طوال شهر رمضان الكريم تلتقون يوميا من حكايا سينمائية بقلم المخرج المغربي عز العرب العلوي، والتي ينقلنا من خلالها الى كواليس افلامه الوثائقية والسينمائية. الحكاية :19
تردد كلامه في جمجمتي كرجع الصدى كأنني في حالة حلم .أعدت عليه جوابه لليقين و قلت له : أنت من وجدة ..؟ قال : نعم .. لا أدري كيف حضنته بكل قوة.. كأنني أعرفه منذ سنين .. حضنني هو الاخر بدون تردد وهو يضحك .. جلسنا وتجاذبنا أطراف الحديث وانزاحت عني غمة الوحدة والغربة كأنني وجدت أخا لي ..طلبت منه تغيير بعضا من العملة المغربية الى الدينار الليبي فوافق..رفعت نظري نحو صاحب المطعم البدائي وقلت له بلهجة مغربية : صاوب شي براد ديال اتاي اكون مغربي الله اخليك … صاحب المطعم لم يجبني بتاتا..رأيته وقد بدأ يعد الشاي .. ونحن نشرب الشاي تحدثنا انا وصديقي الوجدي في كل الامور..عن غربته في تلك الارض.. و عن رغبتي في التوجه الى القاهرة… قبل آن نفترق أصر أن يأخذني إلي مكان هو عبارة عن مقهى شعبي غير بعيد عن المحطة .. قبلت تحت الاصرار .. حمل معي بعض أغراضي وذهبنا . المقهى يدعى مقهى المغاربة وهو عبارة عن مكان لاملامح له .. غير متناسق بالمرة .. كراسي لاتشبه بعضها البعض ..والطاولات بعضها من خشب والبعض الاخر مجرد ورق مقوى ..كأنك في درب غلف بالدار البيضاء .. او قل خيمة في سوق شعبي في البوادي المغربية .. كل المتواجدين هناك أغلبهم مغاربة .. تخصصاتهم مختلفة..منهم من يهتم بصرف العملة.. ومنهم من يقوم بتزوير جميع انواع الجوازات .. ومنهم من يتاجر في الحشيش. و منهم من يشتغل في تهريب البشر .. لاهم لهم طول النهار سوى الشاي والتدخين وانتظار الزبائن بكل الجنسيات.. تعرفت على الكثير منهم ..جالستهم وخبرت في يوم واحد كل خبايا ليبيا ..انصرف صديقي الوجدي وتركني مع صديقه حسن .. وبقيت معه حتى منتصف الليل .. عندما أغلقت المقهى ..حمل كل المتواجدون هناك الورق المقوى الذي كان يستعمل كطاولات ومكانا للجلوس أيضا.. وتوجه الجميع الى تلك الساحة قرب المحطة الطرقية..وحينما وصلنا قال لي حسن : شباب الامة العربية والافريقية كله ينام هنا… قلت له : أين ؟ قال : هنا في العراء .. المكان كله كان عبارة عن مجموعة من بقايا الكارتون بأحجام متفاوتة .. على شكل أسرة متراصة جنب بعضها البعض .. وتحمل أرقاما تسلسلية .. بعض الافارقة والعرب من من تعبوا من السهر اخذوا أماكنهم مسبقا وناموا .. وهناك الكثير من الاماكن الشاغرة الاخرى.. لكنها محجوزة لأصحابها. قلت لصاحبي حسن : هل تعني أني سأنام هنا : قال لي : ليس لديك خيار.. في طرابلس ليس هناك سوى أربعة فنادق كلها خمسة نجوم بناها المغاربة.. ومن غيرها لا يوجد فنادق بالمرة ... وضعت أمتعي الثقيلة على الارض.. وأخذت نفسا عميقا وقلت له : ليس لدي مشكل مادام الامر هكذا…قال لي : سأمنحك مكانا دون مقابل ..ضحكت لقوله وقلت له : وهل هذه الامكنة بمقابل …؟ ضحك وقال: طبعا.. فهذا هو مصدر عيشي منذ ثلاث سنوات.. فمنذ مدة وأنا احجز جميع الامكنة على طول هذا الشارع المضيء نهارا لأ تاجر فيها ليلا . وسومة الكراء ترتفع و تنخفض حسب القرب من هذا العمود الكهربائي الوحيد في المكان … شكرت صديقي حسن على كرمه ومساعدته لي و تركته يكمل مهماته الكثيرة.. أخذت المكان الذي اعطاني اياه .. جلست القرفصاء ووضعت أمتعتي كوسادة ..ولكي أتحاشى ضوء العمود الكهربائي المزعج .. أخرجت طربوشا صوفيا من أمتعتي و أدخلت رأسي فيه بالكامل..واستلقيت على سرير الكارتون ..كنت أشعر بتعب شديد لدرجة أحسست بسرير الكارتون كريش النعام ..رطب ومريح للغاية ..كنت بين الفينة والاخرى استرق السمع للاخوة العرب والافارقة بقربي..كنت اسمع لغاتهم ولهجاتهم وأحاول جاهدا التعرف على موطن تلك الكلمات ..سينغالي ..سوداني..مصري..تونسي..وهكذا .. استرقت السمع أيضا لبعض همومهم وامالهم ومشاكلهم ..وتحت وطأة العياء٬ بدأت أصواتهم تبتعد شيئا فشيئا الى أن غابت واندثرت في صمت . و عم السكون أرجاء المكان.