"الموسيقى من أكثر الفنون ملاذا يلجأ إليها الناس من أجل نسيان العالم" بورديو. أولا: ملاحظات أولية، حول دور الصورة في مجتمعاتنا الحالية، وتأثيرها على المنظومات القيمية لفهم جزء من الهوس الأنثوي بالسينما الهندية اليوم، يمكننا التوقف عند الثقافة البصرية التي هيمنت على المشهد العام المجتمعي، وقد كان من مميزات هذا التحول هو " الانفتاح نحو التعدد من أنماط العيش الوافدة والثقافات المتنوعة والألوان اللامتناهية من أساليب الحياة إنه الانفجار الثقافي الذي يتم على يد الثورة الاعلامية والرقمية. وهناك بحث متواصل على مدى تأثير الصورة وهيمنتها في الحياة اليومية وتوجيه السلوك البشري. هذا على الرغم، من كون جيل الستينيات والسبعينات وحتى جزء من الثمانينيات –عندما كانت القاعات السينمائية مزدهرة- فقد كان الاهتمام منصبا حول السينما الهندية، لكنه اليوم يتخذ أبعادا جديدة، عنوانها العريض التعبير عن الذات، والتخلص من القلل والتوتر الحضاريين الذين يصيبان كل الأجيال، وخصوصا الجيل الشبابي. وهناك أيضا البحث عن اللذه والفرجة والسعادة والتشويق، وهي المعاني التي تفتقد في السينيما المغربية، وبعض الحالات العربية. وحتى نشرح جيدا ما ذا نعني بمجتمع الفرجة والتلذذ: ، فإنه يمكن القول أننا وصلنا إلى النقطة التي يحيط فيها الاستهلاك بكل شيء، بكل الحياة حيث تتسلل كل النشاطات طبقا لنمط تركيبي واحد، وحيث ترسم مسبقا لوحة الاشباعات ساعة فساعة» هذا التوجه الشامل للسلوك اليومي نحو الاستهلاك والاقتناء والاستمتاع، ما كان ليكون لولا قوة الصورة الاشهارية التي تستعرض الحياة السعيدة. ولعل أهم ما يميز ثقافة المجتمعات المعاصرة، بما فيها المجتمع المغربي، هو الاستهلاك، فالاستهلاك هو طقس مجتمعات اليوم، فاستهلاك رموز الفن والرقص والغناء، هي التي تجعل شريحة من الفتيات وحتى الفتيان يعيشون اللهاث المضاعف والمكثف، لهاث وراء الشهرة، ولهات خلف البحث عن الطريف والجديد والصارخ و المتفرد، فينغمسون في العوالم الافتراضية الوهمية بحثا عن التسلية والتشويق والإثارة، وأيضا الشهرة والنجومية، وهو ما عبرت عنه بعض المستجوبات، عندما أكدن على مسألة الشهرة والنجومية. ثانيا: إلى أي حد يمكننا القول أننا أمام ظاهرة، وما هي بعض عوامل تفسيرها؟ يصعب من الناحية السوسيولوجية/ العلمية، الحديث عن ظاهرة، لانها لا تتميز بخصائص الظاهرة، كالشمولية والعمومية، لكن يمكن الحديث عن توجهات قيمية جديدة، جراء نتيجة التحولات العميقة في مجال الثقافات ومنظومات القيم العالمية، حيث أن العولمة في اتجاهاتها الكبرى، ألغت الحدود والحواجز والمسافات والخصوصيات الثقافية، وبالتالي أصبح كل شيء عالمي. فلا نستغرب من وجود من هذه الحالات، التي تتشابه في نمط حياتها مع حالات أخرى، قد توجد في أكثر البلدان محافظة، كالمملكة العربية السعودية مثلا، والمغرب ليس مستثنى من هذا التحول الكبير. وهناك، عامل آخر يمكن أن يفسر لنا سر لجود بعض الفتيات (أو الفتيان او حتى بعض الشرائح الاخرى) للتعاطي للأفلام الهندية، هو أن سرعة التحولات وقسرية التحديث، أحدثت تصدعات في النماذج المعيارية والهوية الثقافية، وغيره، مما يسوغ البحث عن نماذج (les idols- )، كيف ما كانت وفي شتى العوالم، الرياضية أو الدينية والفنية، ومنها بطبيعة الحال، نموذج الأفلام الهندية ونجومها السينمائية الكبار. بالموازاة، مع ذلك، تنتصب فرضية القلق والتوتر والحيرة والشك والخوف ... التي أصحبت تميز مجتمعاتنا المعاصرة، حيث يجد الانسان نفسه، في قلق وجودي، ويبدأ في طرح الأسئلة المؤرقة: من أنا؟ وما حقيقة الحياة؟ وما بعد الموت؟ وما دوري في هذا الكون؟ هذه الأسئلة وغيرها، كل شخص يطرحها على نفسه، وخصوصا عندما تنحسر وظائف التنشئة الاجتماعية، كدور الأسرة، والمدرسة، والمنظمات المجتمعية، وغيرها، فيبدأ الفرد في البحث عن ملاذ يعبر به عن نفسه وعن هواجسه وعن قلقه وعن توتره، فقد يجده في السينما، ولعل السينما الهندية، -نظرا لتميزها بكونها "تحرك في النفوس شعورا مختلفا يتأرجح تارة بين السعادة والدهشة عن طريق الرقصات المتميزة وطريقة الأحاديث المسترسلة، وتارة أخرى بين الحزن على نهاية القصة غير المنتظرة، لأن أفلام بوليود تتميز أحيانا بنهايات دراميّة مؤلمة وحزينة، لم تكن في الحسبان، وتصدم الكثير من المشاهدين الذين انتظروا نهايتها بفارغ الصبر، متوقّعين للبطل والبطلة السعادة والفرح، والانتصار على الأعداء والحاقدين" (فرح حلاق، 13سنة). ولهذا فنحن نميل إلى ترجيح المدخل القيمي، لتفسير التوجهات السينمائية الجديدة وسط شريحة من الفتيات وحتى الفتيان. وهذا مرده إلى وجود استراتيجيات مفكر فيها من طرف هؤلاء الزبناء/ المستهلكين لمنتجات السينما الهندية. وقد بدا واضحا في التصريحات، التركيز على الرقص، باعتباره من الفنون المثيرة والمسلية والتي يجد فيها الفرد/ الفتاة، كل راحته بل وسعادته، لأنه في الرقص ينتشي الانسان بلحظات سحرية خارج عن المعقول وكأنه يريد أن يقول لا شيء يمكنه أن يقف في وجهي (لا التقاليد ولا الدين ولا المجتمع...) للتعبير عن هواجسي التي تسكنني. والرقص هو حالة من التعبير عن الذات ونوع من التخلص من أثقال وإرهاق الحياة اليومية التي تتميز بآفة القلق الحضاري. ثالثا: هل يمكن أن نصف موجة التماهي مع الثقافة الهندية –عبر السنيما- حالة مرضية؟ لا أعتقد ذلك، خصوصا ونحن نميل إلى تفسير هذه الموجة بعوامل موضوعية، كحالة التثاقف (Acculturation) الكبيرة التي ميزت المجتمعات المعاصرة، بما فيها دول الشمال. فالمثير في هذه الموجهات الجديدة، -والتي ليس التعبيرات الفنية سوى إحدى مظاهرها الكبرى- أنها تخترق كل الثقافات. فلا غرابة أن تجد في دولة مثل فرنسا من يعشق هذه الأفلام الهندية، خصوصا طريقة الرقص المغري والمثير. فلم تعد اللغة عائقا أما حصول عمليات التثاقف أو التبادل الثقافي. ولهذا فكون شريحة –لا ندري أهي قليلة الحجم أم كثيرة، نظرا لغياب دراسات سوسيولوجية في الوقت الراهن- ، تميل إلى الانشداد للسينيما الهندية، فهو أمر عادي في مجتمع منفتح ومفتوح على كل الحضارات والثقافات. ولعل الدليل الذي يمكن أن يقدم في هذا السياق، اننا نجد حالات من المستغرقات في التعاطي