طوال شهر رمضان الكريم تلتقون يوميا من حكايا سينمائية بقلم المخرج المغربي عز العرب العلوي، والتي ينقلنا من خلالها الى كواليس افلامه الوثائقية والسينمائية. الحكاية :22
في حديقة ميدان العتبة أخدت قسطا من الراحة .. كنت لازلت أشعر بالجوع ..الموز فقط يعمق الاحساس بالجوع أكثر ..لم ينفعني للخروج من ورطة عصافير البطن سوى قطعة معجون التمر ابو مشاكل.. تلك الخلطة السحرية التي تحارب الجوع والعطش في نفس الان... كانت الساعة تشير الى الرابعة صباحا … الحديقة تماما كطرابلس.. الكثير من المصريين الصعايدة من حولي يغطون في نوم عميق .. لا امتعة لديهم سوى جلابيبهم الواسعة التي يستفيدون منها كافرشة وأغطية في نفس الوقت .. تماما كالسلاحف الادمية .. كنت في كل مرة اتحسس جواز سفري وبعض النقود المتبقية في محفظتي الجلدية المربوطة حول بطني .. شيء ما كان تحت تلك المحفظة الجلدية يهرش جسدي بقوة .. يدفعني الى الحكة بهستيرا.لكن لن استطيع المغامرة وخلع ذلك الرباط لاتبين الامر.. لا.. لا…لا يمكن.. فهو رباط مقدس حول بطني يضمن لي العيش والهوية… من بعيد كنت احاول قراءة يافطة فوق بناية. تشتعل وتنطفئ.. شد انتباه. هذا الظهور والاختفاء …فبدأت امازح نفسي قليلا علني اطرد النوم من جفوني كما طردته لايام خلت .. فقررت ان اقرأ محتوى تلك اليافطة أمامي بعيدا عندما تنطفئ اضاء تها عكس ما يفترض في الواقع .. فبدأت أغلق عيني عندما تضاء اليافطة وافتحهما عندما تنطفئ وهكذا... شعرت بتسلية مجانية لا يؤدى عنها.. وكذلك تساعدني على نسيان الازمة التي أعيشها في تلك الاونة .. بعد محاولات عدة ، قد يكون الغش قد شابها احيانا ، تمكنت من قرائتها …لازلت أتذكر ماقرأته جيدا : فندق روي .. نعم لازلت أتذكر لحد الان .. "فندق روي"..HOTEL ROY هناك في الزاوية يطل على الميدان مباشرة ..ميدان العتبة بشارع الجمهورية رقم 49 ..هذا الفندق الذي عدت اليه فيما بعد عندما صرت مخرجا سينمائيا فلم آجد له آثرا.. وجدت عمارة في مكانه … أدركت ما قرأت ..انه فعلا ماكنت أحتاجه في تلك اللحظة .. لم لا .. ؟ فهو اول فندق وجدته أمامي بالصدفة .. حملت أمتعتي واتجهت نحوه فورا .. قطعت الطريق.. وبعد مائة متر تقريبا وجدت نفسي أمامه .. كان الباب مغلقا.. فالساعة كانت تشير الى الرابعة صباحا .. بلطف ضغطت على جرس الباب مرة واحدة..لم يفتح احد ..أعدت الكرة مرة أخرى.. نفس النتيجة ..فأعدت مرة ثالثة ولكن بضغط مستمر قليلا.. وسرعان ما رأيت أحدهم من خلف زجاج الباب وقد اضاء مكتب الاستقبال .. بتمايل كان يتقدم نحوي ..الرجل نحيف البنية طوبل القامة أبيض البشرة والشعر معا .. عمره كان يفوق الخمسين سنة .. فتح الباب وظل واقفا وسألني : أيتها خدمة ؟.. قلت له : كم ثمن الغرفة .. قال لي : أنت مصري ؟.. قلت له : لا انا لست مصريا … قال لي : لا نستقبل الاجانب في هذا الفندق...الاجانب يجب ان يذهبوا للفنادق خمسة نجوم نحن فقط نجمتين… قلت له : انا لست أجنبيا انا عربيا ...قال لي : ولو ..غير المصري فهو أجنبي بالنسبة لنا ..ويجب عليه ان يتوجه لفنادق مصنفة بامتياز ويدفعون تكاليف الاقامة بالدولار .. قلت له وقد اصابني الذهول : لماذا هذا القانون المجحف في حق غير المصريين من الوطن العربي.. ماهذا ياسيدي أنعاملكم نحن في المغرب بهذه الطريقة ..