من خلال مشاهدتك للقنوات الفضائية المغربية ينتابك إحساس جليل بمدى انحطاط العولمة و تدنيها. يصيبك دوار وحالة من الهلع والفزع يطير لها قلبك لينتهي بك كل هذا، في نهاية المطاف، إلى سب العولمة ولعن أيامها هذه. تستسلم للإحباط وتدخل مرحلة انهيار عصبي وتعود بآلة التحكم إلى قنوات أخرى، غير مغربية، اِعتدتَ مشاهدتَها بين حين وآخر. وخلافاً لإحساسك السابق، تنعم مع هذه القنوات بشعور جميل ونبيل تحس فيه ومعه بإنسانيتك وتحقِّق فيه ''مقالة الطريقة'' وتُمَجِّد ديكارت. شعور تكتشف فيه أو تعيد اكتشاف العالم بوعي وبفخر. حين وصولك هذا الحد يجب عليك الحذر! فهنا الفارق الفيصل بين حالة شخص عاد وبين شخص مُنفصِم الشخصية.« Le schizophrène » إن ظهر عليك عرض شبيه بهذا، فعليك التوقف عن مشاهدة القنوات التي تحيلك على أحاسيس (أو تحيل الأحاسيس عليك) بحيث لا ترى في البرامج المغربية، شكلا ومضمونا، سوى مبعثٍ للألم أو مصدرٍ للقلق النفسي. هذه زاوية أخرى من زوايا الاضطراب النفسي قد تجعلك تضع البيض كله في سلة واحدة وتفقد القدرة على التمييز بين الخبيث والطيب. هذه الزاوية هي زاوية البارانويا .« La paranoïa » ترى الشر والخَبَث في كل مكان، حتى في قنواتك الجميلة غير المغربية. هنا تطرح الأسئلة الوجودية الكبرى ومن بينها سؤال العولمة. هل هذه هي العولمة أم هذا هو مدى إدراكنا لها وتفاعلنا معها ؟ لتجيب عن هذا السؤال، يخالجك سؤال آخر: كيف كان لي أن أحس أحاسيس جميلة، وأنا أشاهد تلفاز الآخرين، لولا العولمة ؟ ألم تُيَسِّر العولمة سبيل التواصل اللا مباشر عبر تناسل القنوات الفضائية وتكاثرها، جميلها وقبحيها، طيبها وخبيثها ؟ بلى! فلولا هذه الإمكانية لما سنح لنا التعرف على الآخر ولمَا أمكننا المقارنة والاختيار، ولظلَلْنا بقناة أو نصف قناة لا تسمن ولا تغني من جوع، ولبقينا نحلم من الداخل بعيداً عن واقع العالم. هذه هي أخطر مراحل المرض وأكثرها أثراً وأعمقها وقعاً. فينزوي المريض إلى دواخله ويطلق العنان لخيال جامح لا يؤَطِّره واقع ولا تردعه أخلاق ولا يستجيب لعادات ولا يعترف بتاريخ ولا ينسجم مع منطق ولا يعتد بآخر. إنك إنسان متشعث إذن. تعيش واقعاً وتطمح لواقع آخر. يتملكك حينها يقين خالص بأنك مذنب، لا تعرف ذنبك. عقدة الذنب هذه من أخطر العقد التي يصعب تحديدها أو تعريفها ؛ إنها إحساس معقد يتداخل فيه الماضي بالحاضر ويؤثِّر حتماً على المستقبل. إحساسك بعقدة الذنب لا يعني أنك مسؤول عنه بالضرورة كفرد. بل لفهم الفرد لا بد من بحث المجتمع، عاداته وتقاليده، ماضيه وحاضره. إن عقلنا الفردي لا ينمو ولا يتطور بعيداً عن عقلنا الجمعي الذي نسميه إرثاً أو تراثاً أو قل بتعبير أنثروبولوجي معاصر : ثقافة. فالثقافة السائدة والغالبة هي ثقافة الصورة ؛ ورغم التقدم الهائل الذي نرصده على مستوى وسائط الاتصال، يظل التلفزيون المُصَدِّر الأساسي للصورة ومن خلالها لثقافة معينة. حري بك أيها المشاهد التخلص من عقدة الذنب بالبحث عن جذورها المعرفية في الثقافة الجمعية. فهذه العقدة لا تكون فعالة إلاَّ في حال اشتراك الجميع فيها، وهذا تناقض غريب لا يفسره إلاَّ سلوك الحشد، بمعنى أن هناك سلوكات لا يستطيع الفرد القيام بِها في عزلة عن الآخرين، لكنه يحققها داخل جماعة معينة كمشجعي كرة القدم أو حليقي الرؤوس مثلاً. بهذا المعنى، يصبح التلفاز فضاءً افتراضياً يفرز سلوك الحشد ولو بشكل سلبي (passif)لأنك تعلم أن آلافاً أو مئات الآلاف من الأفراد الآخرين يقاسمونك في اللحظة ذاتها نشوة بليدة لمباراة في كرة القدم أو بؤس حلقة من مسلسل مكسيكي أو تركي وضيع. هذا إذا كنت ممن اختاروا مشاهدة القناة الثانية مثلاً أو الثالثة باعتبارها قناة الرياضة، تخصص كرة قدم. أما إذا اخترت واحدة من القنوات غير المغربية و التي تُعنى بشؤون المعرفة أو الأخبار أو الثقافة بمختلف فروعها من سينما وموسيقى.. الخ، فإنك تقاسم أفراداً آخرين، على قلتهم، سعادة العقل وفرحة العمل به. المشرفون على الجهاز البَصَري المغربي يقومون، عن وعي أو عن غير وعي، بأداء مهامهم على النحو الأكمل، بحيث تسعى برامجهم كلها دون استثناء لتكريس العُقَد بل ولجعلها طبقات ودرجات يعلو بعضها فوق بعض حتى يتحقق كمال الذنب La Culpabilité والانفصام La SchizophrénieوالبارانوياLa Paranoïa والثنائية القطبية La Bipolarité. كيف لمواطن ملئ بعقد وعاهات كهذه أن يطالَب بالإسهام في أي تنمية كانت وبالمشاركة إيجاباً في مسار التنمية البشرية أولاً ثم في مسار الديمقراطية ثانياً ؟ ما الذي ننتظره منه وهل لنا حقُّ محاسبته أصلا، إذ لا حرج على المريض، فكيف يكون الأمر بغير السوي ؟ أنَّى يتأتى له التجاوب الفعال والخلاق في ظل العولمة حيث يتصارع الجبابرة ويتداولون طواحين لا تبقي ولا تذر؟ إن العولمة، بعيداً عن أي قول بحتميتها التاريخية، واقع أفرزته معطيات يتقاطع فيها السياسي بالاقتصادي والأنثروبولوجي بالاجتماعي. إنها فضاء يتفاعل فيه التاريخ مع الجغرافيا ويجعل من المورد الإنساني والبحث العلمي والتفوق التكنولوجي ركائزَ لتحصيل المستقبل واحتكاره. تلفزتنا، في خضم هذه الوقائع المصيرية، لم تر في العولمة سوى جوانبها السلبية : استهلاك، بريق، زيف، تسطيح، تبليد (ليس من البلْدي ولكن من البلادة) وتقليد يبعث على الاشمئزاز والتقزز. كل مفهوم سمعي بصري فُهِمَ على غير ما أنزل به. خذ مثلا الانفتاح على تجارب الآخر والامتياح منها، فُهِمَ عندنا بمفهوم الاستنساخ. والقناة الثانية، رعاها الله، لها نصيب وافر في استنساخ برامج القنوات الأجنبية -وبالخصوص القنوات الفرنسية- سواء العمومية منها أو الخاصة (دار وديكور، الوسيط، الخيط الأبيض، جزيرة الكنز...) ولا يقتصر هذا الاستنساخ على البرامج الناطقة بالعربية بل يتعداها إلى مثيلاتها المعدة بالفرنسية كبرنامج