من هو عبد الإله بنكيران، المرشح لرئاسة الحكومة؟ أقول المرشح لأن الفصل السابع والأربعون من الدستور لا يمنحه مباشرة رئاسة الحكومة إذ قد يمنحها لأحد زملائه؟ من هو هذا الغول المخيف، هذا القادم من بيداء فكر الجزيرة الجرداء، وقد أصبح الإسلاميون يطوقون الدولة والمجتمع، نصفهم عبر الانتخاب ونصفهم عبر قومة فضفاضة وملتبسة المعاني وهي في النهاية صنو للفوضى؟ لم يكن ذاك الشاب الرباطي يحلم بمنصب أقل بكثير من منصب وزير بله رئيس حكومة بل أول رئيس للحكومة، ولم يكن يعرف أن دور الممثل في مسرح تتقاذفه أمواج اليسار والحركات الإسلامية الوليدة سيتجاوز الخيال والحلم ليصبح حقيقة، لكن في كل ذلك كان الأذكى من بين كل رفاقه رغم أنه لا يقرأ ولا يطلع، حيث كان يعرف جيدا أهدافه. بنكيران هذا المراوغ في الزمان مثل أبي الهول، على حد تعبير الكبير محمود درويش، كان يمكن أن يصل إلى هذا المنصب حيا أو ميتا، يساريا أو إسلاميا، فقليلون هم أولئك الذين يعرفون أن المرشح الأول لرئاسة الحكومة بدأ حياته شبه يساري في تنظيم 23 مارس، وقليلون يعرفون أنه طرد منه بعد أن تعرض لتأديب فيه ما لا ينبغي ذكره، وقد شكل هذا التأديب، حسب عارفين بالقصة، عمق الكره الذي يحمله بنكيران لليسار. ولأن تجربة اليسار لم تكن ممتعة ولم تحقق المبتغى، وما كاد الماء يتسرب حتى جمد، فقد ولى الرفيق السابق بنكيران وجهه قبلة أخرى، وهي شبيهة بقبلة الوثني الأخير لا طعم ولون لها ولا مبادئ تحتاج إليها ويمكن داخل كعبتها سحق الأخلاق والضرب تحت الحزام. وما إن دخل بنكيران تلك الكعبة حتى سجد قبل الركوع، وبين سجوده وقيامه اليوم "نافجا حضنيه بين نثله ومعتلفه، ومعه بنو حزبه متأهبون لخضم أرض الله مثلما تخضم الإبل نبتة الربيع"، مر أكثر من ثلث قرن، سارت فيها أودية الزمن بقدر، ذهب الراحلون نحو مصيرهم، مات منهم من مات وفات منهم من فات، المهندسون في قبورهم والنادمون في حسرتهم والمتربصون أغذقت عليهم الدنيا من خيراتها مقاعد ووزارات ومال وجاه. اللهم لا حسد. كان الداعي إلى الكعبة الجديدة التي قصدها بنكيران كولونيل، قد الدنيا، من أقاربه، يومها كان الشاب بسيطا باحثا عن موقع، وكان إدريس البصري باحثا عن ممثل في مسرحية كبيرة انفلتت خيوطها فيما بعد، وتطوع العسكري القريب لتقديم الشاب الرباطي إلى الرجل القوي في الداخلية والمخابرات. لقد وقع البصري على طريدة لن يجود بها الزمان أكثر من مرة، وكانت مصائد الشبيبة الإسلامية تغري، لكن الشاب الرباطي لم يكن في عير الشبيبة ولا في نفيرها، وقد سمع مثله مثل غيره بعبد الكريم مطيع، ويوم رحل زعيم الشبيبة فارا بجلده كان بنكيران متسعكا وسط خلية بسيطة لمنظمة 23 مارس. لكن سنة أو أكثر بقليل كانت كافية ليسطع نجم بنكيران. وبما أن الصناعة تحتاج إلى ترويج، فإن صناعة بنكيران كانت في حاجة إلى فترة كي يصبح رمزا، ويصبح هذا المنتوج قابلا للاستهلاك وإلا كان دخوله الكعبة مثل دخول الأعرابي للمسجد الذي بدل أن يقوم للصلاة فيه تبول على حصيره. فهل كانت مهارات الصانع كانت قادرة على ذلك؟ سنة 1979 احتضنت مدينة الرباط مهرجانا تضامنيا مع الجهاد الأفغاني، بتنظيم عبد الكريم الخطيب والمهدي بنعبود ورشدي فكار وبهاء الدين الأميري، وبحضور خالص مجددي أحد قادة الجهاد، المدعوم من أمريكا المؤمنة ضد روسيا الملحدة، وكان المهرجان فرصة للبصري لتقديم صيده للجميع، ففي نهاية المهرجان قام شاب رباطي يلبس الجلباب المغربي طالبا الكلمة، كلمة فاجأت الجميع، لقد قال ذاك الشاب : لا يمكن تحرير أفغانستان من الغزو الروسي الملحد إلا بعد تحرير الرباط من الطواغيت. ويا سبحان الله، انتهى المهرجان ولم يعقب أحد ولم تستدع الشرطة ذاك الشاب، ومن عاش في تلك الفترة يعرف أن كلمة مثل كلمة الشاب الرباطي، الذي ليس سوى بنكيران، تكلف كثيرا، سنوات من السجن أو حتى أكثر من ذلك. لم يعتقل بنكيران بعد أن ظهر شابا جريئا أمام أنظار معارفه من الشبيبة الإسلامية، فلماذا؟ بعدها بقليل قاد المسيرة المعروفة بمسيرة المسجد المحمدي بالدارالبيضاء، رفقة باها ويتيم، مطالبا بإطلاق سراح المعتقلين في قضية عمر بنجلون وعودة عبد الكريم مطيع، قائلا لا يمكن أن نعتقل المؤمنين في جريرة كلب أجرب. كل تلك المقدمات ما كانت إلا المبرر أو الجمل الذي ركبه بنكيران ليلتقي في تلك السنة بعبد الكريم مطيع، الذي كان مقيما في أحد فنادق روما، يقول شاهد من تلك المرحلة أن مطيع شك في الشاب لكن أراد توظيفه ضد خصومه. لم تكن تلك التسخينات سوى محاولة لإدماج بنكيران في حياة الشبيبة الإسلامية، التي عندما تعرف عليها كان عقدها قد انفرط مثلما تنفرط حبات السبحة، تمهيدا لإعلان الخروج من شيء لم يدخله بنكيران أصلا، والذي توج بالبيان الشهير للتنديد بمطيع، الذي دافع عنه والتقاه، والانسحاب من الشبيبة الإسلامية وتأسيس الجماعة الإسلامية. وفي أصل التسمية لابد من الإشارة إلى أنها مستوحاة من اسم الحركة التي أسسها أبو الأعلى المودودي بباكستان وصاحب مفهوم الحاكمية، واستقت الحركة الوليدة فكرها من خليط عجيب جمع بين الفكر الإخواني وكتابات سيد قطب واستلهمت الفكر الوهابي بل تربت عليه، حيث قدم إلى المغرب الوهابي الدولي زين العابدين سرور وأقام دورات تكوينية للجماعة الإسلامية على امتداد سنتين كما أن صلته بقادة الجماعة لم تنقطع إلى حد الوقت، وهو ما أكده في كتابه عن العمل الإسلامي. لكن الشبيبة الإسلامية لها رأي آخر في بيان الانسحاب حيث تقول : "عبد الإله بنكيران الذي وقع البيان نيابة عن الأشخاص المعتقلين لدى الشرطة والواردة أسماؤهم فيه، وعمل مفتش الشرطة السياسية الخلطي على نشره في الصحف لم يكن قط عضوا في الشبيبة الإسلامية وإنما حاول الاندساس فيها". وأضافت في بيان ردها على مذكرات مجموعة بنكيران "ضم البيان أسماء أفراد أعلن نيابة عنهم انسحابهم من الشبيبة الإسلامية