إن أية لغة في العالم هي وسيلة للتخاطب والتواصل والتعبير. وهي بذلك لا تتجاوز أن تكون سوى رموزا متفقا عليها تتفاوت في رسوماتها وهيكلتها بحسب ثقافات شعوبها، تحكمها سلسلة من القواعد لضبط الموازين والإيقاعات من حيث نطقها ونحوها وبنيانها الجمالي.هذا هو حال جميع اللغات الحية والمنقرضة والعائدة للظهور، كما هو حال اللغة العربية. وإذ الأمر كذلك، فإننا بتتبعنا للجدال الدائر في موضوع اللغة العربية نلاحظ أن هذا النقاش يتسم بنوع من التشنج والتعصب لاعتبارات وحسابات سياسية وإثنية وفئوية تجرجر الجميع إلى متاهات نقاش عقيم خارج عن السياق المطلوب، حيث تجرى محاكمة للغة العربية بين من يزكي براءتها ويدافع عنها كلغة مقدسة، وبين من يضعها في قفص الاتهام واعتبارها لغة متجاوزة إن لم تكن متخلفة. ونسي الجميع أنها حروف من رموز تعبر فقط عن لسان أهلها لا أقل ولا أكثر. وإذا كان النقاش الدائر خارج السياق، فالحقيقي منه أين كان ينبغي عليه أن يصب؟ الجواب عن ذلك يكمن في أهل اللغة العربية من مستخدميها ومن أبناء جلدتها. فلا ينتظر من اللغة العربية أن تفرخ لكم من تلقاء ذاتها بيضا من ذهب، فهي تشتكي من العقم لأن ذويها من العرب بهم عقم، وقد تكون ولادة لما يصبح العقل العربي خصبا ووقادا يلد فكرا وعلما يشد به أزر اللغة العربية ويخرجها من لغة مهمشة ليرقى بها إلى مصاف اللغات الحية. تركيبة العقل العربي وأثرها السلبي على اللغة: في واقع الأمر نرى أن اللغة العربية لا ذنب لها سوى أنها ابتليت بعرب أخذ منهم التخلف مأخذا كبيرا، ولم يكن من حظها أن تعاشر قوما آخر، ولو تأتى لها ذلك لكان وضعها غير ما هو عليه اليوم من انحطاط. وحتى لا نظلم هذه اللغة، فهي في الأصل وعاء ترد لك فقط بضاعتك في القالب الذي أنت اخترته بنفسك لها. إن أحسنت إليها أحسنت إليك، وإن أسأت استعمالها أسأت لها ولنفسك. وهو حال جميع اللغات، وليس اللغة العربية وحدها. فالمطلوب من اللغة العربية ليس أكثر مما يقدمه لها العقل العربي. لكن ما هو هذا العقل العربي وما هي تركيبته وعلى ماذا ينطوي؟وإذا حكمنا عليه بأنه متخلف، وهو كذلك، فماهي مظاهر هذا التخلف؟ عديدة هي، وعددها يتجاوز أحرف اللغة العربية، ذلك ما توحي به لك التركيبة الممسوخة لهذا العقل. عقلية قائمة على الأنانية وحب الذات، وعلى الدسائس والمقالب. عقلية تسيطر عليها الخرافة وتومن بالغيبيات، وقدرية إلى أبعد الحدود مما يجعلها اتكالية وتستكين للخمول. عقلية تحب المال وتصرفه في الجنس كما تغدقه على من ينسج شعرا عن المرأة. عقلية تحب المجون وتصرف من أجله الغالي والرخيص وتأبى أن تصرفه في حقول العلم والمعرفة. عقلية ترى في المرأة بضاعة ووسيلة للمتعة دورها أن تكون في خدمة سيدها الرجل وأن يقضي فيها مآربه. عقلية مستبدة ومتسلطة ترفع سيفها في وجه حرية التفكير ولا تومن بالاختلاف وبالتالي تحول دون بلورة فكر خلاق مبدع. الشخصية العربية بصفة عامة شخصية تجمع