أ نعاملكم كأجانب ونطلب منكم الذهاب للفنادق الراقية و الاداء بالأورو … عوض أن يغضب الرجل ابتسم واجاب : بحق ..أنت مغربي؟ ...قلت له : نعم ...قال لي : ادخل ..ادخل ...ادخل ...أنا كمان مغربي … قالها..ولم أصدق ما سمعت .. اغرورقت عيناي بالدموع فحاولت كتمانها.. تبعته وأنا أداري ما أشعر به من فرح.. طلب مني وضع امتعتي في مكان منزو في مكتب الاستقبال ..نزعت الحقيبة من على ظهري ووضعتها جانبا .. أدخلني الى غرفة داخلية خلف نقطة الاستقبال ..يبدو أن المكان مجهز لاخد قسط من الراحة في انتظار زبائن منتصف الليل ..طلب مني الجلوس ..فاخذت ركنا وجلست ..وانا أنظر اليه كنت أتمالك نفسي حتى لا يلاحظ اي أثر للتأثر .. لم أنتظر منه البدأ في الحديث بل أمطرته بوابل من الاسئلة ، كنت متيقنا أنه كان يستمع لها كلها ولكن لم يكن يرد..كان مشغولا بالبحث عن الشاي الاخضر .. كان يردد اسمه وهو يبحث : الشاي المغربي ..الشاي الاخضر…الشاي اين وضعته .. كان يبحث بجد واندماج ..، صعد فوق كرسي كان بجانبه فوجده هناك في رف علوي. اعتدل مزاجه حينما وجده وجلس على كرسي قربي وقال لي : هذا شاي أخضر جلبه لي أحد زبائن الفندق من المغرب.. و للحفاظ عليه لم أكن استعمله الا نادرا .. وضع ابريق الشاي فوق مرجل كهربائي وسألني : كم عمرك ياولد بلادي ؟.. قالها بدارجة مغربية هجينة .. قلت له : تسعة عشر سنة .. قال لي : ياحرام انت لس صغير أوجاي لوحدك..او جاي تعمل ايه هنا ؟.. لم أجبه عن سؤاله و قلت له : متى قدمت أنت الى مصر؟؟ .. في الحقيقة كان يريد آن يتحاشى هذا السؤال تلعثم في الرد ولم يجد مايقوله. أشاح عني بوجهه .. حمل الابريق وصب الشاي في فنجان وضعه امامي ودعاني الى شربه ...أخذت الفنجان وتذوقت طعمه فهاجت مشاعري الى ارض الوطن .. رغم الارهاق الشديد الذي كنت اشعر به ٬ لم اعد افكر في النوم.. عاد من جديد وطرح علي نفس السؤال حول سبب تواجدي في القاهرة ..لم اجبه مرة ثانية عن السؤال بل اعدت طرح السؤال الذي كان يؤرقني وكان يتهرب من الجواب عليه ...لماذا انت هنا في مصر ؟ أمام اصراري على الاجابة لم يجد أمامه سوى الاستجابة ...أخد شفطة عميقة من الشاي المغربي وقال بحزن واسى : تلك قصة حزينة ياريت لو يرجع الزمان الى الوراء … صمت قليلا و جحضت عيناه كانه يرجع بذاكرته الى أيام شبابه فقال : انا اسمي عبد السلام من مواليد مدينة الناظور.. في سنة 1966 قدمت الى القاهرة لأدرس في كلية الطب ..كنت متفوقا في دراستي واستفدت من منحة محترمة من المملكة المغربية …لما أتيت الى مصر كنت قد اكتريت منزلا محترما بالعباسية ..وكانت المنحة تسمح لي بالاستعانة بخادمة تغسل وتطبخ أيضا .. كانت المنحة التي كنت اتوصل بها من المغرب اعلى بكثير من راتب استاذي في الجامعة ..استمر الوضع على ذلك الى حين تطور نزاع سياسي كبير بين الملك الحسن وجمال عبد الناصر.. حول تطهير العالم العربي من الملكيات وغيرها من افكار الناصرية التي سممت سماء العلاقات بين مصر وملكيات الدول العربية الاخرى .. فتطور الامر الى القطيعة ..