في شارع عدْلي، وسط القاهرة، جاء مرسولٌ يسأل عني، خرجت من غرفتي وكنت أقرأ جريدة لا تباع في أكشاك الصحف. أطلَّتْ زوجةُ صاحب الفندق، وهي يونانية، تتحدث باللهجة المصرية كمثيلاتها المتزوجات بالمصريين، أنبأتني: رجلٌ يسأل عنك، سَحبَ كرسيا من غرفة الأكل وجلس إلى جانب طاولة الشطرنج، تقدمتْ خطوة داخل غرفتي وقالت بصوتٍ خفيض: السائل عنك يبدو أنه رجل محترم، بيهْ يعني ! تركتْ باب الغرفة موارباً. ارتديتُ بذلتي التي جئت بها من المغرب لمثل هذه المناسبات خرجت من الغرفة، وقف السائل عني وقدْ رآني قادما باتجاهه: أهلاً يا بيه... تفضل... تفضل. جلستُ تجاهه وليس على وجهي ابتسامة بانتظار مَن يكون الرجل وماذا يريد مني؟ جاءت زوجة صاحب الفندق بصينية ووضعتْ فنجانيْ قهوة، ولأنها لابد أن تُرحّبَ قالتْ: هذه قهوة معتبرة يأتي بها زوجي من المحل (وذكرتْ اسمه) رَمقتْ البيه الذي كان يسَوّي جلسته ليكون في أحسن حالٍ للمهمة التي كُلف بها. ! رشف الدفعة الأولى من الفنجان واتجه بعينيه إلى و... نطق:! الأستاذ محمد أنا معتز... آوي... آوي أن أعرفك. ! شكرا لِلطفك،... يُسعدني أن أتعرَّف على اسمك الكريم. شُكري يا فندم.. شُكري ! قلت: عاشتْ الأسامي. وإسمي، لا داعي إذاً، آسف، لأنك جئت تسأل عني باسمي ! عقَّب: محمد الطمنجاوي يا فندم !! ابتسمتُ الآن في الوقت المناسب (كنت أحدّث نفسي !). الأستاذ شكري شكراً لمجيئك، إن الفنادقَ بيتُ من يقيم بها حتى يعود لعش بيته، فمرحباً بك في بيتي، أليسَ كذلك؟ أضفت: السيد شكري، من الوارد مني كما الشأن بالآخرين الخطأ في الأسماء!. اسمي لا يُكتب أو يُنطق هكذا: الطمنجاوي، (وسَّعتُ من بسمةٍ برزت من ذقني إلى محيّا وجهي !)، ولا يُزعجني أن يكون اسمي كما ناديتني به، ولكن لا حيلة لي، فالإنسان لا يختار اسمه بنفسه. إن هذا الموضوع محلَّ إجماع بشري، وهذا من حسن الأشياء في الدنيا، وأرجو أن تكون لنا في الآخرة أسماءٌ أخرى، ألا تشاركني هذا الرجاء الأستاذ بشرى؟. ... وانبَسطت في الحديث: لا بأسَ في ظني أن يستعمل الإنسانُ قطرة أو قطرتين في الكوب المشترك بين جليسينِ كل منهما يتحسس السبيل إلى التعارف قبل أن يمتد بينهما إلى فسحة الكلام المباح ! احتسى فنجان قهوته بسرعة فيما القهوة يُلتذ بها حين تُرشف بمهل لاستطعام مذاقها، هذا ما لاحظته في مقاهي مصر وبيوتها !. حَدَستُ أن زائري لا يريد أن يطيل جلسته معي، غير أني بلا قصدٍ ملأت الفراغ بما يكفي لباقة واستكناهاً قد يفيد الزائر فيما يريد !! جئتكَ من مصلحة الاستعلامات يا فَندم! قالها كالذي انغرست في حُلقه شوكة سمكة. قمنا وغادرنا الفندق فيما كانت تلحق بنا زوجة صاحب الفندق قائلة: زورونا يا فندم مرة أخرى. كانت تقصد زائري. ولي قالت: يُعجبك صحن السباكيتي، أقفلتُ الفرن عليه الآن ! سيكون جاهزاً بعد ساعة. وقبلَ أن أستعلم منه عن أي استعلامات يتحدث، وجَّه نظري إلى بناية وقف باتجاهها: هذا كنيس يهودي، وهو أكبر كنيس بالشرق الأوسط ! ... هو كبير حقاً، يبدو من شكله أنه قديم جدا ! لم يُجب وسأل: هل عندكم مثله في بلدكم؟ نعم، في المغرب مواطنون مغاربة يهود، ولهم كُنُسهم يتعبدون فيها لكنها لا تبدو كمعلمة هندسية متميزة عما حولها من بناء ومن بشر ! شكري وهو يرافقني إلى الاستعلامات، لم يكن مرشداً سياحيا حِِرفياً. ومن الحكمة، والمظنة غير الاحتراز، أن يتصرف السائح في مثل هذا الوضع بنَظرِهِ فقط، وهذا ما بدا مني. فالرجل تصرف بهاجس أن يحصل على عناصر أو إشارات، وتلك مبادرة يريدها لما يريد، أو مهمة مكلف بها !. أدى حارسان التحية بمدخل المصلحة، ومستخدم فتح باب المصعد فدلفناه. تقدمني شكري قليلا بخطوتين أو ثلاث إلى غرفة انتظار زينت بأرائك جلدية بُنّيةِ اللون تؤثث جوانبها. أطل شكري بنصف قامته على غرفة أخرى، قدمني لرجل تسبقه كرشه، ونصف قامته (سبحان الخالق) مستطيل !: البيه السيد أحمد مدير مكتب سعادة المدير العام. باسماً رحب بي: تفضل... نقر حاشية الباب الخشبية، واجهتها مكسوة بجلد أسود ناعم: محمد الطنجاوي يَا فَندمْ... ! لا شكري، ولا السيد مدير المكتب، عَرَفاني باسم صاحب السعادة مدير مصلحة الاستعلامات ! ******** ها أنا أمامَ الرجل الذي سيقدم الفرعونَ الثاني شعب المصري وللعالم بعد أن ثوى في التابوت في المتحف المصري بالقاهرة الفرعون الأول ! ها هو الرجل الشديد الأناقة، فارهُ الابتسامة الذي قال للسماواتِ: ستغزوك قنواتي بلا حساب، فَقُولي للقنواتِ جميعها: مصر في أرضها أم الدنيا، وفي السماوات العليا هي أم الأقمار ! الرجل خَلَفَ في الوقت المرسوم توقيتُه الرجل المرعب: صلاح نصر، اليد الحديدية التي كانت تبحث لمصر عن موضعها الجديد في دورة الجاذبية ومقادير البلدان بها، وهو كاشف الأسرار الصحيح منها والمصنَّع للرئيس جمال عبد الناصر !. وهو حين يتكلم يسكت المنصتون ! والرجل وأنا في مكتبه الآن، هو الذي زيَّن حيطان مصر، وبناياتها، وكل متحرك في شوارعها من العربات ومن الهوادج الحاملات للخضر، وهو الذي أَعلَنَ للمصريين والمصريات: أن إسم بلدهم اليوم وغداً وإلى أن (يرث الله الأرض ومن عليها) ! هو، وبحروف بارزة: «مصر مبارك !»»... مصر الثانية بعد مبارك !، فتعوّدوا قليلا واحفظوا قلباً وقالباً: (مصر مبارك !). وعلي بعد هذا أن أُعرفكم باسمهِ بعد أن عرفته، وجالسته، وقال لي سفير مغربي «حظيَ» بمقابلته: أنت محظوظ لأنك صديق لأقوى رجل في مصر ! إنه صفوت الشريف ! والمحظوظ في مصر المحروسة منذ الثورة في سنة 1952 إلى انهيار النظام الحديدي، العسكري يوم 25 فبراير 2011، هو من نَافح بمرارة وإصرار للحفَاظ على كرسيه ماسكاً به أو مربوطاً بقوائمه المتهالكة، والمنافحون من طوائف مختلفة وأنساب متطابقة أو غير متطابقة، والمُؤهّل