بين الشيء ونقيضه. ولعل المقام يتسع لأستحضر ما تنطوي عليه سريرة الشخصية العربية، على غرار ما سبقني إليه الأستاذ القدير محمد شفيق، وذلك من خلال ما كتبه الحاكم الأموي هشام بن عبد الملك إلى عامله على إفريقية آنذاك : "أما بعد، فإنّ أمير المؤمنين لما رأى ما كان يبعث به موسى بن نصير إلى الملك بن مروان رحمه الله تعالى، أراد مثله منك، وعندك من الجواري البربريات المالئات للأعين الآخذات للقلوب ما هو معوز لنا بالشام وما والاه. فتلطف في الانتقاء، وتوخ أنيق الجمال، وعظم الأكفال، وسعة الصدور، ولين الأجساد، ورقة الأنامل، وسبوطة العصب، وجدالة الأسؤق، وجثول الفروع، ونجالة الأعين، وسهولة الخدود، وصغر الأفواه، وحسن الثغور، وشطاط الأجسام، واعتدال القوام، ورخامة الكلام". كم هي بليغة وغنية هذه اللغة، فعوض أن يجعل منها أهلها ناقلة للعلم والمعرفة جعلوا منها حمالة في جيدها للرذيلة. نفس الطبعة العربية الفاسدة السافلة تستنسخ عباسية كانت أو أموية أو فاطمية. ولولا جشعهم ومجونهم "لرفعت راية الإسلام إلى أبعد من بلاد الغال". وما أشبه الحاضر بالأمس من هالكي النسل والنفس. ثم أن هذه الأزمة ليست منحصرة عند حدود القائمين على السلطة، بل متجذرة حتى لدى أولئك المفترض فيهم من المفكرين أن يكونوا ركنا حصينا للثقافة وللغة العربية، فإذا بهم يعيشون هم الآخرون حالة من االتخبط وعدم الاستقرار الفكري. فعلى الصعيد المعرفي، ما زال المثقف العربي، وكما أكد على ذلك بحق د. محمد عابد الجابري، "يستهلك معارف قديمة على أنها جديدة...تلك كانت حالة الأمس وهي حالة اليوم"، وعلى الصعيد الأيديولوجي "المثقف العربي منذ العصر الأموي كان وما زال يعيش في وعي صراع الماضي متداخلا مع أنواع الصراعات الأخرى التي يشهدها حاضره. وتداخل الأزمنة الثقافية في فكر المثقف العربي هو ما يفسر ظاهرة مزعجة في الفكر العربي المعاصر، ظاهرة المثقفين الرحل...من المعقول إلى اللامعقول". التبرير الواهي في الدفاع عن العربية وإساءة ذوي القربى لها: لا ينبغي أن نحمل اللغة العربية خطيئة أهلها، بل الأدهى والأمر في ذلك نجد المدافعين عن اللغة العربية من العروبيين قد يتنكرون لهذا الواقع ولن يرضوا بهذا التشريح باعتباره في نظرهم تحاملا على العرب وعلى العروبة. ويستأنسون في الدفاع عن اللغة بحجج جاهزة من قبيل أن اللغة العربية هي لغة القرآن حتى يكمموا الأفواه. ونحن لا نقول بعكس ذلك و لا ندعي أن القرآن نزل بالصينية، بل إنه لقرآن عربي وبلغة فصيحة لا يعرف لها الباطل سبيلا. فدفاعهم عن اللغة العربية بالقرآن يكشف عن العجز الذي يتخبط فيه العقل العربي إذ ليس له ما يقدمه من علم ومعرفة كي تفخر وتعتز به هذه اللغة . كما يحاولون التستر عن ضعفهم ووهنهم، وهم لا يملكون من واقعهم ما يمكن أن يدافعوا به عن اللغة العربية التي أهانوها ونزلوا بها إلى الحضيض. مسكينة هي حنطوها في المعلقات، وورطوها كلغة للسب والشتم منذ جرير والفرزدق وإلى يومنا هذا، وجعلوا منها أداة رخيصة لفواحشهم من خلال أشعار تختزل في وصف العورات من النساء والغلمان. ورغم ذلك، فإننا لا ننكر وجود أدباء فطاحل، عبر العصور، ساهموا في الرفع من شأن اللغة العربية أمثال زهير بن أبي سلمى، والجاحظ، والمتنبي، والمعتمد بن عباد، ومحمود سامي البارودي، وأحمد شوقي ، ولطفي السيد، وطه حسين وغيرهم مع حفظ الألقاب. لكن ذلك يبقى جزءا من الماضي و لا ينبغي التمسك به لتبرير الحاضر الذي فشل في الحفاظ على الموروث وعلى قوة الدفع . وكذلك يفعل البعض حاليا حينما يتباهى في الدفاع عن اللغة العربية بمخلفات زمن تفتق فيه العقل العربي، وتعطل فيما بعد، عن علوم ورياضيات بفضل علماء لا يمكن إنكار إسهاماتهم في عوالم المعرفة أمثال جابر بن حيان وابن رشد وغيرهما. لكن ما هو غير مقبول أن يقف عرب اليوم ليتباهوا ويتغنوا بماض مجيد كان وسيطا في نقل المعرفة بين الإغريق والحضارة الغربية التي عرفت كيف تستخدم الإرث وتطوره، ففي ذلك إسفاف واستخفاف و استحضار فقط لحقبة مضيئة بقيت في خبر كان ودهستها الحقب المظلمة الموالية في تاريخ مخز للعرب. وحينما آلت الأندلس إلى الأعراب انشغلوا مع الأقداح والليالي الملاح والخلافات الطائفية التي كانت سببا في اندحارهم. والأخطر ما في ذلك أن تبقى حبيس ماضيك وتتغنى به، فيما حاضرك شاهد عليك وعلى تخلفك. وإذا صح القول إن العرب تفتقت قريحتهم على اختراع الصفر فقد بقي مركزهم في حضيرة الأمم، ومنذ ذلك الحين، يساوي قيمة هذا الاختراع. ولم يكتف العرب بذلك بل وضعوه فوق رؤوسهم. وبالعودة إلى الجدل الدائر بين المدافعين عن اللغة العربية ومنتقديها، يبدو أن السياقات التي جرجرت إليها وتمرغت فيها هي سياقات غير علمية وغير موضوعية، وأهينت فيها اللغة العربية من أهلها بسبب عقمهم وتخلفهم، ومن خصومها الذين حملوها وزرا لا قبل لها به، ذنبها أنها وقعت في أيدي من أساء إليها. ومثلما لا نريد هذا التجني على اللغة العربية، فإننا لا نريده أيضا للغات أخرى، ولا أن تواجه بحروب شرسة على غرار ما تكابده اللغة الأمازيغية اليوم من إقصاء وتلكؤ في تنزيلها رغم دسترها. لغة هي الأخرى يجب أن تعطى لها الفرصة، والعلم لا ينحصر في لغة كما هي المعرفة في شموليتها، ولا في قوم أرادوا تجيير القرآن لأنفسهم لأنه جاء عربيا فصيح اللسان لكي يستقووا به في محاربتهم للغات تشكل جزءا من الهوية المغربية. فلعل في ذلك إجحاف، والإجحاف كالاستبداد يحولان دون التطور ودون التجديد في المفاهيم وفي أدوات استعمالها ونقلها للمعارف حيث للغات دور أساسي في عملية نقل المعارف والتلاقح الفكري للأقوام ولمختلف الحضارات البشرية بصفة عامة. ومهما حاولنا أن نبرئ اللغة العربية، فهي الأجدر بأن تتحدث عن نفسها لتدعو أهلها إلى رفع الظلم عنها بالقول لهم: تعيبونني والعيب فيكم وما لي من عيب سواكم وهكذا، يبدو أن الجدال الساخن الذي نعاينه اليوم قد أخطأ الموضوع. فالإشكالية ليست في اللغة التي يجب أن ندرس بها سواء كانت العربية أو الأمازيغية أو هما معا أو حتى لغات "الزولو" و "الهوتو" أو لغة ّالأبوريجان"، بل المهم ماذا سندرس وكيف سندرس؟