استطاع الأستاذ عبد الإله بنكيران أن يوصل جزءاً مهما من التيار الإسلامي إلى سدة الحكم بأقل الخسائر، بعد معارك ضارية خاضها داخل التنظيم الذي ساهم في تأسيسه ودمقرطته وبلورة خطابه والمحافظة على تماسكه، ومعارك أخرى ضد خصوم التنظيم الخارجيين والمتربصين بتجربته النوعية،وهو اليوم مطالب بإيصال المغاربة إلى منابع الثروة التي تزخر بها بلادهم، وتستأثر بها فئة من المحظوظين والمتسلقين، بعد أن حظي حزبه بثقة الشعب والملك . فماذا كان سلاحه ياترى وهو يخوض تلك المعارك قبل استوزاره بسنين عديدة؟ الجواب نجده في ثنايا الاستجواب الأخير لرفيق دربه لثلاثة عقود، عبد الله بها، وزير الدولة في الحكومة الجديدة، الذي أدلى به لمجلة المشهد،عدد 105، إذ يقول : " الأخ عبد الإله بنكيران رجل شفاف وصادق وكريم وشجاع، وكما يقول المغاربة ( السي بنكيران راجل معقول)، وهذه كلها خصال وسجايا حميدة لا تجتمع دائما في شخص واحد...ومع ذلك فلكل منا سلبياته وإيجابياته...". أولى المعارك التي خاضها الشاب بنكيران هي معركة الانفصال عن تنظيم الشبيبة الإسلامية بقيادة أحمد مطيع بعد تأكده من أن هذا الأخير له أجندة غير معلنة ! ثم معركة الخروج من العمل السري إلى العمل العلني من داخل المؤسسات، وبالموازاة مع ذلك خاض معركة إقناع قواعد التنظيم بالاعتراف بالملكية كثابت من الثوابت الوطنية والتاريخية التي يقوم عليها استقرار البلاد، في حين كان الفكر الانقلابي هو الذي يؤطر الثقافة السائدة لدى الإسلاميين المتتلمذين على أدبيات السجون والمحنة التي عاشتها جماعة الإخوان المسلمين بمصر في صراعها مع الناصرية الفاشية. لقد كانت هذه أمّ المعارك التي تطلبت من الأستاذ بنكيران الصبر الجميل والنفس الطويل، وكان يسلي نفسه بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( شيبتني "هود" وأخواتها) فيؤوّلها بقوله : " شيّبني الإخوان وأخواتهم" !! والأستاذ بنكيران صاحب حجّة وبرهان، يستطيع بقوّة الإقناع التي يملكها أن يحوّر مسار مؤتمر بكامله، لكن هذا لا يتأتى له إلا إذا كان هادئا وغير متعب. الحاصل أن بنكيران أقنع المراجع الفكرية للتنظيم الذين تولوا بدورهم مهمة إقناع القواعد بضرورة العمل من خلال المؤسسات القائمة، والمحافظة على النظام الملكي الذي يستمد شرعيته من الدين والتاريخ والنضال ضد الاستعمار. بعد هذا جاءت معركة دفع الاتهامات والإشاعات التي رمي بها بنكيران من جهات متعددة، وكلها تدور حول تهمة العمالة للنظام والعلاقات المشبوهة بعميد الشرطة الخلطي أو وزير الداخلية السابق إدريس البصري، في الوقت الذي كان يعمل رئيس الحكومة الحالي على طمأنة الدوائر العليا على صدق توجه الإخوان نحو المصالحة مع النظام، ويطالب باعتراف الدولة بالإسلاميين كمكوّن من مكونات المجتمع المدني. ثمّ جاءت معركة تأسيس حزب سياسي وإخراج الإخوان من فضاءات الدعوة والجلسات التربوية إلى دهاليز السياسة وما تتطلبه من انخراط في الأحزاب وخوض المعارك الانتخابية وولوج البرلمان وإمكانية التحالفات مع من لا تتقاسم وإياهم نفس المرجعيات والمنطلقات الفكرية والسياسية من علمانيين ويساريين وغيرهم، ما تطلب كتابات ومحاضرات من أجل التأصيل الشرعي لمفردات