مع أنهم لم يكونوا قط أعضاء فيها بأي صفة من الصفات وهم المسمون : عبد العزيز بومارت، إدريس بومارت، رشيد حازم، عبد السلام كليش، سعد الدين العثماني، عبد المجيد فتاح، توفيق العسيلة، أحمد الخليفي". غير أن الأمور لم تكن مهيأة والأرض لم تكن معبدة لعبد الإله بنكيران، فعلاقته بالخلطي كانت معروفة، مما جعل العديد من الشبهات تحوم حوله، غير أنه صبور لحد لا يتصور، فقال لإخوانه وصحبه اختاروا غيري لقيادة الجماعة ووقع الاختيار على محمد يتيم، غير أن بنكيران يعرف كيف يلعب، فاقترح الدخول في عمل علني بالرباط من خلال جمعية الجماعة الإسلامية، فظن رفاقه أنهم سيجربون به نوايا السلطة غير أنهم قبل أن يتعشوا به تغذى بهم، ولم تمر سوى سنوات قليلة حتى أصبحت الجماعة كلها جمعية يترأسها بنكيران. وفي الحديث عن زين العابدين سرور، قائد سلفية الصحوات والممول خليجيا، كان قد ألف كتابا سماه "عودة المجوس"، ومن غرائب الأمور أن الكتاب دخلت منه آلاف النسخ إلى المغرب لكن صاحب المكتبة المتفق معه امتنع عن توزيعه، فظل في الخزائن إلى أن أقرت الجماعة الإسلامية ضمن منهجها التربوي، وكان يباع مثلما تباع الشكولاتة بمكتبة بحي يعقوب المنصور كانت في ملكية المرشح حاليا لرئاسة الحكومة. الله أعلم كم جنى من العملية، وكان وقتها قد طلق التعليم فهو مدرس للفيزياء وتفرغ لإدارة مشاريع زوجته. بعد أن استتب الأمر بدأ بنكيران في البحث عن مسار آخر. بدأ يبحث عن الوجود السياسي. وكم هو صبور هذا الرجل، شعاره المفضل "اللي بغا لعسل يصبر لقريص النحل". لقد أسس بنكيران حزب التجديد الوطني وتخلى عنه مثلما تتخلى العاهرة عن مولودها في انتظار أن تربي وليدا قطع مراحل الرضاعة. الذي يعرف تاريخ العدالة والتنمية يتأكد من أنه حزب عاش دلالا بعد دلال، فهو الحزب الذي لم يناضل في يوم من الأيام ولم يدخل سجونا ولم يخض معارك ديمقراطية وعندما أغذقت علينا الدنيا بالديمقراطية كان أول المستفدين من ثمراتها، فالجماعة التي قرصنت حزب عبد الكريم الخطيب هي الجماعة التي كانت تدعو للسكون والابتعاد عن المواجهة في وقت كان المجتمع يغلي وكانت حتى شبيبات الأحزاب التي كان يطلق عليها إصلاحية داخلة في المواجهة، ولما رفضهم حزب الاستقلال وطلب منهم الانتظار طويلا أو الالتحاق بجمعية النهضة الإسلامية التي كان يرأسها أبو بكر القادري، حاولا تأسيس حزب التجديد الوطني وهو الحزب الوحيد الذي تخلى عنه أصحابه في المهد بإشارة بسيطة من البصري الذي وعدهم خيرا. وكان البصري صادقا وعده مع بنكيران حيث أعطاهم أربع سنوات بعد ذلك حزبا بمؤسساته وبكل شيء وصاحبه من دعاة الإديولوجية الإسلامية ومحسوب على الإخوان المسلمين، حيث نعى التنظيم الدولي للإخوان الدكتور الخطيب واصفا إياه بأحد مؤسسيه بالمغرب، وظل الخطيب الحاضن والحامي إلى أن توفي إلى رحمة الله. ثلاثة هم فقط من يعرفون خلفيات تأسيس حزب اسمه العدالة والتنمية، إدريس