دول صغيرة ، كالدول السكندنافية وهولندا،استطاعت أن تساهم في عوالم العلم والمعرفة بإنجازات وابتكارات واختراعات تستفيد منها اليوم البشرية، وذلك بفضل ما لها من مراكز للبحوث العلمية وما تخصصه من ميزانيات ضخمة لخدمة العلم والتكنولوجيا. وقد حققت هذه الدول ذلك كله بلغاتها المغمورة التي لا تتجاوز الحدود الجغرافية لبلدانها. ومن المعيب أن أستشهد كذلك بدويلة إسرائيل التي تتميز عالميا بمراكز بحوثها وابتكاراتها باللغة العبرية في تطوير التكنولوجيا الغربية والمزايدة عليها. بينما ذاك الذي يسمى بالعالم العربي، المترامي الأطراف وعدده سكانه يفوق 300 مليون من ذوي البطنة وعديمي الفطنة، معطل فكريا ومشلول معرفيا. كذلك، فإن كلا من اللغتين الفرنسية والإسبانية لم تتبلورا كلغات قائمة الذات ، بعد اللاتينية، إلا في بداية القرن التاسع الميلادي. كما هو الشأن أيضا بالنسبة للغة الإنجليزية التي كانت مغمورة والتي لم ترس قواعدها إلا مع بداية القرن السابع عشر. وفي وقت وجيز، استطاعت كل هذه اللغات بفضل ما عرفته أوروبا خلال "عصر الأنوار" من حرية فكرية وديمقراطية وتطور علمي، أن تتجاوز اللغة العربية الضاربة في القدم، لا لشيء سوى أن أهل العربية انشغلوا فيما هم فيه، بينما أهل اللغات الأخرى انشغلوا بما أجدى لهم وللغاتهم. استبدال قطع غيار العقل العربي أساس التغيير المطلوب: إذن عوض صرف الاهتمام وهدر الوقت والجهد في قضايا جانبية، يجب التصدي إلى معالجة المعضلة المتشابكة التعقيد معالجة جدرية تتمثل أولا في الثورة على الذات العربية المريضة وإعادة تطهيرها وغسلها، ثانيا في تشريح الواقع وتحديد مواطن الضعف وما أكثرها، وثالثا في تغيير العقليات من خلال منظومة تربوية شاملة في البيت والشارع وميادين العمل، رابعا في مراجعة المنظومة التعليمية وجعلها منظومة حديثة علمية قابلة للتجديد، وبعيدة عن المفاهيم والقيم البائدة، خامسا في وضع استراتيجية تشجع على حرية التفكير وإشاعة ثقافة النقد لدى الناشئة وفي الأوساط العلمية، وعلى مبادئ الحوار المنتج من أجل إعداد جيل قادر على العطاء والابتكار . كل ذلك لن يتأتي إلا بإرساء قواعد الديمقراطية الحقة واحترام مبدإ الخلاف . أما اللغة، عربية أو أمازيغية أو هما معا، فهي أداة للتفكير ووسيلة للتعبير. ومثلما ما هو عليه الحال بالنسبة للعربية، فالأمازيغية جزء من الكيان والهوية لها من المخزون الثقافي والتراثي ما يشد من أزر اللغة العربية نفسها، ويثري المغرب المتعدد. فاللغة العربية وإن كانت لغة الفرقان ، فهي ليست لغة الله ونرفض أن تكون أداة للإقصاء كما نرفض أن نتخذها دينا، وهو ما يسعى إليه أولئك المتعصبون الذين يحاولون أن يوهموا بأن قدسيتها من قدسية القرآن .