هذا الحوار الذي أعدته الزميلة نجاة أبو الحبيب ل"الايام" نعيد تقديمه لكم كطبق شهي في رمضاننا الكريم هذا، إنه بورتريه من نوع خاص لرجل بسيط واستثنائي في آن، إنه أشهر صاحب مطعم بجامع الفنا، والذي كان طباخا للحسن الثاني لمدة 29 سنة، ليحكي عن ذكرياته، وحتى إن كانت الأطباق التي كان يعدها في القصر الملكي دسمة جدا فإن الملف خفيف تحريريا، ورمضان كريم. كيف اخترت أن تمارس مهنة طباخ مختص في الشواء بالخصوص، جعلت منك اليوم ومن مطعمك من مشاهير مدينة مراكش؟ امتهاني لهذه المهنة قادم من زمن بعيد، ومن عشق توارثه الأجداد، منذ أن هاجروا من تافيلالت على عهد مولاي علي الشريف، وحملوا معهم حرفة الطبخ الخاص بالشواء، لذلك ظلت منذ ذلك الحين معروفة في مراكش، وانتشرت في جميع نواحيه، مثلما ارتبطت كذلك «الطنجية» بالنزهات المراكشية وبحرفيي الصناعة التقليدية إلى يومنا هذا. متى بدأت الاشتغال فعليا في هذه المهنة؟ حين ورث والدي عن جده كذلك هذه الحرفة، استمر حياته كلها في مزاولتها، بحيث يعود تاريخ هذا المطعم الذي أشتغل فيه الآن إلى ثمانين سنة، وفضلت أن أواصل العمل به بعد وفاة الوالد، خاصة وأن الشواء وجبة لها مكانتها في المناسبات، بل تظل تتربع على عرش المأكولات المغربية خاصة لدى العائلات الكبرى وكبار الشخصيات والأعيان. هل تتذكر بعضاً من هذه الشخصيات التي كان والدك يتعامل معها؟ كنت كثيرا ما أرافق والدي في عمله لمساعدته ليس في مطعمه فقط، ولكن في خرجاته للعمل، منها مثلا مرافقتي له أثناء نزهات الصيد التي كان يقوم بها الكلاوي، بحيث كان معروفا عن هذا الرجل أنه كان يقوم كثيرا برحلات الصيد حين كان يستضيف بعض الأجانب. كما سبق لي أن رافقت والدي أيضا حين كان يهيء الشواء في بعض المناسبات التي كان يحل فيها المغفور له محمد الخامس بمراكش. هل استمرت علاقتك كذلك ببعض الأسماء الوازنة التي تعامل معها والدك؟ دخلت هذه الحرفة في سن مبكر نوعا ما كممارس، وليس كمطلع مادمت قد فتحت عيني على هذه الحرفة في بيت الأسرة بشكل يومي، كما أن استمراري في مطعم كانت له شهرته مع والدي، جعلني أواصل علاقات قديمة مع مختلف الشرائح الاجتماعية من داخل المغرب وخارجه، وأنسج علاقات جديدة مع طبقات أخرى ممن تذوقوا طعم وجباتي. وإجمالا من الطبيعي في حرفة مطلوبة كهذه أن تتعرف على أناس كثيرين، وشخصيات سياسية وثقافية وفنية، وأناس عاديين كذلك ظلت تربطني بهم صداقة كبيرة. وهل صدى ذلك هو ما جعل الملك الراحل الحسن الثاني يتعامل مع طبخك؟ أعتقد أن الجودة تفرض ذاتها دائما، وأظن أن الملك الراحل الحسن الثاني كان يستحسن الأصداء التي كانت تصله عن طريقة تحضيري للشواء، وبالتالي كان يطلبني لتحضير كل الأنواع المرتبطة بالشواء في جميع المناسبات الوطنية تقريبا، وكذلك خلال الزيارات الرسمية لبعض الرؤساء، وأيضا خلال المؤتمرات الكثيرة التي كانت تنظم في عهد الحسن الثاني. كم استمر تعامل الحسن الثاني معك كطباخ في تخصص الشواء؟ منذ السبعينيات وإلى حين وفاته رحمه الله. لقد كان رجلا عظيما، يقدر الحرف القديمة ويتذوق الإبداع بشكل عميق. كان رجلا متواضعا ويحب تشجيع الجودة، والتحفيز لعطاء أحسن. هل كان الملك الراحل يبدي بعض الملاحظات في ما تعده من طبخ؟ لقد كان يبدي رأيه، يهتم بما يقدم، فكما قلت كان الحسن الثاني رجل له اطلاع واسع في مجالات كثيرة بشهادة الجميع. ما هي الوصفات الغذائية التي كنت تقدمها؟ هناك أنواع من الشواء كنا نقدمها، فهناك مثلا شواء السفود، وشواء الفران، والرؤوس المبخرة وغيرها. وصل صدى مطبخك إلى العالم، هل كان ذلك بفعل الأسفار التي قمت بها في إطار زيارات قام بها الملك الراحل إلى الخارج؟ سبق أن سافرت في إطار مهنتي كطباخ في إطار بعض المناسبات إلى الخارج خلال سفر الحسن الثاني، وأيضا لوحدي لعدة مرات، وكنت خلالها أحاول التعرف عن قرب على طبخ الدول الأخرى، التي تظل أحيانا مرتبطة بالمطبخ المغربي من خلال وجود طباخين مغاربة في مطاعم عالمية. وأتذكر أني في إحدى المرات خلال زيارتي لباريس، دعاني صديق لي لبناني إلى مطعم لبناني يملكه أحد أصحابه، وكان يقدم لنا وجبات كان الرجل يفتخر بجودتها أيما افتخار، لمست فيها بصمة مغربية نوعا ما، فإذا برجل يطل علينا من ركن بالمطعم، حين فهم أنني مغربي، عرفت بعد ذلك أنه رئيس الطباخين بهذا المطعم، وكانت مفاجأتي كبيرة حين عرفت أيضا أنه مغربي، الشيء الذي لم يكن صاحب المطعم يريد أن أعرفه. يلاحظ أن بعض الأجانب أصبحوا يقبلون في مطعمك على أكل بعض الوجبات التي تعتبر في ثقافتهم غريبة ك «لحم الراس» مثلا، كيف بدأ يحصل ذلك؟ الطبخ المغربي غني، وفرنسا بالخصوص استفادت منه كثيرا، بل إن بعض صناعاتها الغذائية تضم في الأصل بطريقة غير مباشرة بعض العناصر التي نستعملها في طبخنا المغربي التقليدي ك «الدوارة» ولحم الرأس والمصارين. فهناك مثلا بعض أنواع «الصوصيص» التي يتناولها الأجانب علما أن أساسها هو بعض عناصر الطبخ المغربي. وأظن أن إقبال الأجانب على تناول هذا النوع من الوجبات هو تعود فقط بعد تجربة اكتشاف أولى جعلتهم يستحسنون مذاق ولذة هذه الوجبات التي عادة ما ترتبط بتناول الشاي الذي دخل هو الآخر في ثقافة الزائر الأجنبي للمغرب. لك علاقات كثيرة بمثقفين من زوار مطعمك، هل يجعلك ذلك تندم على عدم استكمال دراستك؟ كانت دراستي موفقة، لكن الإضرابات التي نتجت عنها سنة بيضاء في سنة 1970، جعلتني أغادر الدراسة، ولم يكن آنذاك يفصلني عن مستوى الباكالوريا سوى سنة واحدة، حيث كنت أتابع تخصص التجارة في ثانوية الحسن الثاني. ومنذ ذلك الحين قررت أن ألتحق بعمل والدي الحاج عمر بشكل رسمي ولم أغادره إلى يومنا هذا، وطبعا حاولت أن أحافظ على السمعة الطيبة التي كان يتمتع بها مطبخ الوالد الذي تفانى بعشق كبير في تطويره دون أن يفقده طابعها التقليدي الصرف. أربعون سنة في خدمة الطبخ وخدمة متذوقيه من المغاربة والأجانب، لم تؤثر نوعا ما في علاقتك بمطبخ زوجتك؟ زوجتي تنتمي إلى عائلة مراكشية عريقة، وطبعا كانت العائلات العريقة تعمل على تعليم بناتها كل ما يمكنه مساعدتها على تدبير شؤون البيت، وخاصة الطبخ، فهي طباخة ماهرة، لكنها دائما تحاول أن تقدم الأحسن، تفاديا لأي ملاحظة من زوج تعرف أنه منافس حقيقي لها في خبايا الطبخ. لكنها لا تنكر أنني لقنتها بعضا من أسرار المطبخ التقليدي. هل نقلت عدوى هذه المهنة إلى أبنائك كما حدث معك حين ورثتها عن والدك الحاج عمر؟ لم أجبرهم على أن يمارسوا هذه الحرفة، لكنهم كما هو الشأن بالنسبة لي فتحوا أعينهم عليها، وربما هذا ما جعل ابني بعد حصوله على الباكالوريا يفضل أن يشتغل معي في هذا المطعم بجامع الفنا وكذلك ابن آخر يدير مطعما آخر في جليز، فيما يهيء ابني الثالث لشهادة الإجازة، أما ابنتاي الإثنتان فهما متزوجتان، وطبعا لا يمكنهما إلا أن تجيدا الطبخ كذلك. أظن أن هذه الحرفة مثل الأم، لا يمكن للمرء أن يفرط فيها. والذي يستطيع أن يفرط في حرفته بسهولة، فهذا يدل على أنه ليس ابن الحرفة وإنما هو متطفل عليها لا غير.