البصري وعبد الكريم الخطيب وبشكل ضعيف عبد الاله بنكيران أما الأتباع والأزلام والمستلحقون فهم في خبر كان من كل ذلك، وبعد أن ذهب الأول والثاني إلى دار البقاء فإن الثالث المرفوع أصلا فقد البوصلة ولم يعد يعرف ما يفعله. المرشح لرئاسة الحكومة لا يفهم في الدين ولا في الدنيا. ادعى أنه سيدخل الجنة صحبة باها وخمسين من أتباعه واتهم إبراهيم الخليل بأنه شك في وجود الله. فقد قال في لقاء للمكتب التنفيذي للجماعة الإسلامية سنة 1987، ولا أعتقد أنه يذكر هذا التاريخ لأنه يريد فقط التاريخ المرسوم وفق قاعدتهم في إنتاج الذاكرة وهي ترميز النكرات، قال في اللقاء المذكور عن بعض الأنبياء سيأتون يوم القيامة لوحدهم ويكفيه لو جاء يوم القيامة وعبد الله باها ومعهم خمسون شخصا. وقال في مؤتمر جمعية مستشاري الحزب أنه إذا كان إبراهيم الخليل شك في وجود الله فمن حقه أن يشك في أحداث 16 ماي، ما لا يفهمه الفقيه صاحب الدعوة أن خليل الرحمن إبراهيم لم يكن شاكا في الله لكن بنكيران وقع له شك متأخر جدا حول أحداث وقعت منذ سبع سنوات وحسم فيها القضاء وأثبتت التجارب أن الضربات الاستباقية هي التي حمت المغرب من كوارث الإرهاب ومن الإرهابيين الذين تتلمذوا على خطاب سلفي يستفيد مما تتيحه الديمقراطية من فرص للخطباء الذين سقطوا سهوا في زمن كان إدريس البصري يبني مشهدا سياسيا على مقاسات معينة ليس الآن موضع مناقشتها ووضعها على محك النقد. إن الوعي الشقي لدى بنكيران الذي ضمن الجنة وضمنها لخمسين من حوارييه على الأقل أعماه عن رؤية الواقع كما أعماه عن قراءة النص المقدس، وبين بوضوح درجة الأعلمية لدى دعاة آخر لحظة ومدى مساهمتهم في إنتاج الخطاب وفي المساهمة في تجديد الفكر الديني في الإسلام. أما أخطر قضية أن يتم استغلال المشترك كشعار حزبي أو عنوان فئة صغيرة، وأخطر منه أن يكون ذلك المشترك مقدسا كشعار العدل والإحسان مثلا، وأخطر من كل ذلك أن يتم استغلال الشعار المقدس للتلبيس على الناس وتغطية الفساد برداء الدين، إنه تلبيس إبليس، خلط للأوراق بشكل فظيع، يصبح اللص ذا أيد متوضئة، إنهم يتوضؤون بسرقة المال العام والحفاظ على مالهم الخاص، المال العام حلال عليهم والمال الخاص حرام عليهم. والحرمة منشأها المراقبة الصارمة لبعضهم البعض حد التوجس. هذه هي الذاكرة التي لا يريد بنكيران العودة إليها. والحزب الديمقراطي لا يريد أن يذكر أنه احتضن أعداء الديمقراطية عقديا في فترات مختلفة. ومن محاولات محو الذاكرة أو اعتبارها مثقوبة هو الانحناءة التي قام بها عقب أحداث 16 ماي الإرهابية ثم عاد بعد مرور أكثر من سبع سنوات ليشكك في فاعلها. الآن بنكيران مرشح لرئاسة الحكومة، أهلا وسهلا بالقادم من أحراش الرعونة. لم نعد نعرف ما الذي يراقص أعناقنا أهو ورد أم سيف؟ خذوا حذركم. إن التهنئة التي تبادلها الفائزون كانت هي "ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله".