أمام باب المدرسة، في مدخل العمارة، في المصعد، في العمل... لديهن دائما ما يقال، يسألن عن الجديد في كل ما له علاقة بالأبناء، يقلقن إذا لم يتناول ابنهن الخضر والفواكه لبضعة أسابيع، يقمن بكل شيء نيابة عن أبنائهن، يخططن، يراقبن أدق التفاصيل ، يردن أن يتقن ابنهن عدة لغات، يملأن وقت فراغه بعدة أنشطة ويحرصن على أن لا يشعر أنه أقل من أقرانه... إنهن أمهات ينشدن المثالية، ويشعرن بالضغط كلما لم يصلن إلى المبتغى، ثم ينتهي بهن الأمر إلى الإحباط وأحيانا إلى الاكتئاب. فهل هو حقا بحث عن "المثالية"؟ يري المتخصص في علم النفس الاجتماعي محسن بنزاكور أن المثالية تقتضي أن يصل الإنسان إلى التوازن، أي أن يصل إلى أعلى مستوى ممكن فيما هو متوفر، لأن الأم التي تتصرف بهذا الشكل، إما أن يكون المحرك هو التباهي أو"الفْشْر"، أو أن يكون تعويضا عن إحساس بنقص أو حرمان عاشته ولا تريد لأبنائها أن يعيشوا مثله، وفي كلتا الحالتين، يضيف بنزاكور، هناك غياب للتوازن من الناحية النفسية، لأن الحرص الشديد على توفير كل هذه المتطلبات للأبناء يأتي على حساب صحة الأم وحياتها الزوجية، الأمر الذي يؤدي إلى الطلاق في كثير من الحالات. هناك عامل آخر يزيد الطين بلة، وهو لجوء الأمهات إلى مقارنة أبناء الغير مع أبنائهن، فيزدن الضغط على أنفسهن، وأحيانا يأتي الضغط من الأبناء الذين عودتهم الأم على مستوى معين من "الخدمة والراحة"، ولم تعد قادرة على تحمله، فيتضح لها في النهاية أنها خلقت داخل الأسرة نموذجا للاستهلاك تجاوزها ولم يعد بإمكانها التحكم فيه، يضيف بنزاكور. هل صحيح أن "الولاد ديال اليوم صْعاب"؟ تعيش مريم، موظفة وأم لثلاثة أبناء، صراعا مع الزمن، علامات الإرهاق بادية على وجهها، تمشي بخطوات حثيثة في كل تنقلاتها حتى تربح بعض الوقت لقضاء مآرب لا تنتهي، وجلها له علاقة بأبنائها، لأنها لا تريد أن ينقصهم أي شيء، ولا تريدهم أن يحرموا من أشياء لم تكن متاحة لها في طفولتها، صحيح أنها تتصرف ماديا في حدود ما تسمح به ميزانية الأسرة، ولكنها لا تراعي حدود طاقتها الجسدية، لأنها في بحث لا ينقطع عن الأفضل لأبنائها، وفي هذا الإطار يقول بنزاكور إن الأسرة هي مجتمع مصغر، لها أرضها وميزانيتها وبعدها الصحي والنفسي... وإذا لم تؤخذ هذه المعطيات بواقعية تبدأ المعاناة، فالأم التي لا تتعامل مع حدود طاقتها بواقعية تدخل في دوامة الضغط والتعب الذي لا تنتبه إليها إلا عندما تتجاوزها الأحداث وتصاب بالمرض الجسدي أوالنفسي. فهل نحن المسؤولون عن هذا الضغط الذي نعيشه مع أبنائنا؟ هل هم حقا في حاجة إلى كل ما نفعله لأجلهم؟ هل تساءلنا يوما عن ما نريده من أبنائنا أو ما ينتظره أبناؤنا منا؟ هل أصبحت التربية صعبة، وهو ما تترجمه عبارة "الولاد ديال اليوم صْعاب"؟ ما يحصل في الواقع دائما حسب المتخصص في علم النفس الاجتماعي محسن بنزاكور، هو أن الإنسان يتربى في جيل ويربى أبناءه في جيل آخر، وعندما يرتكب أخطاء في التربية، يقول "هاد الجيل صْعيب"، عندما نقول صعب، بالنظر لماذا؟ وفي أي وقت؟، لأننا كنا بالنسبة لآبائنا "صْعاب"، وبالتالي فالمشكل هو أننا لم نحط بهذا الجيل الجديد ما يجعله يخضع للتربية، لأن الأم لا تسعى إلى إكساب أبنائها مهارات الاستقلال، بل تعلمهم أنها هنا للاستجابة لكل طلباتهم، وهنا نتحدث عن الطفل الملك (l'enfant roi)، إذن هؤلاء الأطفال هم نتاج تربية "معينة" والدليل أننا نجد أطفالا في نفس السن ومن نفس الجيل يعيشون نوعا من الواقعية ولا يطالبون بأكثر من الممكن، ولاحقا ينجحون في تحمل المسؤولية.