coulisses Dans lesGrand Angleأو الذي يُعدّ نسخة لبرنامج Envoyé Spécial على القناة الثانية الفرنسية، بل لشدة التأثر والولاء، اختار القيمون على البرنامجِ النسخةِ الأمانةَ في التقليد وتركَ معالم تكشف الانتحال وذلك ببث البرنامج مساء الخميس، كما في الأصل، كما لو كانت رمزية الزمن عند الشعبين المغربي والفرنسي واحدة وإيقاع عيشهما متطابقا. ومن نافلة القول الإشارة إلى أن هذا الاستنساخ يتجاوز مضمون البرامج وتوقيتها إلى شكلها وديكورها وطريقة تقديمها. وخير مثال على ذلك نشرة أخبار الظهيرة1 التي ترمز بحق إلى ذلك الفشل العميق الذي يشُلُّ حركة الإبداع ويُقزِّم الخيال. هذه النشرة هي صورة طبق الأصل لنشرة الظهيرة على القناة الفرنسية الثانية الحكومية. فخروج مقدم النشرة، واقفاً، وتقديمه للعناوين هو نفسه ؛ ثم جلوسه و البدء في التفصيل هو نفسه، بل إن الخلفية هي ذاتها في نشرة 13h00 على قناة France 2، ولولا الخريطتان المختلفتان للبلدين لما أمكن التمييز بينهما ؛ إذ تفتقت قريحة تقنيي الثانية المغربية ومسؤوليها ولم تستطع استساغة لون آخر غير أحمر الثانية الفرنسية وهو لون متدرج عن الأحمر المغربي المألوف لدى عموم المغاربة والغائص في وعيهم ووجدانهم. إن غياب الابتكار ومحو ملكة الإبداع والاحتفاء بتقليد الآخر، خوفاً أو طمعاً أو قلة حيلة، هو أحد الأخطاء المميتة في فهم العولمة. إن الإبداع والخيال والابتكار مفاهيم ارتبطت بالشباب واعتمدت في وجودها داخل كل مجتمع بمدى الفسحة التي سُمِح لهم بها والوجهة التي تم توجيههم شطرها. في هذا السياق، تحتل برامج الشباب في القطب الإعلامي المغربي، وبالخصوص في القناة الثانية، موقعا رائدا ليس بالقياس إلى جودتها وتنوع اهتماماتها ونبل مضامينها وصواب أهدافها، بل بالقياس إلى الوقت والجهد اللذين يهدران في صياغة المواضيع وتسجيلها وتوضيبها، علاوة على المال الذي يصرف عليها من جيوب المواطنين صرفاً دون أن تضيف قيمة جديدة، اللهم "قيم" التنميط والإغراء باتّباع الاتجاه الوحيد وفقدان القدرة على النقد و المناظرة والسجال والخطابة وهي سمات مرحلة الشباب بامتياز. إن البشرى التي تزفها لك برامج من قبيل "أجيال" و KorsaوStudio 2M هي أن الشباب كلهم في المغرب يرقصون على إيقاعات ال (Hip Hop) ويستمعون لموسيقى Rap، وأنهم كلهم يحلمون بأن يصبحوا نجوما وأن همهم الأكبر وشغلهم الشاغل هو التنقل والترحال بحثا عن المهرجانات الغنائية أو السينمائية وأنهم سائرون في طريق الحداثة عبر منهج "التحشش" و"التقرقب" والوشم الوضيع وشق السراويل، حتى أصبح وعي الفرد منهم وحداثته يقاسان بعدد الثقوب وبعرض الفتحات في ثيابه وبطولها. إن محاولة التنميط وقتلِ التنوع بين صفوف الشباب عبر خلق مجموعات لا تتقاسم القضايا الكبرى للوطن، وللفكر عموماً، من شأنه أن يخلق بنية صراعية أساسها وديدنها أن ما يفرق أكثر مما يجمع. فبدل أن