ارتفاع أسعار الذهب    سانتو دومينغو.. تسليط الضوء على التقدم الذي أحرزه المغرب في مجال التعليم    الجيش الإسرائيلي يعلن ضرب عدة أهداف لحزب الله في سهل البقاع بشرق لبنان خلال الليل    "كاف" يعلن عن تمديد فترة تسجيل اللاعبين المشاركين في دوري الأبطال وكأس الكونفدرالية    أجواء ممطرة في توقعات طقس الجمعة    نتفليكس تطرح الموسم الثالث من مسلسل "لعبة الحبار" في 27 يونيو    وتتواصل بلا هوادة الحرب التي تشنها جهوية الدرك بالجديدة على مروجي '"الماحيا"    أمريكا: "برج" يقتل ركاب طائرتين    الشهيد محمد الضيف.. جنرال كتائب "القسام" ومهندس "طوفان الأقصى"    فاتح شهر شعبان لعام 1446 ه هو يوم الجمعة 31 يناير 2025    مدة البت في القضايا تتقلص بالعيون    نتائج الخبرة العلمية تكشف قدرة خلية "الأشقاء الثلاثة" على تصنيع متفجرات خطيرة (فيديو)    الجيش الملكي يخسر بثنائية بركانية    الجديدي وفتحي ينتقلان إلى الوداد    تعليق الرحلات البحرية بين طنجة وطريفة بسبب اضطرابات جوية وارتفاع الأمواج    ساو تومي وبرينسيب تؤكد دعمها الثابت للوحدة الترابية للمغرب وتعزيز التعاون الثنائي    الشرقاوي: خلية "الأشقاء الثلاثة" خططت لاستهداف مقرات أمنية ومحلات عمومية    النقابة الوطنية للصحافة ومهن الإعلام بإقليم العرائش تكرم منجزات شخصيات السنة    خروج 66 فلسطينيا حالة صحية متردية من سجون الإحتلال    مشروع الربط المائي بين وادي المخازن ودار خروفة يقترب من الإنجاز لتزويد طنجة ب100 مليون متر مكعب سنويًا    من المدن إلى المطبخ .. "أكاديمية المملكة" تستعرض مداخل تاريخ المغرب    «استمزاج للرأي محدود جدا » عن التاكسيات!    الشركة الجهوية متعددة الخدمات الدار البيضاء-سطات تواصل تنفيذ برنامجها السنوي لتنقية شبكة التطهير السائل    الوداد يضم لاعبا فرنسيا ويستعير آخر من جنوب إفريقيا    زياش إلى الدحيل القطري    رئاسة الأغلبية تؤكد التزامها بتنفيذ الإصلاحات وتعزيز التعاون الحكومي    ممثل المفوضية السامية لشؤون اللاجئين: المغرب يعتمد خيارا واضحا لتدبير إنساني للحدود    برقية تعزية ومواساة من الملك إلى خادم الحرمين الشريفين إثر وفاة الأمير محمد بن فهد بن عبد العزيز آل سعود    أمر تنفيذي من "ترامب" ضد الطلاب الأجانب الذين احتجوا مناصرة لفلسطين    أداء إيجابي ببورصة الدار البيضاء    الوداد يعزز صفوفه بالحارس مهدي بنعبيد    إطلاق النسخة الأولى من مهرجان "ألوان الشرق" في تاوريرت    الملك يهنئ العاهل فيليبي السادس    بلاغ من طرق السيارة يهم السائقين    مقتل "حارق القرآتن الكريم" رميا بالرصاص في السويد    عصام الشرعي مدربا مساعدا لغلاسكو رينجرز الإسكتلندي    قرعة دوري أبطال أوروبا غدا الجمعة.. وصراع ناري محتمل بين الريال والسيتي    ارتفاع مفاجئ وتسجل مستويات قياسية في أسعار البيض    وفاة الكاتب الصحفي والروائي المصري محمد جبريل    الاحتياطي الفدرالي الأمريكي يبقي سعر الفائدة دون تغيير    حاجيات الأبناك من السيولة تبلغ 123,9 مليار درهم في 2024    الشرع يستقبل أمير قطر في دمشق    استقرار أسعار الذهب    المغرب يحقّق أرقامًا قياسية في صادرات عصير البرتقال إلى الاتحاد الأوروبي    ""تويوتا" تتربع على عرش صناعة السيارات العالمية للعام الخامس على التوالي    مع الشّاعر "أدونيس" فى ذكرىَ ميلاده الخامسة والتسعين    جائزة الملك فيصل لخدمة الإسلام 2025 تكرّم جهود بارزة في نشر المعرفة الإسلامية    مركز الإصلاح يواجه الحصبة بالتلقيح    الطيب حمضي ل"رسالة 24″: تفشي الحصبة لن يؤدي إلى حجر صحي أو إغلاق المدارس    أمراض معدية تستنفر التعليم والصحة    المؤسسة الوطنية للمتاحف وصندوق الإيداع والتدبير يوقعان اتفاقيتين استراتيجيتين لتعزيز المشهد الثقافي بالدار البيضاء    المَطْرْقة.. وباء بوحمرون / الحوز / المراحيض العمومية (فيديو)    علاج غريب وغير متوقع لمرض "ألزهايمر"    أربعاء أيت أحمد : جمعية بناء ورعاية مسجد "أسدرم " تدعو إلى المساهمة في إعادة بناء مسجد دوار أسدرم    غياب لقاح المينانجيت في الصيدليات يعرقل سفرالمغاربة لأداء العمرة    أرسلان: الاتفاقيات الدولية في مجال الأسرة مقبولة ما لم تخالف أصول الإسلام    المجلس العلمي المحلي لإقليم الناظور يواصل برامجه التكوينية للحجاج والمعتمرين    ثمود هوليود: أنطولوجيا النار والتطهير    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



مصر ليست أمي !
نشر في العمق المغربي يوم 14 - 07 - 2016

لم يخطر في بالي يوماً أن يأتي الوقت الذي (أكره) فيه مصر، بلدي وموطني!
قابلت الكثير ممن تمنوا الخروج منها، والعيش في أي مكان آخر، وقابلت من عاش فيها وهو يلعنها كل لحظة، وهو يعاني من الغلاء والزحام والبطالة والفساد وعدم الأمان.
كنت أنكر عليهم تلك المشاعر السلبية واعتبرتهم كالأبناء العاقين لأمهاتهم، وهم يتناسون خيرها عليهم، واغتربت عن بلدي فزاد ارتباطي به واشتياقي إليه رغم كل شيء، فكتبت عنها، وكنت أدعو الله كثيراً أن يرزقني السفر إليها، ورؤية أهلي وبيتي وأصدقائي، وقد كان.
سافرنا وكنت كما يقولون (حاطة إيدي على قلبي) فرغم فرحتي التي لا يمكن وصفها فإن الخوف امتزج بها فصارت بلا طعم، ولكنني اجتهدت أن أجعل سعادتي تنتصر في تلك المعركة المجهولة بالنسبة لي، قضيت ساعات الطيران أُحلق في سماء الذكريات الجميلة في مصر.
"الأمن الوطني عايزك.. اتفضلي معانا!".. هكذا قال لي ضابط الجوازات، وهو يمسك بجواز سفري، وهو ينظر إليَّ بحدة واضحة.
وعندما سألته عن السبب، قال إنه لا يعرف، وكنت أحمل طفلي نائماً علي كتفي، فقال لي الضابط: "سيبي العيال هنا وتعالي معانا".
رفضت ذلك، وطلبت منه أن يكونوا معي، لكنه أصر على ذلك، مدعياً أنه غير مسموح لهم التواجد هناك، وصممت أنا أيضاً على طلبي فهم صغار وقد يبكون، دخلنا معاً في ممر ضيق ذي رائحة سيئة، وفوجئت بأيدي بناتي تتشبث بملابسي وهن ينظرن إليَّ بخوف، فأمسكت بهن لأطمئنهن وأنا أرتعد خوفاً وقلقاً.
