مع اقتراب موعد الانتخابات الرئاسية لسنة 2014، بدأت التكهنات في أوساط بعض المهتمين بالشأن العام، حول شخصية من يختبئ تحت قبعة الساحر، كما أن توقف مد ما يسمى بالربيع العربي عند أبواب القصر الرئاسي بدمشق، أحيا الهمس حول إمكانية حدوث التوريث في الجزائر. ولأن مهمة الكاتب أو الصحفي، أو المفكر أو المحلل في أي بلد كان، هي أن يدلي برأيه، وأن يوضح ويبين لرجال السياسة بصفة خاصة، وللرأي العام بصفة عامة، ما يجوز وما لا يجوز، وما هو مفيد للوطن، وما قد يعصف به أو يدخله في دوامة عنف تدوم لسنوات طويلة، لذلك وجب التعرض لهذا الموضوع ليناقش بكل خلفياته وأبعاده وأخطاره أيضا. من حوالي أربع سنوات، قبل الربيع العربي دعيت لإلقاء محاضرة، أمام إطارات إحدى مؤسسات الدولة، حول العولمة وتأثيراتها على المنطقة العربية، فكان من بين ما قلته في تلك المحاضرة، هو أني جد متشائم مما يحدث في هذه المنطقة من العالم التي تأبى السير إلى الأمام، كما تعرضت لطبيعة الأنظمة العربية التي خلقت ما سمي بالجملكيات، أي الجمهوريات الملكية التي أصبح الحكم يورث فيها من الآباء إلى الأبناء، وقلت وقتها أن الأبناء، عندما يتولون الحكم، يكونون أسوأ من الآباء، لأنهم (الأبناء) عاشوا في قصور رئاسية بعيدا عن اهتمامات المواطنين، وتعودوا على إعطاء أوامر تنفذ دون أي اعتبار للقانون ولحقوق المواطنين، كما أن لهم ارتباطات بدوائر الفساد في الداخل والخارج. في نهاية المحاضرة، سألني أحد الإطارات عن رأيي في توريث الحكم بالجزائر، فكان جوابي، بتلقائية وبدون تفكير وبالعامية قائلا: "رايح يكون الدم للركبة"، ثم شرحت للسائل وللحضور، بأن الوضع في الجزائر جد مختلف عن الدول العربية الأخرى، لأن الجزائر هي بكل بساطة ملكية خاصة لكل مواطن. كل العائلات الجزائرية دفعت، أثناء الثورة التحريرية، ثمنا معينا من أجل هذا الوطن، وبالتالي فكل جزائري له قناعة لا تتزعزع بأن الوطن وطنه، وأنه مواطن وليس رعية في هذا الوطن، وبالتالي لا يمكن أبدا أن يورث في إطار صفقة انتخابات رئاسية. صحيح أن الانتخابات تزور في الجزائر، وأن مراكز القوى سبق لها أن فضلت مترشحا على آخر، أو تكون قد سعت لتدعيم شخصية معينة على حساب شخصية أخرى يفضلها الشعب.. كل هذا ممكن، لكن الغير ممكن أبدا، والذي لا يعقل تصوره في الجزائر، هو أن يحولوننا تحت أي مبرر كان، إلى مجرد رعية. لقد دفع الشعب الجزائري الثمن غاليا -أبناء القرى والمداشر والجبال الجزائرية وحدهم يدركون قيمة هذا الثمن- لكي يتحرر من الاحتلال، كما ضحى أبناء الجزائر بالكثير، في مرحلة الإرهاب، كي يبقو مواطنين أحرارا، ولا يتحولون إلى مجرد رعية كما هو الشأن في الأنظمة الملكية في العالم العربي. صحيح أن الدستور يمنح لكل جزائري الحق في الترشح لمنصب الرئاسة، وصحيح أن الشخص المقصود هو جزائري له نفس الحقوق وعليه نفس الواجبات، لكن وجوده إلى جانب االحاكم الحالي وعلاقته العائلية به، تفرض عليه أن لا يفكر أبدا في