يجتمع شباب المغرب بمختلف توجهاته وقيمه على ما يعنيه ويلم شمله في تدافع وتناغم، تفضِّل هذه البرامج التركيز على الفصل عوض الوصل وعلى التمييز محل التعزيز. إن التنوع موجود بين شباب المغرب بل إنه ضروري وملازم للتطور والغنى والتكامل الذي تنشده البلاد ويتوق إليه العباد، غير أن التلفزة لا تعكسه وهذا مظهر آخر من مظاهر الفهم الخاطئ للحداثة عموماً والعولمة على وجه التخصيص، وهو مكمل للأول، إذ لا ابتكار ولا إبداع ولا تقدم في ظل الإقصاء والتغييب والتهميش، بل في ظل عدم الاعتراف في أحايين كثيرة. هذا المعطى المبدئي يحيل على أن العولمة، باعتبارها كُلاً، « Ensemble » هي انتصار أطروحة إيديولوجية يستتبع مواقف سياسية وخططاً اقتصادية وسلوكات اجتماعية خاصة. العالم يسيرُ والقناعة قد تواكب سيره وتتأقلم معه إن أرادت المطاوعة واختصار الطريق، وقد تختار الممانعة ومبدأ إثبات الذات. كان هذا حالَ العالم أيام الحرب الباردة وقبلها وسيظل إلى ما بعد عصر الليبرالية الّلا مشروطة وإلى حين ظهور إيديولوجيا جديدة تقتضي التعامل معها حسب ظروفها وشروطها. لكن ما يجب التشديد عليه أثناء التعامل مع أي فكر أو بنية كانت هو الآليات والمناهج بحيث لا يمكن لأي مشروع وطني أن ينجح إلا إذا كان الإعداد والتهيئة شاملين لمختلِف مناحي الحياة بدءاً بالمدرسة وانتهاءً بالشارع مروراً بالبيت الذي يُؤوي تلفزتنا. فهذه كلها عناصر يجب أن تشتغل كالفرقة الموسيقية بإيقاع معلوم وبأنغام صحيحة ؛ كل عازف يعرف حق المعرفة قطعته المستقلة عن العازف الآخر، لكن مجموع عزفهم جميعاً يتلاقى ويتناغم تحت إشارات قائد الفرقة وتوجيهاته، محققين بذلك أمل المؤلِّف الأول. في النهاية، قد يصفق الجمهور بحرارة ويضرب موعداً للقاء الفرقة من جديد، إن هي أبدعت وأتقنت ما أبدعت، وقد تفقد الجمهور والمصداقية وتذهب ريحها فلا يقيم لها الجمهور وزنا وتحل محلها أخرى أجود منها عزفا وأكثر إقناعاً، لأن العولمة لا تقبل الفراغ. فضل العولمة أن خشبة المسرح مفتوحة على العالم كله؛ الجميع ينصت إلى ما تعزف ويشاهد كيف تتجاوب مع قائد فرقتك الآن وهنا. قد يكون ذلك فعلاً فضلاً ونعمة وقد يكون شؤما ونقمة. إن إلغاء العولمة لبعدي الزمان والمكان (أو على الأقل جعلهما نسبيين جداً) يرمي بالثقل كله على الشخوص من أجل مواصلة كتابة رواية العالم. هذا أهم درس تعلمه العولمة : الزمان واحد (الآن) والمكان واحد (هنا) لكن الشخوص مختلفين. فاختر لنفسك أي دور يليق بها ؛ دور المبدع البطل أم دور المقلد الكومبارس لأن الأرض كلها هنا والتاريخَ كلَّه الآن، فاكْتُبْ. - أستاذ باحث - جامعة ابن زهر. 1 يمكن قول الشيء نفسه عن النشرة المسائية التي تتطابق في أدق التفاصيل والنشرة الليلية على القناة الفرنسية الثالثة حيث يتم تقديم العنلوين من خلال غرفة عمل فريق الأخبار ليُشرع في تفصيلها بعد فاصل، دون إغفال اللون الأزرق!