قابلت رجلاً ضخماً يجلس على مكتبه القديم في حجرة ضيقة، وحاولت أن أبدو هادئة قدر الإمكان وسألته: ممكن أعرف فيه إيه؟
وفي برود ملحوظ، وتجاهل غريب، لم يرد عليَّ وهو يمسك بجواز سفري، وبدأ ينسخ بيانات منه في ورقة، فانتظرت لحظات ثم أعدت عليه السؤال مرة أخرى، فرد عليَّ وهو ما زال لا ينظر لوجهي: "انتي هتطلعي دلوقتي على الأمن الوطني في القاهرة.. وهناك ابقى اسأليهم".
شعرت بخوف شديد يتملكني، ثم نادى علي شخص يقف جانب بابه، وهو يطلب منه أن يأخذني معه، فخرجت معه وطلب مني الانتظار قليلاً، فانتظرت طويلاً وسط بكاء ابنتي ومكالمات زوجي وأهلي للاطمئنان علينا كل حين، حتى دخلت معه مكتباً آخر كبيراً يجلس فيه شاب في مقتبل العمر مبتسماً، وبدأ يوجه أسئلته لي وهو يدون إجابتي فيما يسمى بالتحقيق، سألني فيه عن كل شيء يخص سفرنا وانتقالنا من قطر إلى لندن، وعن عمل زوجي وطبيعته وتمويله وفي النهاية نظر إلى متسائلاً: "هو جوزك إخوان؟"، فقلت: لا، فاستطرد وقال: "طب انتي إخوان؟"، قلت: لا.
ثم قال: "طب احلفي إنكم مش إخوان؟!"، فأجبته: "أنا قلت لحضرتك إحنا مش إخوان!"،
فتساءل بصوت عالٍ بكل تلقائية: طيب ليه انتي هنا؟ خلاص قومي ولما يكلموني، وأعرف هعمل معاكي إيه هناديكي!!
خرجت وانتظرت مدة أطول من سابقتها، إلى أن ناداني أحدهم من أجل تفتيش الشنط عند الجمارك، وكانت هذه هي المرة الأولى التي أرى فيها كيف يفتشون الأمتعة أخرجوا كل شيء وأي شيء، كانوا يبحثون عن كل ما له قيمة، وأنا أقف مكتوفة الأيدي مذهولة ومحبطة. وفي النهاية وبعد انتظار للمدة الثالثة ذهبت إلى نفس الرجل المتجهم في مكتبه الضيق وجدته ينظر إلي، وهو يبتسم ويعطيني جواز سفري، قائلاً: "حمد لله ع السلامة".
ظننت أنها ابتسامة صادقة ودعوه طيبة، ولكني عرفت بعدها أنها لم تعنِ ذلك.
وبدأت إجازتي في مصر، التي كان أهم ما تمتاز به الانتظار، كل يوم أنتظر فيه اليوم الذي سأسافر فيه إلى لندن، حتى يطمئن قلبي، لم أستطع استيعاب حالتي، وقد تبدلت 180 درجة، فها أنا وسط أهلي وأختي، ولكن دون مشاعر، وكأنني أمام سراب وليس حقيقة، وقرر زوجي تقديم تاريخ سفرنا، ربما ليعجل بالنتيجة وهو لا يطيق مثلنا الانتظار، فجاء يوم العودة، وودعت أهلي ودخلت صالة المطار، وأنا أعلم أن كل ما سيفعلونه معي "هيرخموا" - يتعمدون المضايقة - علي كما أكد لي الكثير.. وبمجرد أن مرر الضابط جواز سفري على جهاز الكمبيوتر أمامه حتى رفع سماعة التليفون بجانبه، قائلاً: "سارة جمال هنا!".
وطلب مني الانتظار جانباً، ثم ذهبت إلى ضابط آخر وهو يحاول التحري عن الاسم، مدعياً أنه تشابه أسماء كما أخبرني، ثم أخذني إلى مكتب قابلت فيه ثلاثة ضباط، والذي أعاد علي نفس الأسئلة عن تاريخي العائلي، ثم طلب مني أن يأخذ جوازات سفر أطفالي؛ ليمنعهم من السفر مثلي، كانت المرة الأولى التي أسمع فيها آخر نداء للطائرة، وتزامن ذلك مع إنزال أمتعتنا مرة أخرى للتفتيش، حيث وقفت صامتة وكأنني لا أرى ما يحدث!
أفقت فقط على سؤاله عن كارت البنك الخاص بي، وأخبرني أنه سيأخذه، ثم غاب وعاد هو يعطيني إياه، وبعد انتهاء إجراءات التفتيش طلبت منهم أن يسمحوا لي بالسفر في الطائرة التي تليها، ففكر قليلاً ثم قال لأحد أفراد الأمن أن يأخذني لصالة السفر، مشيت معه وصعدنا سلماً، وهناك دخلنا مكتباً كبيراً يجلس فيه رجل بملابس مدنية، ونظر إلي قائلاً: انتي ممنوعة من السفر! أنكرت ما قاله بأنني فهمت أنه بإمكاني السفر في الرحلة القادمة!
ابتسم ساخراً قائلاً: "أنا قاعد مستنيكي هنا عشان أقولك أنك ممنوعة من السفر!".
وعندما سألته عن السبب، أجابني: "أنا معرفش حاجة، لو عايزة تعرفي روحي مكتب الأمن الوطني في القاهرة، وهناك هيقولوا لك كل حاجة!".
تركته وأمسكت بأطفالي الذين بدأوا في البكاء وأخذت أمتعتي وخرجنا من صالة الوصول، وكأنني أعيد تصوير مشهد كئيب من فيلم سينمائي سخيف وطويل، فها أنا أبكي وأنظر إلى السماء في انكسار: يا رب!!
مرت أيام وأنا على أرضها، أقابل ناسها وأتعجب كيف يعيشون فيها، لم أعد أشعر بتلك المشاعر الجياشة نحوها، بل أصبحت لا أطيقها، عشت كالهاربة التي تخشى القبض عليها في أي وقت، كل ما ربطني بها وهون على ما ألاقيه هم أهلي وأصدقائي المقربون.
قضيت مدتي بين نصيحة هذه ونصيحة تلك، عن البيت الذي سأعيش فيه، فلا داعي للعيش في شقتنا بعد أن عرفنا بسؤال مخبر عنا، وعن مدارس الأولاد وعن فلوس معيشتنا وعن وعن!! الكل يتكلم وأنا أسمع كالأصم، فالخوف قد امتلكني والقلق كاد يقتلني، لم أعد أجد إجابة مقنعة لأطفالي حين يسألون: "هو إحنا هنروح لبابا إمتى؟ هم ليه الناس ضايقونا في المطار وما سافرناش؟ هو إحنا ليه مش قاعدين في بيتنا؟".
انتهت الإجابات وأصبحت عقيمة وأثناء ذلك كله أخبرني زوجي أن مدرسة الأولاد قررت أن تمهلهم مدة زمنية، وإن لم يأتوا فيها سيضطرون إلى فصلهم منها!!
وكان اقتراحه واقتراح البعض أن يسافر الأبناء مع أمي له حتى يكملوا عامهم الدراسي، وأصبحت القضية الشاغلة هي مدرستهم، وكيف نحافظ علي مكانهم فيها، وكان علي التفكير سريعاً واتخاذ القرار، فكانت أياماً طويلة وحزينة مرت علي كالضباب الكثيف، كنت أبكي كثيراً ولا أطيق النظر في وجه أي شخص، وخاصة هؤلاء الذين طلبوا مني أن أسمح لأطفالي بالسفر!
لم يفهموا أنني بذلك أضيف إلى همي هماً أخر أكبر منه، فبدلاً من بعدي عن زوجي وقلقي علي المستقبل سأكون بعيدة عن أبنائي الصغار.
رفضت الفكرة بشدة وأنا أقول للجميع :"مش هعرف أعيش بدونهم".
اقترح علي البعض أن أقدم على بدل فاقد لجواز سفرنا، وبالفعل ذهبت بعد أن عرض شخص مساعدتي، وكانت المفاجأة عندما قابلني ذلك الشخص، وقال لي : "هو جوزك عمل إيه بالضبط؟ أصل جالنا من يومين نشرة بمنع العيال من السفر هم كمان"!!
وقفت صامتة وكأنني اعتدت المفاجآت والأخبار السيئة، ولكنه عرض أن يستخرج لنا جواز سفر جديداً، ولكن كما يقولون (كل شيء بتمن).
هكذا عرفت كيف تسير الأمور بمصر، فكل ممنوع يمكن أن يكون مسموحا مقابل "رشوة" بعشرات الآلاف! فعلاً عمار يا مصر!
بدأت أحاول أن أتعايش مع حياتي هناك، قررت أن أتناول مسكنات الآلام، وأن أسعد نفسي ولو ظاهرياً بمقابلة الأصدقاء في محاولة فاشلة للخروج من المحنة، واشتركت لأطفالي في نشاط صيفي حتى أشغل بالهم عن الانتظار مثلي.
كانت مجرد محاولة، ولكن لم أفهم حينها أن تلك المشاعر البريئة التي تملؤهم لن أستطيع توقيفها، وهذا الحب والاشتياق ناحية أبيهم لا يمكنني أن أجد بديلاً عنه.
فها هو ابني الصغير ذو الخمس سنوات يجلس مع أمي ويشاهد فيلم (نيمو) الشهير، وقرب نهاية الفيلم يتحدث بصوت عالٍ قائلاً: "نيمو مش هيشوف باباه زي ما أنا مش عارف أشوف بابا تاني".
"وفي ليلة من الليالي" كما يقولون في القصص والحواديت، وجدت اتصالاً في منتصف الليل يسألني: "تقدري تسافري دلوقتي؟!".
وبعد حوار وأسئلة وبكاء وخوف، أخبرني أنه يعرف (وسيطاً) في المطار وقد أخبره أن (سيستم الكمبيوتر) معطل، وسيظل على هذا الحال حتى الصباح.
تخيلوا معي هذا الموقف، اسرحوا هناك وكأنكم تجلسون معنا، أغلقت المكالمة وأنا مشلولة التفكير، وكأنني سأذهب لأرمي بنفسي في النار ثم انتهيت إلى رفض الفكرة برمتها، اندهش المتصل لأنني أرفض فرصة سفرنا، ف (الوسيط) أخبره أنه سيجعلنا نمر بسلام، وإذا حدثت أي مشاكل سيستطيع أن يخرجنا مرة أخرى من المطار، لم أتحمل تلك الكلمات، وخشيت بالفعل أن أكون قد ضيعت بيدي فرصة جيدة للخروج بأمان، وفي تلك اللحظة وافقت، وبدأ سيناريو السفر يكتب وكان علي التنفيذ!
سنسافر إلى لبنان بشنطة صغيرة لحضور فرح وبجواز السفر الجديد ومعنا ألفي دولار لكل مسافر، وخط تليفون جديد سأستخدمه في التواصل هناك، إذن على بركة الله!!
ودعت أهلي وأنا لا أعرف أن كنت سأقابلهم ثانية، وها نحن نعيد نفس المشهد في نفس المكان.
مشهد رقم 3
مطار القاهرة الجديد
يمر جواز سفر الأطفال بأمان، ولكن أنا لا، "ألو.. سارة جمال هنا".
انتظر جانباً واذهب لشخص آخر ويخبرني بتشابه الأسماء، ثم مكتب الأمن الوطني "رايحة لبنان تعملي إيه؟! فرح بنت عمك!! اااااه قلتيلي!!".
تفتيش حقائب اليد الخاصة بي، وأخذ جميع الأموال التي كانت فيها، وعندما سألتهم: "هو مش المطلوب لدخول لبنان ألفين دولار للفرد؟".
ولكن دون جدوى، واختفى ال(وسيط) الذي لا أعرف عنه شيئاً سوى أنه كان سبباً فيما نحن فيه الآن.
أصبحت لا أقوى على منع دموعي، وكتم خوفي وقلقي، فالموقف يطول ودخلت مكتباً به خمسة ضباط يتناوبون علي في الأسئلة، وكأنني خطر كبير على أمن البلد وأخبروني بأنني على ذمة قضية تحفظ أموال وتمويل جماعة الإخوان المحظورة والإرهابية!
