حين انهار جدار برلين في تسعينيات القرن الماضي، حلم مواطنو ألمانياالشرقية بالجنة الموعودة، وركبوا قطار التطور والتحديث قبل أن يصطدموا بواقع اجتماعي خطير دفع بنساء المعسكر الشرقي إلى أن يبعن لحمهن لأغنياء أوروبا الغربية مقابل ضمان الحد الأدنى من القوت، وبعد عقدين من الزمن اكتشف الشرقيون أنهم تعرضوا لخدعة دفعوا ثمنها غاليا. ما حصل في أوروبا الشرقية بتحريض من أمريكا التي خرجت للتو من حرب باردة مع الاتحاد السوفياتي المنهار، عاد بطريقة أخرى في العالم العربي، لكن هذه المرة لم يسقط جدار برلين، بل سقط ما تبقى من قناع ظلت تحتمي به جهات متربصة وجدت الفرصة سانحة للانقضاض على الحلم العربي الذي لم يتجسد قط رغم كل الشعارات التي ظلت ترفع هنا وهناك، ليكتشف العرب في نهاية المطاف أن الربيع العربي لم يكن سوى شماعة علق عليها الإسلاميون شماعة الماضي، وسحبوا السجاد من تحت أرجل الجميع ليعلنوا أنفسهم حكاما بالمطلق. ما حدث في مصر وتونس، وما كان سيحدث في المغرب ليس له سوى عنوان واحد، "الشر القادم من العدم"، وهو الأمر الذي تأكد جليا ونحن نعاين ما حدث خلال الاستفتاء على دستور أرض الكنانة، حيث تحول الأمر من استفتاء على الدستور إلى استفتاء على خليفة الله في أرض مصر التي يقول المصريون إنه جاء ذكرها في القرآن 11 مرة، ولعل الطريقة التي اعتمدها الإسلاميون هناك لترسيخ وجودهم الدنيوي قبل العقدي تحيل على أيام سود "كقرن الخروب"، مادام أنه لا أحد هناك يمكنه الجزم بما سيقع غدا، لأن الذين يحكمون اليوم في مصر، وفي تونس وحتى في المغرب، لا يؤمنون أصلا بالديمقراطية حتى يباشروا بها الحكم. لقد قالها مرسي وفعلها الغنوشي واستلهمها بنكيران، كلهم يسعون إلى هدف وحيد، وهو إقامة خلافة على أنقاض الخلافة الإسلامية، خلافة تغيب فيها كل أبجديات حقوق الإنسان المتعارف عليها، وحتى لو اختلفت المصطلحات، وتنوعت الطرق، فإن الهدف ظل واحدا لا ثاني له، وهو إلجام المجتمع وإنهاء النقاش السياسي، وإعادة بناء جدارات جديدة لا مكان فيها للحداثة والديمقراطية التي صعد أدراجها الحكام الجدد قبل أن يهدموها على رؤوس الأشهاد، ليتحول الشعب إلى مجرد قطيع تطبق فيه معاني الحديث الشريف "كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته". يجزم كثير من المصريين أو على الأقل الذين انتفضوا ضد مرسي واحتلوا ميدان التحرير في ثورة مضادة أنهم خدعوا، وأن رحيل مبارك لم يكن سوى بداية ثورة ناعمة قادها الإخوان المسلمون، ليس ضد النظام السابق فقط ولكن ضد كل الشعب، وضد المتنورين، وضد الثقافة المتعددة، وكما في مصر قام الإسلاميون في تونس بإعادة تشكيل هوية البلد، فأقاموا المتاريس والحواجز في كثير من المناطق وحكموا فيها بلغة النار والحديد، وهو نفس الحلم الذي يراود أبناء العدالة والتنمية في المغرب الذين يرفضون أن يشاركهم أحد الحكم، وحتى إن فعلوا ذلك على مضض فإنهم يحلمون باليوم الذي يعلنون نهاية المسرحية، ويستولوا على الركح وحيدين وبلا منازع. هي ثورة إذا نحو المجهول، وربيع عربي تحول إلى تسونامي يكاد يأتي على الأخضر واليابس ويهدم كل ما بناه العرب على مر السنين، لتصبح ثورة القرنفل والياسمين أمرُّ من العلقم، وقطران أسود.