الديمقراطية، وكانت معركة فكرية ضارية هدفها إعادة صياغة الفضاء الفكري للإسلاميين على ضوء تجارب الإسلاميين المشاركين في دول أخرى،،تسير بالموازاة مع معركة سياسية بطلها الأستاذ بنكيران من أجل المطالبة بالإطار القانوني لحزب سياسي يضمّ شتات الإسلاميين الرافعين لشعار " المطالبة بتطبيق الشريعة الإسلامية"!! في منتصف التسعينيات سيوضع على طاولة الإسلاميين ملف الوحدة بين مجموعة من مكونات الطيف الإسلامي، وفي خضمّ النقاش سيتمّ التحفظ على الأستاذ بنكيران من بعض قيادات الرابطة الإسلامية كعضو في لجنة الحوار ربما بسبب مشاكسته لكن سيتمّ رفع هذا التحفظ بسبب التعثر الذي عرفته مجريات الأحداث، وسيكون مقترح "المناصفة" بين الهيئتين ( رابطة المستقبل الإسلامي التي تضمّ العديد من الجمعيات الإسلامية من جهة وحركة الإصلاح والتجديد من جهة أخرى) الذي اقترحه الأستاذ بنكيران وعمل على تنزيله على أرض الواقع، صمّام أمان التجربة الوحدوية التي مازالت سارية المفعول إلى غاية اليوم تحت مسمى "حركة التوحيد والإصلاح". بعد أن رفضت الدولة الترخيص لحزب "التجديد الوطني" كإطار سياسي يعمل من خلاله الإسلاميون المشاركون، عمد الأستاذ بنكيران إلى طرق أبواب بعض الأحزاب السياسية من أجل إدماج إخوانه في المعترك السياسي من أوسع أبوابه، فكان اللقاء التاريخي الذي جمعه بالدكتور الخطيب رحمه الله الذي اتسع صدره لهذا الوافد الجديد، وكان شرطه : نبذ العنف ونصرة الإسلام وإقرار الملكية الدستورية،فانخرط الإخوان في الحركة الشعبية الدستورية وأحيوها بعد موات، وهو الإطار الذي تحوّل فيما بعد إلى حزب العدالة والتنمية. مع أواخر التسعينات ستكون جل المعارك الفكرية والوحدوية والقانونية التي خاضها الأستاذ عبد الإله بنكيران رفقة ثلة من قيادات الحركة والحزب قد حسمت نهائيا لصالح المشاركة السياسية في ظل الهامش الضيق الذي يسمح به الحراك السياسي، ولصالح الديمقراطية الداخلية في انتخاب المسؤولين ومساءلتهم، ولصالح الالتفاف حول النظام الملكي باعتباره ثابت من ثوابت الاستقرار، وسيخوض الإخوان معركة الانتخابات منذ1997 حيث سينتقل عددهم في البرلمان من 14 عضو إلى 42 عضو في أول انتخابات العهد الجديد مع مجيء الملك محمد السادس. لكن بعد أحداث 16 ماي الإرهابية بالدار البيضاء سيركب الاستئصاليون موجة التشهير بحزب العدالة والتنمية و توجيه تهمة "المسؤولية المعنوية" إليه، بسبب خطابه الأخلاقي المناهض لدور القمار والخمّارات والسياحة الجنسية والمهرجانات الماجنة والإعلام المتحلل من الضوابط الأخلاقية، وستتم الدعوة إلى حله من طرف بعض الأصوات التقدمية، وكان إذ داك الدكتور سعد الدين العثماني على رأس الحزب، وهو الذي سيعمل بحنكته المعهودة وهدوئه الطبيعي على تجاوز العاصفة التي كادت أن تودي بالحزب لولا لطف الله ثم حكمة جلالة الملك الذي رفض حل الحزب فيما بلغنا آنذاك. ستنتقل المعركة فيما بعد من التشويش على حزب العدالة والتنمية إلى التشويش على المشهد السياسي برمّته، وسيدخل السيد فؤاد عالي الهمّة صديق الملك على الخط في انتخابات 2007 ليعلن الحرب على الحزب في أول خروج إعلامي له على قناة "دوزيم"،وستظهر ملامح الرغبة في التحكم في المشهد السياسي، ثم