فتم استدعاء جميع الطلبة المغاربة في جميع التخصصات للعودة الى المغرب على وجه السرعة… بحيث كنا سنغير الوجهة بعدها ونتوجه نحو فرنسا لاستكمال الدراسة … قال هذا الكلام بألم كبير و سكت برهة وهو يتأمل في بخار ابريق الشاى على المرجل .. ملامح الحزن كانت بادية على ملامحه .. لم يكن ينظر الي بتاتا.. ثم عاد ليسرد البقية وعيناه كانت مركزة على دواخله ..كان يغوص في ذاته لامحالة .. شعرت بنبرات صوته تتغير من مرحلة الى أخرى.. أخذ شفطة أخرى من الشاي الذي وضعه في كأس صغيرة من نحاس على ركبته.. وابتسم كانه يستهزء من قدره قبل ان يستمر في الكلام وقال : انا كنت حينها من الطلبة المتشبعين بالفكر الناصري..كنت أعشق جمال عبد الناصر حتى النخاع ..بل كنت أتزعم حركة الطلبة المغاربة في هذا الاتجاه .. حينها خيرتنا الحكومة المصرية مابين العودة الى اوطاننا او التجنيس والمكوث في مصر…في ظل تلك الاجواء الحماسية التي كانت تعيشها الامة العربية بمولد زعيم عربي بحجم جمال عبد الناصر.. لم أجد خيارا أحسن من الانسياق وراء عواطفي الجياشة.. فاخترت التجنيس ..اخترت مصر .. توقف عن الحديث فجأة ..وبعد شرود لبرهة من الزمن ..اصدر زفيرا مدويا واكمل حديثه وقال : مباشرة بعد هذا الاختيار أوقف المغرب منح كل الطلبة الذين رفضوا العودة .. فصنفنا في خانة المغضوب عليهم .. لم نعد نتوصل بالمنح .. وبالتالي لم استطع المحافظة على المستوى المعيشي الذي كنت فيه. ولا حتى اكمال دراستي في كلية الطب…فالطب يحتاج لمصاريف كثيرة جدا .. فلم يكن أمامي سوى تغيير الوجهة نحو كلية التجارة… احتسى جرعة مريرة من الشاي وأكمل حديثه وقال : قضيت سنوات الكلية في عوز شديد .. وحين انهيت دراستي.. عينتني القوة العاملة في هذا الفندق منذ ذلك الزمان ... لا أستطيع آن اجزم انه بكى حينها.. ولكن يمكن تآكيد آن حالته كانت لاتسر لا عدوا ولا حبيبا ..كان في قمة الندم و في قمة التأثر .. شفط الجرعة المتبقية من الشاى وقال : تزوجت ببدرية وأنجبت ستة أطفال ، ولد وخمس بنات .. وعاركت الزمن ..عاركت بشدة ..عاركت ..عاركت ..... توقف عن تتمة الحديث واخرج زفيزا مدويا مرة اخرى وقال : الحمد لله.. هذه حكمة الله ... ولا هروب من قدره … عندما انتهى ساد صمت رهيب اعادنا نحن الاثنين الى اختيارات صعبة أخذناها في الماضي بدون تفكير .. كنت أبحث عن صيغة للمواساة.. فلم أجد نفسي مؤهلا لذلك ..فواقع حال الرجل يشي بندمه الشديد .. راهن على الناصرية وانتصر لها فخاب ظنه .. كنت مشدوها لهذا الحكي ..حكي بطعم الالم ..بطعم الخيبة ...بادرته بسؤال وقلت له : هل سبق لك وان زرت المغرب بعد ذلك يا عبد السلام ..؟ ..قال وهو يبتسم بحزن : لم ازره منذ ذلك الحين .. ولم اعد اعرف هل لا يزال افراد عائلتي على قيد الحياة ام لا .. فجميع العلاقات مع المغرب انقطعت منذ ذلك الحين ...فانا أملك قطعة أرض كبيرة بالناظور.. كتبها ابي باسمي قبل وفاته. وكنت اريد العودة الى المغرب لبيعها لكي اشتري منزلا لأبنائي هنا في القاهرة.. لكنني لم استطع العودة .. كنت خائفا وخشيت من الاعتقال … قلت له مباشرة : لماذا تخشى العودة ؟…لماذا تخشى من الاعتقال؟ .. وجمال عبد الناصر مات منذ سنين.. والمصريين أنفسهم لم يعد يذكرون الناصرية الا كتراث سياسي ؟... حاول ان يتفادى الجواب لكنه أجاب في الاخير وقال : نعم كنت اخشى من العودة و ولازلت.. فجمال عبد الناصر قد مات فعلا .. لكن الحسن لا يزال على قيد الحياة ..