للسينما الهندية، بل وعشقها والتماهي معها وتملك حس فني هندي كبير، لكن –هذه الحالات- تتابع دراساتها أو أعمالها أو أنشطتها بشكل عادي وبدون أية مفارقات تذكر، فهذا النوع من التسلي، هو هواية كباقي الهوايات، كالهويات الكروية أو الرياضية. لكن قد يقع البعض في حالة الهستيريا او ما يمكن أن نطلق عليه "الحالات الباتولوجية"، جراء الادمان المرضي على استهلاك هذا النوع من الفن، وقد تقع للشخص –سواء فتاة أو فتى- أعراض من التصدع النفسي والمرضي، لكن ذلك لا يمكن أن يستنتج منه أية خلاصات نهائية أو ناجزة تقول بكون كل من يتعاطى لهذا النوع من الأفلام فهو يعيش "سكيزوفرينيا". ولهذا نجد بعض التفسيرات الأخلاقوية المشدودة لنموذج يوتوبي تميل لهذا التفسير. لكن التعاطي السيوسيولوجي للحالات وللنماذج، كما تبينه بعض الشهادت –والتي بالرغم من كونها لا تمثل عينة ممثلة (un échantillon représentatif) - فإنها تعيطنا فكرة مصغرة عن كون الفتيات اللواتي يتعاطين هذا النوع من الفن السينمائي، يجدن متعة وسعادة كبيرة في الاستمتاع به، كما يقال، "إذا كان العلم دقيق، فإن الفن صادق"، وهذا يعني أن الفن لا يمكن التعبير عنه بالمعطيات الدقيقة والمفصلة، بل إنه ينفلت من كل هذه التنميطات. ولهذا نخلص مما سبق، إلى أن يصعب من الناحية السوسيولوجية الحديث عن حالة مرضية أو عن" تفكك الهوية" أو عن" أزمة هوية" كذلك. رابعا: هل تحتاج هذه الشريحة المجتمعية "لعلاج"؟ إذا سلمنا بالنتيجة التي توصلنا إليها في السؤال الثالث، فإنه يصعب الحديث عن كون هؤلاء الفتيات يعبرن عن حالات مرضية، لأن التعاطي للفن يعتبر مظهرا من مظاهر السر في حياة الكائن البشري، حيث هناك ثلاثة مكونات تميز هذا الكائن، وهي الدين، والعلم والفن. من وجهة نظري، أعتبر أن المدخل الحقيقي للتعاطي مع هذه الموجات، هو الانصات إلى ما يختلج في نفوس الفتيات أو الفتيان والشباب بصفة عامة، وخصوصا في الجانب الفني. وهذا الانصات لن يكون إلا مرحلة أولية لبلورة مشروع فني مغربي يعبر حقيقة عن هواجس هذه الفئة. وفي هذا السياق، لا أفهم لماذا لا توجد في مدننا وفضاءاتنا العامة، معاهد للرقص، كفن تعبيري بامتياز، وكفن يهذب النفوس ويذكي الروحانية على الكائن البشري في المجتمع المادي التسليعي؟ وهذا الأمر يقتضي ثورة في عقليات الكثير من صناع القرار، فالرقص لا يجب أن يقترن "بالرذيلة "أو "التفسخ" كما يروج البعض، وكما هو متداول في الحس المشترك، وأيضا كما هو مترسب في البنية الثقافية للمجتمع المغربي. ثانيا، وجب الرقي بالسينما المغربية، والدخول بها إلى مجال الاحتراف والمهنية الحقيقية لكي تضاهي السينما الهندية أو غيرها، وهذا لن يتأتى في نظرنا، إلا بالابتكار والتجديد والاجتهاد الفكري والابداعي، لأن ذلك هو الجواب العملي عن توجيه الشباب نحو سينما يجدون فيها صالتهم وتلبي شغفهم الفني. إلا أنه قبل ذلك، وبعده، فإن الانفتاح على كل الحضارات والثقافات لن يوقفه أحد لأننا دخلنا في عالم تنضغط فيه كل الثقافات وكل الخصوصيات والمحليات، لأننا كلنا بتنا نتكلم لغة واحدة، أو لنقل فنا واحدا.