التبشير بالنموذج التونسي تحت عنوان التنمية في ظل الاستبداد!! بسرعة سيلتقط مناضلو الحزب تلك الإشارات السلبية من الدولة، لينتخبوا في مؤتمرهم السادس رجل المهمات الصعبة عبد الإله بنكيران، الذي أبان عن حنكة عالية في إدارة شؤون الحزب وتدبير المرحلة، ورد سهام الخصوم، دخل الأمين العام الجديد إلى المشهد السياسي المترهل كالعاصفة، وأخذ يرد الصاع صاعين لحزب الجرار، لكن بعض النافدين أراد أن يلعب لعبة قذرة باعتقال عضو الأمانة العامة للحزب السيد جامع المعتصم بتهم واهية، فلما تأكد الأمين العام من براءة رفيقه في القيادة، نزل بكل ثقله محتجا على هذا السلوك الذي يهدف ل"تونسة" البلاد وإدخالها في المجهول. خرج مناضلو الحزب في تظاهرات أمام العديد من المحاكم احتجاجا على اعتقال القيادي في الحزب،يرفعون شعار "الشعب يريد إسقاط الفساد"،وكانت موجة الربيع العربي قد ضربت تونس واليمن،وفي طريقها إلى مصر وليبيا، ولمّا تصل بعد إلى المغرب، فتدخل الملك بسرعة لإنهاء هذا اللعب بالنار، وتمّ الإفراج عن الأستاذ جامع المعتصم وتعيينه في المجلس الاقتصادي والاجتماعي بقرار ملكي. في 20 فبراير2011 ستعرف المملكة زلزالا ، إذ سيصلها "تسونامي الربيع العربي"، وستعمّ الاحتجاجات ربوع المملكة، لكن قبل الحدث بأسبوع ستصيب حزب العدالة والتنمية هزة ارتدادية لما هو آت، إذ ستنقسم القيادة حول قرار الخروج من عدمه، وستتباين التصريحات الصحفية في الموضوع بين عدد من قيادات الحزب الوازنة، وبعد انعقاد الأمانة العامة سيأتي الدور على بنكيران ليدلي بحججه القوية في ترجيح عدم الخروج، وهو ما أيده التصويت السري بما يشبه إجماع الحاضرين، لكن بعد ذلك سيقدم ثلاثة من أعضاء الأمانة العامة استقالتهم منها، ليدخل الحزب في أزمة جديدة. بعد هذا ستفتح جريدة "هيسبريس"صفحاتها لنقاش علني حول تدبير الأمين العام لهذه الأزمة، وكذا على "الفايسبوك" ، وسيصل الأمر بالبعض إلى المطالبة بإقالة الأمين العام،وستخرج بعض القيادات بصفتها الفردية مع حركة 20 فبراير، لكن مع انعقاد المجلس الوطني وإدارة نقاش حر ومسؤول، تراجع الإخوان الثلاثة عن استقالاتهم، ومن دون شك كان لتدخل الأمين العام، وبعض المساعي الحميدة من إخوة آخرين، الدور الحاسم في تجاوز أزمة كادت تعصف بمستقبل الحزب. اتخذ الحزب على عاتقه مسؤولية ضرب معاقل الفساد دون المجازفة باستقرار البلاد، وذلك بعد سقوط نظامين كانا من أعتى أنظمة المنطقة وأشدها اعتمادا على الجيش والمخابرات لقمع شعوبها. معادلة "الإصلاح في ظل الاستقرار"، جسّدها الأستاذ بنكيران مع حلفائه في مبادرة النضال الديمقراطي، حيث جاب البلاد طولا وعرضا ينظم المهرجانات، ويبلور خطابا جديدا يعكس تطلعات المغاربة في القطع مع الفساد دون تعريض الملكية للخطر، ساعده على ذلك الخطاب الملكي التاريخي ل 9 مارس 2011 ، وتمّ فتح نقاش واسع شارك فيه المغاربة لأول مرّة عبر مؤسسات المجتمع المدني حول وثيقة الدستور، وبرز من جديد الدور الكبير الذي لعبه الأمين العام والأستاذ الرميد في صيانة هوية المغاربة وعلى رأسها إسلامية الدولة التي كادت أن تقوضها بعض القوى التقدمية الحداثية. صوّت المغاربة بكثافة على الدستور، وجاءت القوانين