وبأنني سأخرج من عندهم على النيابة العامة ومعي المبلغ الذي أصبح حرزاً وتم وضع الشمع الأحمر عليه.
وتم تفتيشي ذاتياً، وجلست معهم ساعات طويلة لا أعلم ما المصير، حتى وجدت رئيسهم يتحدث في التليفون ثم يغلق السماعة في غضب شديد قائلاً لزميله: "الأمن الوطني بيقول سيبوها تمشي وادوها جواز سفرها، إحنا عايزين نجيبها من برة!!".
كنت أبكي دون توقف ولا أستطيع التحدث، حمدت الله أن ابني نام حتى لا يشاهد هذه المشاهد وتلك الوجوه، أخذني رجل من الأمن الوطني وأخبرني أنهم ينتظرونني هناك، دخلت معه ذلك المكتب الذي حفظته جيداً وهناك نظر إلي أحدهم قائلاً: "انتي ممنوعة من السفر، ما تحاوليش تاني تمشي عشان مش هتسافري".
وعندما أعدت عليه السؤال الذي أعرف إجابته: "ممكن أعرف إيه السبب؟، رد بنفس الإجابة بأن السبب سأعرفه عند الأمن الوطني بالقاهرة.
خرجت من المطار وأنا أشعر بالاختناق، كانت المرة الأولى التي أعرف فيها أن خنقة الظلم أشد وأقوى من خنقة النفس!
واستمر المشهد في التكرار، بكاء وخوف وعدم استطاعة أن أقابل أي شخص، ولكن الأمر الجديد هو أنني قررت ألا أتحدث في الموبايل عن الأمر، بعد أن عرفت من الضباط أنني مراقبة.
حاولت التعايش من جديد، دعوت الله كثيراً أن يفرجها برحمته وفضله، كنت أدعوه أن ينجينا من أجل أمي، التي كانت تخشي علينا العيش في مصر بعد ما حدث، والتي تحب أن تراني سعيدة وآمنة مع زوجي حتى لو كان الثمن بُعدي عنها.
وبعد فترة تواصلت مع (وسيط) جديد قيل لي إنه يمكنه أن يخرجنا من مطار آخر، فرحت فرحة غامرة، وتضرعت إلى الله أن يرزقني ثبات قلبي وألا يربط آمالي بقدرة العبد وإنما يجعل قلبي متعلقاً به وحده، فهو العليم القدير.
قررت كتمان الأمر حتى عن زوجي فلم أخبره به خوفاً من المراقبة، وقلت إن الحرص واجب، وانتظرت يوماً بعد يوم خبراً من (الوسيط) بإمكانية سفرنا بعد إنجاز مهمته في رفع أسمائنا من قائمة الحظر في المطار ولكن طالت المدة، فبدأت أبحث سفرنا وسط فوج سياحي إلى السعودية لأداء عمرة رمضان.
وفجأة أرسل لي (الوسيط) أنه الآن يمكنني أن أسافر، ولكن في ختام الرسالة قال: "مفيش حاجة مضمونة والموضوع مش مضمون 100% يعني".
وفي سباق مع الزمن حجزت تذاكر الطيران إلى لندن، ولأنه لا يوجد رحلة مباشرة إليها اضطررت إلى اختيار (ترانزيت) قطر وبعد أن كانت الرحلة ستستغرق 4 ساعات، ستكون 12 ساعة!
أحضرت أغراضي مسرعة وأنا أترك الكثير منها فقد أصبحت دون قيمة عندي، الهدف هو فقط الخروج الآمن.
أخفيت على أبنائي الخبر حتى آخر لحظة، كما لم أستطع أن أخبر أختي ولم أودعها.
تحركنا باكراً إلى المطار، كنت خائفة وفي نفس الوقت مستبشرة خيراً.. صرنا نغني في السيارة، رغم مغالبة الدموع. وصلنا بسلام لصالة السفر، وودعت أهلي ودخلت وأنا أردد كافة الأدعية والآيات التي أحفظها، وقفت أمام شباك ضابط الجوازات وأنا اتظاهر بالقوة والثبات، وكانت قمة فرحتي حينما قام بختم جميع جوازات السفر، وفجأة طلب منه الضابط المجاور له في المقعد وهو ينظر الى شاشة الكمبيوتر أن يعطيه جواز سفري، وطلب مني الانتظار!!