ولا أظن أنه سيسامح الطلبة الذين انضموا لناصرية في وقت كان يجب عليهم ان يدعموا أوطانهم .. .قلت له : لا اظن انك على صواب .. فأنت الان في عهد حسني مبارك .. وزمن الناصرية قد ولى منذ زمن . .والعلاقة المغربية المصرية ممتازة .. ربما هي الزوجة التي تمنعك من العودة .؟ ابتسم الرجل ابتسامة بطعم التهكم وقال لي : مين.. بدرية ؟ ..لا لا أظن فهي تحثني على الهجرة من مصر والعودة الى الناظور منذ سنين.. وبناتي كذلك … بدون سابق انذار رن جرس الباب لينقطع الحديث بيننا .قام عبد السلام ببطئ شديد من مكانه ..بدا لي وقع خطواته وهو يبتعد متجها لفتح باب الفندق وكأنها دقات على طبل كبير .. وببطئ شديد كنت اشعر بوقعها على الارض تهز طبلة أذناي من الداخل.. تماما كخطوات رجل مهزوم عائد من حرب الفيتنام في فيلم امريكي … عاد عبد السلام بعد ان منح المفتاح لزبون عاد متأخرا وقال لي وهو يقف في نقطة الاستقبال قرب المفاتيح : اسمع ياولد بلادي لن استطيع ان امنحك اكثر من ثلاثة ايام في هذا الفندق.. ولحسن حظك فهي نفس الفترة التي سأداوم فيها هذا الاسبوع.. وأنا لا اريد مشاكل مع من سيأتي ليخلفني في الاشراف… وضعت الفنجان في مكانه ..حملت حقيبتي ..شكرته بفرح. ودفعت له اجرة ثلاثة ايام بالجنيه والسعر المصري.. فمجموع ما دفعت لم يتعد ليلة واحدة في فندق صاحب الناي المكسور في تونس .. بالنسبة لي هذا انجاز عظيم ..شكرته لحسن صنيعه وتواعدنا على اللقاء فيما بعد … قال لي: طبعا ان سمحت بذلك الظروف .. كنت آعرف من خلال جوابه الاخير أنه فتح ملفا ألمه كثيرا ولا يريد آن يفتحه مرة آخرى.. اخدت المفتاح وصعدت الدرج بمفردي .. الغرفة 106 فتحت الباب ..غرفة بستائر مزركشة ومكيف بلون بني داكن من النوع القديم جدا٬ تم تثبيته هناك فوق النافذة ليمد مؤخرته نحو الخارج ..وسرير في وسط الغرفة يتسع لشخصين.. دولاب من خشب للملابس ومنضدة صغيرة للقراءة او الاكل .. لم اجد الكلمات المناسبة حينها لكي أصف سعادتي بتلك الغرفة رغم تواضعها جدا ..لكنها كانت تحتوي على الاقل على سرير ..فراش .. وياله من فراش... عشرة أيام خلت لم أستطع الحلم بالنوم فيه .. اغلقت الباب بهدوء .. رميت اغراضي على الارض.. نزعت حذائي القيت نظرة على الاماكن المتورمة من القدم .. فككت الرباط من حول بطني لاول مرة منذ خروجي من المغرب . ونزعت محفظتي الصغيرة الجلدية .. اجتاحتني رغبة شديدة في الحك ..تقرحات حول بطني ترسم مكان المحفظة الجلدية و حب أحمر صغير يلف بطني و يلفني كحزام أحمر .. كل ذلك لا يهم بالمرة .. فقط هو النوم من كان يجثم على انفاسي في تلك اللحظة ..ولاشيء غيره.. وضعت المحفظة الجلدية التي تحتوي علي النقود وجواز السفر تحت الوسادة مباشرة ..اقتربت من السرير حتى لامسته .. ورميت الجثة بطولها عليه .. كانت رمية واحدة كافية لتحدث أزيزا مزعجا لسربر مهترئ ..لازلت أتذكر جيدا أن هذا الأزيز كان اخر صوت سمعته قبل ان اغادر ذلك العالم ...مت نوما.. وانطفأت الانوار .. وبدأت تتوقف جميع المحركات الميكانيكية في راسي وفي أنحاء جسدي .. رويدا ..رويدا ...رويدا ...وساد السكون وعم الظلام ...خ......خ….خ......خ.... .( يتبع ) محبتي