في رواية جورج أورويل التوقعية "1984" يجد ونستون سميت نفسه لاعبا في الحزب لكن غير متفق مع زعيمه، ويتولى وظيفة في الدولة الافتراضية المسماة "أوشانيا"، ورغم أن وظيفته رتيبة غير أنها ممتعة، فهو مكلف في مكتب رتيب بتزوير الذاكرة والتاريخ، وذلك في أفق أن تصبح توقعات الزعيم الماضية مناسبة لما حدث في الحاضر، يعني إعادة كتابة التاريخ بأثر رجعي. فإذا كان زعيم الحزب قد تكلم عن وقوع أحداث سنة 1984 ووقع غيرها تقوم هيئة تزوير التاريخ بإعادة كتابة خطاب زعيم الحزب "الأخ الأكبر"، فإذا تكلم عن الوفرة ولم تحدث إلا بنسبة معينة تقوم الهيئة المذكورة بمراجعة خطبة الزعيم وإعادة تصحيحها وحرق الخطبة الأصلية. وإذا صدر عدد من الجريدة قبل ثلاث أو أربع سنوات وتضمن كلمة للزعيم عن توقعاته للمستقبل ولم تقع يتم إعادة تصحيح المعلومة وطبع العدد المذكور، كأن يتكلم الزعيم عن نسبة عالية من توزيع الشوكولاتة ولم يقع ذلك تقوم الهيئة بتصحيح كل الوثائق التي تتضمن ذلك ويتم حرق الوثائق القديمة. وكل ذلك من أجل إعادة كتابة التاريخ ومحو الذاكرة، لأن من يمتلك الماضي يمتلك الحاضر ومن يمتلك الماضي والحاضر يمتلك المستقبل. ومن غرائب الصدف أن الحزب الاشتراكي الافتراضي كان يطلق على زعيمه "الأخ الأكبر"، وحزب العدالة والتنمية، الذي يفترض هو أيضا أشياء كثيرة يسمي زعيمه "الأخ" لكن ليس أكبرا لأن "لكتاف مقادة". إذا كان الأخ الأكبر استطاع تغيير التاريخ ومحو الذاكرة فإنه ليس بمقدور بنكيران فعل ذلك، لأن الذاكرة مشتركة، وهي مانعة للعب بها. فبنكيران له طريقته في التفاعل مع الذاكرة، وقد ظهر بين الأمس واليوم في وجه آخر. فما بين الانتخابات وتشكيل الحكومة وتقديم التصريح الحكومي عرفنا بنكيران آخر. ظهر بنكيران، الذي يريد أن يأخذ زمام المبادرة في مكافحة الإرهاب والجريمة الإرهابية التي تتربص بالمغرب وتسعى لزعزعة استقراره، وظهر بنكيران، وهو يشيد بالقوات العمومية ويدعو إلى دعم عملها في هذا المجال. واختفى بنكيران الذي كان يشكك في الأعمال الإرهابية ويشكك في عمل الفرقة الوطنية للشرطة القضائية. فقد حاول بنكيران ورهطه تمرير مفهوم جديد للذاكرة يعطي انطباعا بأن ذاكرة المغاربة مثقوبة والواقع أنها ليست كذلك، وقد أكد المغاربة على مر التاريخ أنهم من أحرص الشعوب على الاستذكار وحفظ الذاكرة، وكل صفحات الذاكرة المغربية مرتبة بعناية كتابة ورواية ولا يمكن أن يلعب بها حزب سياسي، ولا حركة تحولت من تجمع للدراويش إلى قوة تحاول أن تظهر بمظهر فرعوني مخيف ومرعب للمخالفين. ومن محاولات محو الذاكرة أو اعتبارها مثقوبة هو الانحناءة التي قام بها عقب أحداث 16 ماي الإرهابية ثم عاد بعد مرور أكثر من سبع سنوات ليشكك في فاعلها، وإذا أردنا أن نعدد محاولات التفاف قادة العدالة والتنمية على الذاكرة فلن تكفينا المجلدات، ولكن هذه السطور فقط لنذكرهم، بأن ذاكرة المغاربة ليست مثقوبة إنها حية وقادة لا يتسرب إليها السهو. نحن شعب ثقافته مبنية على الذاكرة وعلى التاريخ. نتمنى أن يكون بنكيران صادقا فيما قال، وألا يعود للعب بالذاكرة وينفذ ولو ثلثا من برنامجه الذي أعلن عنه لأننا نريد له النجاح لأننا نحب المغرب وبقدر يفوقه.