ولم أعد أشعر حينها الا وانا أغط في نوم عميق ..عميق .. ...عميق ...عميق جدا … بضربات متكررة ومؤلمة على قدمي بحذاء عسكري صلب جدا٬ قمت مفزوعا ..كانت الساعة تشير الى الخامسة صباحا تقريبا.. اصحى ..اصحى ..يا متشرد ..حضر بسبورك ..حضر بسبورك على ايقاع هذه الكلمات التي سمعتها تتردد من واحد لاخر على طول الخط .وبدون توقف،، اعتدلت في جلستي.. ومن سترتي الداخلية أخرجت جواز السفر وانتظرت .. كان هناك انزال كبير من الضباط الليبيين على المكان ..لما وصلني المراقب بغلضة وتكبر قال لي : بسبورك يا متشرد ؟ منحته جواز السفر وانا أشعر بإهانة وحنق وقهر لا يصدق .. نظر الي وقال : اش جابك لهنا..؟ قلت له : انا ترنزيت فقط وغدا متوجه الى القاهرة ..نظر الي نظرة احتقار ..وألقى بجوازي السفر على وجهي ..وانصرف .. لا أدري كيف قمت من مكاني وبعصبية نابعة من كل ماكان يعتصرني من قهر وتعب و قلت له بصوت عال: لماذا تضربني بجواز السفر انا لم آتي الى بلادكم من أجل طلب العمل ولا لاستجداء رغيف خبز ..انا ترنزيت ..اتفهم هذا.. انا ترنزيت …ترنزيت … توقفت الحركة في كل الارجاء وتجمهر الضباط حولي وعاد المراقب بهدوء الى أمامي ..نظر الى بحنق وقال : بتعلى صوتك يا متشرد ..ياحقير .. قال هذا الكلام وقد تغيرت ملامحه الى شيطان ..هنا بدأت أشعر بالخطر الذي وضعت نفسي فيه ..ندمت..ندمت شديد الندم على ماقلته.. وشعرت بآن نهاية الرحلة ستكون في سجن ليبيا .. جمعت ماتبقى من قوتي وقلت له بصوت عال أيضا وبهستيريا : ليبيا أرض لكل العرب .. ليبيا أرض الاحرار والكرامة .. أرض المحبة وهذا بفضل القائد العظيم معمر القذافي خليفة جمال عبدالناصر .. هذا مايقوله الكتاب الاخضر .. ومددت يدي الى سترتي واطلعت نسخة من الكتاب الأخضر كانوا قد وزعوا علينا نسخا منه مجانا عندما كنا في الحافلة .. ظل المراقب صامتا أمامي.. انقلب السحر على الساحر .. كنت انظر للحراس بجانبه وهم في ذهول.. لم يستطع احد منهم ان يجادل ماهو مكتوب في الكتاب الاخضر.. الكتاب المقدس بالنسبة لهم .. خرج المراقب من صمته وقال لي : شو عملك انت ؟ قلت له : أنا طالب متوجه الى القاهرة لأدرس سينما انفرجت أسارير وجهه وقال بلطف : الله اعينك .. حينها شعرت برعشة تسري في بدني .. والعرق ينساب من على وجهي كشلال ساخن.. جسدي بكامله كان يرتعش من شدة الخوف وقلة الحيلة .. انصرف المراقب لاستكمال فحوصاته لجوازات السفر الاخرى ..لكن هذه المرة أحسست بأن نبرة صوته قد انخفضت قليلا ولم تعد بتلك الوقاحة مع الاخرين حسن كان يراقب الوضع من بعيد ..لما ابتعد الضباط جاء الي غاضبا وحذرني من مغبة تكرارها ثانية . وقال لي : هل تعلم أنه اذا تم الزج بك في السجن.. فقد يتم نسيانك هناك بدون محاكمة وحتى بدون سجل..وفي بعض الاحيان يتم نسيانهم حتى في الاكل والشرب ..لا تلعب بالنار مرة ثانية .. وقبل ان يذهب استوقفته و قلت له : عذرا صديقي اليوم أريد التوجه الى بنغازي ومنها الى السلوم حيث الحدود المصرية ..لا ادري كيف و كم سيكلفني هذا المشوار ؟ قال لي : لاتشتري تذكرة في المحطة .. في الصباح ستتوجه الى الحديقة التي توجد مباشرة امام مقهى المغاربة .. هناك ستجد الكثير من العمال المصريين الذين لم يتمكنوا من ايجاد شغل بليبيا.. فهم ينتظرون هناك كل يوم الحافلات القادمة من القاهرة المحملة بالعمال الجدد..ويستعطفون سائقي الحافلات للرجوع معهم الى بلدهم بالمجان أو بأثمان زهيدة..فهم غالبا يرأفون لحالهم .. شكرته على هذه المعلومة الثمينة ..جمعت أغراضي وتوجهت مباشرة الى المطعم المعتاد وطلبت شايا وبعض الخبز والجبن .. على الساعة الثامنة صباجا كنت في الحديقة ...المكان لا خضرة فيه.. تراب فقط ..هي الاشجار من تؤثث الباحة وتخلق الظلال ..الكثير من المصريين بجلابيبهم الطويلة ينامون تحت كل الاشجار و في كل الامكنة ..اخترت مكانا قربهم و بسطت قطعة من الورق المقوى وجلست . يتبع غدا محبتي