الانتخابية على مقاس سياسة التحكم، وظهر تحالف هجين ضمّ ثمانية أحزاب، عرف ب "G8" لمحاصرة العدالة والتنمية، وقلنا في الأمانة العامة حتما ستدخل البلاد في المجهول إذا تمّ تزوير انتخابات 25 نونبر، لكن تبين أن التعقل كان سيّد الموقف، وكان التصويت المكثف للمغاربة على حزب العدالة والتنمية قد أضعف حظوظ المتاجرين بأصوات الناخبين، وفاز الحزب الإسلامي/البعبع ب 107 مقعد. عيّن جلالة الملك السيد عبد الإله بنكيران رئيسا مكلفا بتشكيل الحكومة الجديدة، وكانت آخر المعارك التي خاضها، قبل تقديم التصريح الحكومي يوم 19 يناير 2012 ،تلك التي تتعلق بالبحث عن الأغلبية الحكومية ومفاوضات الاستوزار ذات الأبعاد الثلاثة : مفاوضات مع أحزاب الأغلبية وفق المقاربة التشاركية، ومفاوضات داخلية مع مناضلي الحزب الذين ارتضوا مسطرة ديمقراطية لاختيار وزرائهم،ومفاوضات مع القصر على ضوء الصلاحيات التي يخوّلها الدستور لكل طرف. هذه الكرونولوجيا للأحداث التاريخية ضرورية لأي باحث اجتماعي أو سياسي، وضرورية أيضا للذاكرة الجماعية حتى لا تضيع الحقيقة في خضم التسارع الكبير الذي تعرفه الأحداث، في عصر اختصرت فيه المسافات وتقلصت فيه حركية الزمان بسبب كثافة الأخبار، وإذا كانت السياسة بنتائجها، فسيسجل التاريخ أن جزءا مهما من أبناء الحركة الإسلامية اعتلوا كراسي الحكم بقيادة بنكيران، وفي تقديري يرجع نجاح هذا القائد الكبير في جل المعارك التي خاضها على جملة أمور تضاف لتلك الأوصاف التي ذكرها السيد عبد الله بَها، وذكّرنا بها في مطلع هذا المقال: أولها : الحنكة السياسية وبعد النظر التي تميز بهما الأستاذ بنكيران. ثانيها : انضباطه لما تفرزه القرارات المنبثقة عن الشورى، فبالرغم من قوته واندفاعه أحيانا واستماتته في الاستدلال على صحة وجهة نظره، فإنه يلتزم بما أفرزته الديمقراطية من قرارات. ثالثا : الرجال الكبار المحيطين به، مثل السيد بَها الملقب عندنا ب "حكيم الزمان"، وهو رجل آتاه الله الحكمة وفصل الخطاب، ( ومن يوت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا )، والدبلوماسي المحنك الدكتور سعد الدين العثماني الذي قاد سفينة الحزب في أحلك الظروف، والمناضل الحقوقي الكبير مصطفى الرميد، والاقتصادي لحسن الداودي وآخرين داخل الأمانة العامة وخارجها. رابعا : صدقه في حب دينه ووطنه وملكه، اتصلت به هاتفيا صباح عيد الأضحى الماضي لأبارك له العيد، فلمّا سلمت عليه وهنأته، سألته : هل ذبحت نسيكتك ؟( وكنت أنا قد فعلت )! فأجابني أنه ينتظر أمير المومنين للقيام بهذه السنّة، فقلت في نفسي لن يلحق أحد بنكيران في حبّ الملك بعد هذه !! الأستاذ بنكيران إسلامي حتى النخاع، لكن لا حظ له في نافلة الصيام والقيام وطول السجود والركوع، وهو لا يخفي قلة زاده في هذا الميدان،وقد فات أوان استدراك هذا النقص بعد هجوم الانشغالات اليومية بالعمل الحكومي، لأن مكابدة العبادة تحتاج لسنوات من المجاهدة، ولو كان الناس يحمل بعضهم على بعض في هذا المجال لفعلت!! لأن فضل الأستاذ علينا كبير، ولأن أول ما يسأل العبد عنه يوم القيامة الصلاة، فإن كانت تامّة نجا وإلا هلك، إلا أن تتداركه رحمة من الله وعفو. *عضو الأمانة العامة لحزب العدالة والتنمية