد الأدب المغاربي، وأحد الرموز الأساسيّين للحركة الوطنيّة في بلاده، تخلّى عن بسمته الرسوليّة، صباح أمس الاثنين، في أحد مستشفيات الرباط. بدأ إدمون حياته مناضلاً ضد الاستعمار الفرنسي، وانخرط في الحزب الشيوعي المغربي الذي وصل فيه إلى مناصب قياديّة، قبل أن ينفصل عنه أواخر الخمسينيات بسبب تقاعسه عن الانغراس في التربة المحليّة. أما الأدب، فلم يطرق بابه إلا متأخّراً، في باريس التي لجأ إليها منذ عام 1965 بعد انتفاضة آذار/ مارس الدامية في الدارالبيضاء. أستاذ الفلسفة المشغول ب«مدرسة فرانكفورت» مع رفيقة دربه ماري سيسيل (رحلت عام 1998)، كان في الثالثة والستين حين كتب باكورته الأدبيّة «المجرى الثابت» («ماسبيرو»، 1980). هذا العمل الأوتوبيوغرافي، وضعه، شأن كل ما كتب لاحقاً، في لغة موليير التي لقحها من خلال تقنيات السرد، بمستويات العاميّة المغربيّة وخصوصيّاتها. لاحقاً عادت السيرة الذاتيّة إلى الضاد، شأنها في ذلك شأن معظم كتاباته الأخرى. مواقفه الشرسة من إسرائيل كلّفته عزلة حقيقية على الساحة الفرنسيّة ثم تتالت إصداراته في باريس، علماً بأن مواقفه السياسيّة الحاسمة إلى جانب القضيّة الفلسطينيّة حرمته من ملكوت النشر الفرنسي: «إيلان أو ليل الحكي» («ماسبيرو»، 1983)، «ألف عام بيوم واحد» («لا بانسيه سوفاج»، 1986)، «عودة أبو الحاكي» (1990). ويمكن أن نضيف «آبنر أبو النور» (1995)، و«حقيبة سيدي معاشو» (1998)، و«المقهى الأزرق» (1998). من دون أن ننسى كتابات نظريّة ونقديّة نشرها تحت عنوان «جان جينيه، الأسير العاشق، ومحاولات أخرى» (1990)، وإسهاماته في النقد التشكيلي عن أحمد الشرقاوي وآخرين. كل هذه المؤلفات، جعلت من صاحبها أحد رواد الأدب المغاربي، ومعلماً ترك تأثيره على أجيال متعاقبة. ذات يوم بادره صحافي بريطاني بالسؤال: «أنت كاتب يهودي مغربي...»، فقاطعه المليح على الفور مصحّحاً: «ليس تماماً! أنا كاتب مغربي يهودي». وربّما كان هذا التفصيل البسيط كافياً لاختصار الرجل. هذا الوعي الوطني الذي بناه على مناهضة الاستعمار، والدفاع عن الحريّة، ومناصرة الطبقات الدنيا، جعل من «الحاج إدمون»، كما يلقّبه محبّوه، وريثاً شرعياً لقيم فكريّة وروحية كثيرة متداخلة. في نصّه المشبع بإيقاعات العامية المغربية وتلاوينها، القائم على لغة المجاز والأمثال، نقل الجذور اليهوديّة في الصويرة وآسفي، وصوّر طقوس العشيرة الأولى وعاداتها وتاريخها. كذلك عكست كتاباته الصحوة الوطنيّة والنضال من أجل الاستقلال، وانطبع أدبه، مثل مواقفه العلنيّة، بالدفاع عن قضيّة فلسطين، وإدانة الممارسات الإسرائيليّة العنصريّة بحق الشعب الفلسطيني. من الحاج إدمون سنحتفظ طويلاً بتلك البسمة العارفة. إضافة إلى كتاباته التي ستبقى من ركائز الروح المغربيّة والأدب العربي والإنساني، سنتذكر صوته الهادئ ونظرته النقدية التي تغذّي النقاش، وانحيازه الدائم إلى الموقع المعارض. في زمن المرتزقة وتجار الفتنة والانغلاق والتعصّب، سنبقى نتعلّم من مفهومه العلماني ل«المواطنة». وسنستلهم حماسته وراديكاليّته في الدفاع عن العدالة، ومواجهة الظلم بشراسة على حساب امتيازاته الشخصيّة. إنّه المعلّم الذي شهد للحقّ حتّى اللحظة الأخيرة من حياته.