هو من ظفر بأن فُتحت له الأبواب الضيقة، أو قفز فوق الأسوار هاتفاً: مصر مبارك ! ولم يسلم من هذه اللهفة الحارقة بعضٌ من كبار الكتاب والفنانين، ومن صغارهم، استأسدوا، وامتلكوا الأرض والساحات، ورفعوا المنابر في زمنِ المقابر، فوق رؤوسهم ! وبدابة براءتهم: (مصرُ مبارك). ******** أجلسني صفوت الشريف جنب «الكنبة» وهو أمامي في حالة استرخاء إخفاء لتوقد انتباهه ونباهتهِ كما الشأن بالنبلاء، باسما خاطبني: كيف أنت في مصر، ومن المغرب العزيز علينا، وأنت صحفي، ولا علمَ لي؟ كيف؟ قلت: يمكن أن أنسى كل شيء إلا أنني وفي أي مكان مغربي.. من المغرب !. قلت لمستقْبلي: كل ما في الأمر، سيدي، أنني لم أبحث عن سبيل للتشرف بمعرفتك ! المهمة، أو أي شيء آخر ليس من شأني أن أدركه، والثابت عندي أن الذكاء هو المُوجِّهُ والمنبه للقصد وللمقصود... ! والباقي للاجتهاد جزاءَ أجرين لا لأجرٍ واحد ! سأل: هل أنت مرتاحٌ في فندقك؟ آه قيل لي إنه بنسيون، بالنسبة لي، وأفرغَ بسمة، أنتَ ضيفي، وكل صحفي هو صديقي وضيفي هنا، وذلك من مهامي ومسؤوليتي !. قلتُ، بوجهٍ لا شك أنه كان منبسطاً: إن المكان، يا سيدي، لابد أن يكون إما مريحا وإما مزعجا أو قنوطا، البنسيون الذي أُقيم به أراحني كثيرا، فالغرفة تطل على شارع عدلي، تنتقل منه إلى غرفتي من النافذة سواء كانت مغلقة أو مُشرعة أصوات الشعب المصري، فالمقاهي المصطفة بجانب الشارع، والمحلات التجارية، وباعة الخضر يجرون عرباتهم، توشح الفضاء بما أحب أن أقول عنه: التغني الجماعي اليومي للشعب المصري الحبيب المحبَّب، أتمنى أن تتأكد يا سيدي أنني، كأي مغربي، نحب مصر ولا أعرف حقا سرَّ هذا الإجماع المغربي عبر العصور! كان النادل منحنيا بانتظار تعليمات البيه، نظر. إليه ثم أمره بعد سؤالي. إذاً قهوة للبيه، انتظر، إحضر مع القهوة كوبين من الماء، واحد معدني، والآخر من ماء النيل. والتفت إلي: أنا أحبّ حين ألتقي صحفيا أن يشربَ عندي قدحاً من ماء النيل ! ولمحني مُتقصياً تعقيبي، ولكنه قال ببهجة: نحن نقول هنا في مصر: إن مَن شرب من ماء النيل عاد لمصر مشتاقاً لها أكثر. أطلَّ مدير مكتبه، فهمس البيه، بعد أن استطلع الساعة: حالاً.. حالا: الأخ محمد: هذه بداية المعرفة كما نقول هنا، لاشك أن الجلسة ناقصة، سأتصل بك قريباً لنلتقي. قام، وأمر: أوصلوا البيه محمد حيث يريد. ولمدير مكتبه الأمر الثاني: اليوم قبل أن أغادر ذَكِّرني بموعد أريده مع الأخ الطنجاوي. السيد صفوت الشريف... أنتَ الآن في سجن طرة فكم مَن دخلوه بأمرك... أو بتوجيهك..؟، عفواً انفلت مني من غير قصدٍ مني ! ليسَ هذا من مهمتي الآن ! ولكن الرغبة تلح عليَّ أن أصيح بكَ وأنت خلف الأسوار: أريد أن أسترجع ما كان لي معك من لقاءات أخرى، ولكن خلف الأسوار وبعيداً عنها فهل تسمعني صفوت الشريف؟ محمد الطنجاوي مصر... الكنانة والمكنونة !