وها أنا أنتظر من جديد!!
وجدت أطفالي يسألون بحزن : "إحنا برضه مش هنعرف نسافر؟"، قلت لهم: "قولوا يا رب".
وأصبح جواز سفري يتنقل من مكتب لآخر، فالمطار صغير لدرجة تسمح لي برؤية هذه المكاتب وتلك التفاصيل، ولكنني قررت أن أغير السيناريو ولو (رتوش) منه، فربما ستتغير النتيجة، أصبحت اتنقل مع جواز سفري ولا أتركه، وحاولت أن اطبق جميع الدروس التي تعلمتها زمان في مهنة الصحافة، فلكي أكون صحفية ماهرة علي أن أكون (رخمة وزنانة)!!
"لو سمحت ممكن أعرف فيه إيه؟".
"أنا ولادي بيعيطوا ومحتاجين نمشي.. الطيارة هتفوتنا أرجوك"!!
أقول تلك الجمل ثم أمشي مرة أخرى وأنتظر، أجد أمامي طابور المسافرين على وشك الانتهاء، أنظر إليهم وأنا أتمني أن أصبح مكانهم.
وتذكرت حينها جملة سمعتها: "ربنا مش بيعمل حاجة عشانا، سايبنا وهو عارف إن إحنا تعبنا بس مش بيساعدنا، هو فين ربنا؟!".
حروف وكلمات قاسية صعبة، رفضتها أذني عندما سمعتها، واسترجعها عقلي الآن لماذا؟
ولكنه استرجع أيضاً دعاء أمي لي وهي تطلب مني أن أردد : "يقيني بك يا رب إني هرجع لجوزي بأمان".
فأصبحت أكررها بصوت مسموع وكأنني أمسح العبارة الأخرى، وأجتهد أن يصل قلبي لهذه الحالة من الاستسلام لله وحده، وأنا على يقين أنه لم ولن يضيعنا، حاشاه عز وجل أن يضيع عباده.
ناداني الضابط بصوت عال، وبدأ بالتحقيق معي حول تفاصيل سفرنا للندن وطبيعة عمل زوجي وسبب منعنا من السفر من مطار القاهرة، ولماذا قررت أن أسافر عن طريق مطار آخر؟!
وفي نهاية التحقيق سألني: "هتيجي تاني مصر إمتى؟"، كنت على وشك أن أجيب أنني لن أسافر لمصر مرة ثانية، ولكني غيرت فكري سريعاً قائلة: "هاجي على طول إن شاء الله".
فطلب مني أن أحدد تاريخاً بعينه، اندهشت داخلي وقلت: "يعني ممكن 23 مثلاً".
وجدته يكتب التاريخ في الورقة أمامه وهو يقول: "هنستناكي يومها".
وأنهى الحوار وأعطاني جواز السفر، أخذته وأنا أطير فرحاً، وكأنه أعطاني مفتاح حريتي، جريت مع أطفالي لنلحق بالطائرة قبل دقائق من موعد إقلاعها.
اتصلت بأمي وأبي أخبرهم بأنني مسافرة ولكن لم أستطع أن أكلم زوجي خوفاً من معرفتهم بأمري وأخذي من على متن الطائرة، كما فعلوا مع البعض من قبل.
سافرت وأنا أودع كل الصعاب والآلام، أودع هذه البلدة الظالم أهلها قبل حكامها، أودع الخوف والقلق ليلاً وعدم الاستقرار، سافرت لأودع مصر التي لم تعد بعد ذلك (أمي).
وحتى الآن لا أعرف ماذا جرى؟ هل كان لل(وسيط) دور في سفرنا؟ أم كانت حالة الاستسلام لله وحده والاستعانة به؟ أم أنها بركة دعاء أمي التي لم يتوقف لسانها عن ذكر الله والتضرع إليه حينما عرفت بمنعي من السفر؟
حقاً لا أعرف ما السبب! ولكن ما أعرفه جيداً أن رحمة الله وقدرته أكبر من كل شيء، الحمد لله.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.