الموضوع، لأن كل الذين ورثوا الحكم، أو سعوا إلى ذلك، أدخلوا بلدانهم في دوامات عنف وحالة عدم استقرار ستدوم لسنوات طويلة. في العراق، بدأ تحضير الابن لخلافة الأب فكانت النهاية المأساوية التي نعرفها، وفي سوريا، خلف طبيب العيون الشاب والده الجنرال العجوز، ودامت له سنوات لينتهي بإدخال بلده في دوامة حرب ودمار ستنتهي بسقوطه أو قتله، في تونس، سعت زوجة الرئيس لوراثته فانتهى بها الأمر، وزوجها، إلى الهروب، وفي مصر، كانت الأمور مهيأة ليخلف جمال والده حسني مبارك فكان مآلهما السجن، وفي اليمن، انتهى أمر الخلافة بذهاب علي صالح وكل أفراد العائلة، وفي ليبيا، تعرض كل أفراد العائلة الحاكمة للتصفية الجسدية وللفرار من البلاد والمتابعة القضائية. أكيد أن دائرة الأفراد المستفيدين سيحببون الأمر للشخص المعني ويسهلونه له، لأن بطانة السوء تفضل الفائدة الآنية واستمرارها في الحكم لتغرف أكثر من الريع على حساب الوطن؛ بينما بطانة الخير هي تلك التي تنصح باختيار الوطن على حساب السلطة. رئيس الجزائر لما بعد 2014، يجب أن لا يكون هرِما ولا مريضا، ولا مالكا لعقارات أو أموال أحرز عليها بفضل المنصب، بل يكون من الكفاءات التي تولت في مراحل معينة مناصب مسؤولية ولم تتلوث بالفساد. يجب أن يكون جامعيا كي يستطيع إحاطة نفسه بجامعيين يستمع إلى مشورتهم ويستفيد من خبرتهم بدون عقدة. بعد خمسين سنة من استعادة السيادة الوطنية، لم يعد مقبولا أبدا أن يحكم الجزائر من لم يدخل الجامعة. لم يكن مطلوبا من جيل الثورة توفر عنصر الشهادة لقيادة البلاد، لكن هذا الجيل هرم وتجاوزته الأحداث، وعليه أن يدرك بأنه لصالحه ولصالح أبنائه وللجزائر، التي ضحى من أجلها، أن يغادر السلطة وأن يسلم الأمانة لمن هم أصغر سنا، وأكفأ وأقدر على بذل المجهود الفكري لفهم المستجدات الحاصلة في العالم، وأيضا لبذل المجهود البدني لمواصلة العمل لكل ساعات النهار وجزء من الليل، لأن الجزائر تحتاج اليوم لمن له القدرة على العمل لساعات طويلة، والتنقل عبر أنحاء الوطن باستمرار لمعاينة ما يجري في الميدان، والتعرف على المسؤولين المحليين، ووضع خطط التنمية ومتابعة تنفيذها. وضع الجزائر اليوم، ليس بالوضع المريح، فالأخطار تحدق بها من كل حدودها، والفساد ينهشها من الداخل، وكل برامج التنمية معطلة، والاعتماد كله على البترول، مما يعرضها في أية لحظة، لأخطار قاتلة. كل هذا، يفرض على من له مسؤولية في اختيار، أو دعم، أو انتخاب، أو تشجيع اختيار الرئيس المقبل، أن يختار الرجل الذي يملك تجربة واسعة في التسيير، وله تكوين جامعي، ولا زال في سن يسمح له ببذل المجهود الكبير، وليس له ماض غامض أو مشبوه. برجل، من عمق الجزائر، يتوفر على هذه الصفات، ويحقق الإجماع الوطني بعيدا عن الجهوية والحسابات الضيقة، يمكن إنقاذ الجزائر مما هي فيه من سوء ومما يخطط لها وهو أسوأ. إن الرعية لا تصلح إلا بصلاح الراعي (الرجل الأول)، فأجيدوا اختيار الراعي جزاكم الله خيرا وغفر لكم ذنوبكم.