الآن، يحقّ لنا أن نتساءل: من الرابح ومن الخاسر ممّا يسمّى بالربيع العربي؟ لقد كان المخطط الجهنّمي وما زالت تفاصيله لم تُنَفَّذ بالكامل ربما في انتظار الفرصة المواتية يرمي إلى استغلال الأوضاع التي تعرفها دول وشعوب العالم العربي، من المحيط إلى الخليج، لإشعال "ثورات" قبل الانقضاض عليها وتحويل اتّجاهها بما يخدم مصالح المموّنين والمموّلين والراعين لهذه "الثورات" في المنطقة. فكان "الربيع" قبل الأوان الذي قضى على الأخضر في جماهيرية القذافي وجمهورية بنعلي، وعلى اليمن السعيد الذي لم يعرف علي صالح كيف يجعله سعيدا ولا صالحا، ثم زحف هذا "الربيع" على اليابس في سوريا التي اختلطت فيها الأوراق بالمصالح، ليطل هذا "الربيع" برأسه في مصر والجزائر. جميع هذه الدول باستثناء تونس كانت من الخاسرين، بشكل أو بآخر، وما الأحداث التي عرفتها إلاّ دليل على أن "الاختيار" لم يكن في محلّه: ليبيا ما زالت تتطاحن مع نفسها بينما يسيطر "إخوان" ومن على شاكلتهم على مناطق بكاملها؛ اليمن لا يخرج من دوامة عنف إلاّ ليدخل فيما هو أعنف منها؛ سوريا لم يرد "أسدها" الخروج بأخفّ الضررين، فدفع ببلاده إلى أتون حرب لا تُبقي ولا تذر ما زالت تخوضها كل من إيران ومعها "حزب الله" والأنصار، وروسيا، وتركيا بطريقتها، والأكراد، وقطر، وأمريكا.. إلى حين ظهور "داعش"؛ في مصر اعتقد محمد مرسي، وهو لم يأخذ بعد وقته الكافي للتربّع على كرسي الرئاسة التي جاءت إليه على طبق من ذهب، أنّه بالإمكان تحويل بلد الكنانة إلى مجرد زاوية أو ملحقة لحزب "الإخوان"، فأطاح بكل شيء في البلاد: بالسياسيين، بالمثقفين، بالاقتصاد، بالسياحة.. وحتى ب"الإخوان" أنفسهم، وتحوّلت مصر إلى ساحة حرب حتى جاء السيسي ليحسم الأمور. الجزائر كانت قاب قوسين أو أدنى من أن يجرفها "الربيع" الذي حوّله النظام الحاكم فيها إلى خريف قبل الأوان من خلال تلويحه بورقة الإرهاب التي سعى من ورائها إلى تخويف الجزائريين من عودة ما سمّاه بالسنوات السوداء، ويحسم الأمر بتنظيم انتخابات مثيرة للجدل، جدّد فيها الولاية الرابعة لرئيس مرشح لم يخض دعاية ولا حملة انتخابية، ويحكم من دون أن يدري أنه يحكم. وما زال الجميع في الجزائر نفسها ينتظر.. وما زال الوضع قابلا لكافة الاحتمالات بينما الاضطرابات والاحتجاجات والمظاهرات تجتاح مختلف جهات وولايات البلاد. براغماتية الفاعلين في تونس استطاعت أن تستوعب الدرس ممّا يجري حولها، فارتأت اللجوء إلى خيار التوافق سواء فيما يتعلق برئاسة الجمهورية، أو برئاسة البرلمان، أو برئاسة الحكومة، أو بالانتخابات في شقّها التشريعي والرئاسي، لتقطع شوطا مهما من مرحلة المُؤَقَّت إلى مرحلة الاستمرارية في ظل التوافق. في هذا الخضم، أدرك المغرب، بفضل قيادته الحكيمة، حقيقة الأهداف البعيدة من موجة هذا "الربيع" الذي كشف أن اجتهادات مموّليه ومموّنيه وراعيه (عربا أو عجما) كانت خاطئة من خلال الدفع ب"الإسلاميين" للوصول إلى سُدّة الحكم. فكان التعاطي الذكيّ مع الأحداث، التي رُفِعت فيها شعارات حقّا يراد بها باطل، بفتح النقاش على مصراعيه، من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار، حول كل ما يهم البلاد والعباد. وكان التميّز المغربي، الفريد والوحيد في المنطقة، بإجراء استفتاء على الدستور في وقت عجزت فيه الأنظمة العربية عن مجرد تنظيم مناقشة حول أيّ موضوع يتعلق بالشأن العام. وهكذا نجحت المملكة فيما لم يستطع غيرها القيام به، ممّا أهّلها لتكون نموذجا وقدوة للحكامة الناجعة، الفاعلة، المطلوبة في محيطها العربي والإفريقي والمتوسطي. في هذا السياق، استطاع المغرب أن يعطي المثال الفريد بأنه البلد الذي يمثّل فيه أبناؤه ومواطنوه الرأسمال الحقيقي الذي لا يكسد، والكنز الأكبر الذي لا ينضب. إنه الرأسمال البشري غير المادي القادر على العطاء الدائم المستمر، وعلى الإنتاج المتوالي في كافة المجالات والمستويات من دون خوف من انهيار أو اندحار في سوق القيم أو في أسواق النفط العالمية كما يحدث في بلدان أعطت كل وقتها وركزت كل سياساتها على الاستثمار والاتّجار والكسب فيما هو مادي، قابل للزوال، ليسقط، بالتالي كل شيء، بالتتابع، على غرار لعبة "الدومينو". بلدان راهنت على كل هذا على حساب الاهتمام والعناية والاستثمار في التنمية البشرية. هذا هو الدرس الذي يكشف أمام الجميع، بعد السنوات العجاف ل"الربيع العربي"، حقيقة الرابح والخاسر من فصل أراد مموّلوه ومموّنوه وراعوه فرضه قبل وقته وأوانه. والمغرب هو الرابح بكل تأكيد.