هوس التفوق الدراسي.. عندما يصبح الحصول على أعلى نقطة رهان الأسرة وإلى كل تلك التفاصيل التي تحرص الأمهات على القيام بها على أحسن وجه ومهما كان الثمن، ينضاف أكبر ضغط تعيشه الأم والأسرة ككل، وهي حصول الأبناء على معدلات جيدة وتفوقهم في الدراسة، إنه رهان كبير لا تريد أي أسرة خسارته. في أحد الأيام، كانت مريم رفقة زوجها في جولة بالسيارة، فسمعت في إحدى البرامج الإذاعية عن الحساب الذهني، وعن دوره في تنمية مهارات الطفل في الحساب، هذه المراكز كانت آنذاك في بداياتها ولم تكم منشرة بالشكل الذي نعرفه اليوم، قرر الزوجان المقيمان بالدر البيضاء تسجيل ابنهما بأحد المراكز بالمحمدية، تقول مريم "أردنا أن نعطي لابننا قيمة إضافية بامتلاكه لهذه المهارة في الحساب، ولأزيد من سنة، كنت أتناوب أنا وزجي على إيصاله إلى المركز وانتظاره حتى انتهاء الحصة، وكل ذلك على حساب نهايات الأسبوع وعلى حساب راحة الأسرة، وبعد أن تعبنا وبدأنا نشعر بالضغط، قررنا التوقف". هل كان الأمر يستحق كل هذا العناء؟. يبدو أن ضغط النقط بات أمرا خطيرا جدا، من ناحية المدارس فعلا تجعل من النقطة حاجزا حقيقيا للالتحاق بالمدارس والمعاهد الكبرى، ولكن في بعض الحالات، لا تقتنع الأم/الاسرة بمحدودية المستوى المعرفي لابنها، وتعتقد أن مستواه سيتحسن إذا أحضرت له أستاذا أو سجلته في دروس خصوصية، وحتى عندما لا يكون لديه مشكل في التحصيل، تملأ أوقات فراغه بكل ما من شأنه مساعدته على الحصول على معدل أفضل معدل، فتعيش كل الأسرة تحت الضغط.
حتى لا يشعر ابني أنه أقل من أقرانه هل انتهى الأمر عند نقط الامتحانات؟ لا ليس بعد، لأن الأمهات يخضن "نضالا" آخر، وهو أن لا يشعر ابنهن أنه أقل من أقرانه، فإذا لاحظت الأم أن أغلب زملائه لديه نوع معين من الهواتف الذكية، فإنها تسارع إلى اقتناء هاتف في أقرب مستوى لذلك الذي يمتلكه رفاقه، وإذا اختارت له مدرسة خاصة، فإنها تراعي أن يظهر في مستوى زملائه الذين يدرسون معه سواء في اللباس أو الأسفار... كل تفاصيل حياة هذا الطفل تتابع بعناية حتى لا تقع "الكارثة"، وهي أن يفقد الطفل الثقة بنفسه و"يْتْعْقد"، وقد تأتي محاولة تفادي هذا الأمر على حساب الأم والأسرة ككل، فالأم تبذل قصارى جهدها حتى لا يحرم ابنها، وهنا يبدأ الخطأ، لأن بناء الشخصية يكون أيضا بالحرمان، كما يوضح المتخصص في علم النفس الاجتماعي محسن بنزاكور، فالذي لا يحرم لا يعطي قيمة لما بين يديه، فنحن لا نعرف الأشياء إلا بنقيضها، وعندما لا نؤمن بالحرمان في التربية، فإننا نؤدي الثمن، لأن رغبات الإنسان لا حدود لها، كما أننا لا يمكن أن نبني الإنسان بالمظاهر، بل بالحوار والنقاش، فعندما لا تتوفر لدي الإمكانيات، أشرح ذلك لابني وأعلمه أن يحبني كما أنا وحسب إمكانيات الأسرة، ولا أضغط على نفسي حتى يحصل هو على ما يريد. نعود إلى مريم وحياتها اليومية مع أبنائها الثلاثة، لقد ارتكبت خطأ كبيرا عندما دللت ابنتها البكر أكثر من اللازم، وهي تدفع اليوم ثمن هذا الخطأ، هذا علما أن زوجها يساعدها، كما تقول، على تربية الأبناء، ومع ذلك فإنها لم تعد قادرة على التحمل، فهي عاجزة عن اتخاذ أي قرار: هل تستمر في هذا الضغط القاتل؟ أم تترك العمل وتتفرغ لأسرتها؟ في الحالة الثانية، يبقي لديها تخوف من الإحساس بالندم.
تقاسم مسؤولية البيت بين الزوجين.. عقليات لم تتغير هذا حال عدد كبير من الأمهات الموظفات اللائي أرهقهن الجمع بين مسؤولية العمل والبيت، لأن الزوج نادرا ما يتحمل ثقل مسؤولية البيت مع زوجته، وحتى وإن تحمل جزءا منها فإنه يتمنّن أويعتقد في قرارة نفسه أنها غير مفروضة عليه، فالمجتمع كما تقول الاختصاصية النفسية عزيزة زيوزيو، تغير ولم يواكبه تغير في العقليات، لأن الرجل يرى دائما أن المنزل وتربية الأولاد هو من مسؤولية المرأة، هذه الصورة النمطية والتي تلقاها في تربيته تجعله يرفض أن يتقاسم معها المهام، فتجد نفسها مقسمة بين العمل والمنزل، كما أن انتظارات المجتمع من المرأة كثيرة ، الأمر الذي يشكل ضغطا كبيرا عليها. وفي نفس السياق، يعتبر المتخصص في علم النفس الاجتماعي محسن بنزاكور أن الزوج الذي يقبل بالراتب الشهري الذي تحصل عليه المرأة، ويرفض تقسيم المهام داخل المنزل، يمارس "عنفا" ضد المرأة، لأنه له دورا في الوضعية التي تعيشها والتي قد تصل إلى الاكتئاب. من الطبيعي أن الأم تتنمى الأفضل لأبنائها، لكن بعض الأمهات، حتى وإن تجازون حدود طاقتهن، يعشن دائما تأنيب الضمير ويعتقد أنهن مقصرات في حق أبنائهن، إنه الهوس بالتربية، والذي يحسبنه مثالية يؤدين ثمنها عند تتأثر صحتهن الجسدية والنفسية، أو عندما تتصدع أركان الاسرة وتصبح مهددة بالانهيار.