بعيدا عن أحضانك سنستقبل شهر الصيام يا وطني وكأننا في خصام مع الذات التواقة لشوارعك المزدحمة ورائحة الحريرة تختلط بعبق التوابل والجير الذي يبيض أسوار أزقة مدنك العتيقة. بعيدا عن شمسك الحارقة والعصر زمن يتمطط دونما نهاية , بعيدا عن صراخ الباعة وزحام الحافلات وصراخ الباعة المتجولين سنعيش الشهر بين ظهران أقوام ترى في جوعنا عقوبة ونراه عبادة وشتان بين الرؤيتين. بعيدا عن أرضنا سيلتقط بعضنا قنواتك يا وطني بحثا عن حديث ديني يغذي الروح ويرتقي بها فوق تلونات السياسة .. سنبحث في شاشات تلفزيوناتك عن مغرب رمضاني بغريري تتفاوت فوق خريطته أحجام الثقوب. سنبحث عن نشرة إخبارية رمضانية يقل فيها الكذب والنفاق والتضخيم والتفخيم والتبجيل .. سنبحث في شاشات تلفازك عن مغرب تركناه ذات زمن يغرق في جوع وطني, مغرب لا يكاد يستوي فيه المواطن بالمواطن والبيت بالكوخ والقصر بالسرداب.. ستفتش أعيننا عن مغرب رمضاني يلبس جلباب الرحمة والمحبة والغفران والتواب. ويتصالح مع الفقير والأرملة واليتيم . وسنتصفح خريطة البرامج بحثا عن ليل يخلو فيها تلفازنا من وجوه أشباه فنانين لا يتقنون سوى الرداءة و " الحموضة " وثقل الدم .. سنتفتح التلفاز المغربي وكلنا أمل ألا ينبري أمام أعيننا مطربون يقتاتون بالغناء للمدن والقرى والزوايا والأضرحة ويحشون جيوبهم من هبات البلديات واموال المحرومين. اليوم فقط وقد لاحت بشائر شهر الرحمة لن يخبرنا المذيع بقصة ذلك الطفل الذي انفرد به معلمه في الفصل واغتصب طفولته. ولن يصفعنا تلفاز مدام ومسيو ببرامج ومسابقات غنائية تسخر وتهزأ من أبناء وبنات وطني كما فعل أحدهم ذات يوم. وأخيرا سنسمع تفسيرا للقرآن ومواعظ دينية لا تحابي ولا تنافق .. وسنرى أعمالا درامية تحترم خصوصيتنا. فليتك لا ترحل يا حبيبي يا رمضان حتى نتمكن من المصالحة مع تاريخنا .. أولست الشهر الذي يكرهك مدام ومسيو فيشدون رحالهم نحو شواطئ الأزوردي و توري مورينوس ويتركون الوطن لمن يصوم. بعيدا عنك يا وطني سنرى الهلال ولن تعقبه زغرودة الجارة فجارتي إسمها كيري وجاري الجنب يدعى أنطونيو الذي تجرأ يوما وطلب مني جلبابي الأبيض ليحضر حفلة تنكرية بمناسبة عيد الهالوين. كما الأيتام ستحل علينا يا شهر طفولتنا الغابرة ونحن نتحرق بعيدا عن وطن يحمل في بطن أرضه أما رحلت وأبا غيبته المنية وما تبقى من عشيرتنا إلتهمهم الفايسبوك واليوتوب وأدوات التفاهم البكمية. سنفرش لك يا سيدي يا رمضان البيت وطنا والمسجد حضنا وهواتفنا ستُلحقنا بمغرب تركناه بحثا عن " التيقار " فإذا به يلاحقنا رغم أنفنا ويستوطن الأحشاء بين الضلوع .. سنجتهد في الدعاء لك يا وطني وندعو الله أن يفجر بينك وبين الحاقدين عليك محيطات وبحارا وانهرا تقيك عين الحسود. اللهم كثر حسادنا آمين. الحمد لله على نعمك يا شهر الخير والبركات فخلال أيامك ولياليك لن يشاهد أطفالنا بطونا تتعرى في مجلس النواب . ولن نرى مباريات السب والشتم والصياح .. لأنك يا شهر الخير ستُسكت من سيحضر منهم وما أظنني أنهم سيأتون بدون وسادات وبطانيات. في غربتنا البعيدة ستقودنا الذاكرة غوصا في أعماق ذلك العصر الذي ولى ولن يعود يوم كنا نتحلق حول مائدة الإفطار في وطننا, قبل أن نركب البحر هربا منه لأنه لم يعد لنا .. وباتت خيراته للمحظوظين وأنظف مدارسه لأبناء المحظوظين وأجمل سياراته لبنات وزوجات المحظوظين .. وأعلى وظائف إداراته لآباء المخرجين وأنصاف المثقفين من المحظوظين .. فركبنا البحر ظنا منا أن طعم الوطن ورمضان واحد داخله أو خارجه . ولم يك الأمر سيان. ستعود يا شهر الصيام ونحن كما تركتنا قبل سنة نسابق الزمن بحثا عن الفرصة التي ضاعت في وطن يزداد تقطعا وتشرذما , في مغرب بات الحديث فيه باللغة العربية موضى قديمة والدخول إلى مدارسه العمومية مغامرة خطيرة والنوم على أسرة مستشفياته مرحلة تحضيرية للتعرف على الموت .. ستعود يا شهر الطاعة ونحن كما تركتنا بعيدا عن رباك ومروجك الجميلة نقاوم جبال الثلج وصقيع الأيام الرمادية لكننا ندعي نفاقا السعادة والهناء. ستجدنا يا شهر التواب في غربتنا كما نحن نتسابق لإلتقاط الصور مع هذا الوزير أو ذاك عندما يحل علينا زائرا أو مستكشفا أو منقبا. وستعود يا رمضان الإغتراب وأبناء المغرب في المهجر ممزقون بين مسلمين وكفار يكيدون لبعضهم المكائد وينهشون لحم بعضهم بالنميمة ويستمعون لخطبة الجمعة وهم يتصفحون الفايسبوك في هواتفهم النقالة. نصفهم يا رمضان يبكي بداخله والنصف الآخر مشغول بعذاب فواتير الحياة في بلاد العدل والمساواة . لكننا سنستقبلك يا رمضان الخير ونحن على يقين أن تلفزتك لن تصوم ونواب برلمانك سيعرون بطونهم وأبناءك خارج الوطن لن يوحدهم الانتماء. فمرحبا بك يا شهر الغفران.