من المؤكد أن انقضاء سنة وبداية أخرى، لن يكون له تأثير يذكر على الواقع السياسي في المغرب، الذي يبدو فيه "كل شيء على ما يرام"، مادام الشعب راضيا بما قسم له، ومادام السياسيون لا ينتجون سوى ما ينفر الناس من السياسة.. ولعل مما قد يساهم في تأكيد و"تأبيد" وضع "الستاتيكو" هذا، انخفاض أسعار البترول، والأمطار الوفيرة التي شهدتها أغلب الأقاليم، حيث ينتظر أن يساهم هذان العاملان اللذان لا فضل لأحد فيهما، في تخفيف حدة الأزمة التي طالت واستطالت وكادت تدفع البلد نحو المجهول.فقد نُسب إلى الراحل الحسن الثاني قوله إن تقريرا عن الأرصاد الجوية أفضل من تقرير أعدته الأجهزة الأمنية، بما معناه أن المطر هو الذي يحدد منسوب الاستقرار في البلد. كما نُقل عنه أيضا وصفه قطرات المطر، بأنها "سبائك من ذهب"، وهذا كلام يتماشى مع ما توصل إليه ليوطي وجواسيسه ومنظرو الفترة الاستعمارية حين ربطوا بين الحكم "المستقر" ونزول المطر...ويبدو أن هذين العاملين ساهما ايضا في ستر ما تبقى من عورات لدى النخب السياسية والفكرية في هذا البلد، ذلك أنه لو كان الوضع مشتعلا بشكل يرفع اسهم المعارضة سياسة وفكرا، لكنا أمام فضيحة حقيقية، ذلك أن النخب المزعومة والموهومة ليس لها ما تقدمه سوى كلام أقرب إلى هلوسات سكارى الهجيع الأخير من الليل، الذين وصفهم صحفي مشرقي قبل عقود، بأنهم عادة ما يكنسون من الحانات مع أعقاب السجائر لحظة الإغلاق. ومما يؤكد هذه الخلاصة، التحليلات التي تملأ الأرض والسماء هذه الأيام حيث اصبح كل من هب ودب "محللا" عارفا بفنون السياسة وكواليسها، إلى درجة ان أحدهم "تنبأ" مؤخرا بقرب حدوث تعديل حكومي يتم بمقتضاه إدخال حزب الأصالة والمعاصرة ضمن حكومة العدالة والتنمية، وهي نبوءة لا تتكئ على أي منطق أو مقدمات أو ممهدات، بل إن صاحبنا "جزم" بهذه الخطوة ضمن ما اعتبره مسلسل "التطبيع" بين الحزبين، ولم يكلف نفسه عناء توضيح كيف توصل إلى هذا الاستنتاج العظيم..والخطير هنا، أنه لو تعلق الأمر بأحد "الكتبة" الذين يقحمون أنفسهم في كل المواضيع مستغلين المساحات الواسعة التي وفرتها "الصحافة الإلكترونية" حتى للنطيحة والمتردية.. لهانت المصيبة، أما وأن هذا الكلام صادر عن أستاذ جامعي يدرس في كلية الحقوق بالرباط التي يفترض أنها تخرج زبدة المجتمع السياسي ورجال القانون الذين سيحملون المشعل، فإن المصيبة مضاعفة.. ومن حقنا التساؤل عما يلقنه هذا الباحث لطلبته حين يختلي بهم في المدرج، وكيف يزرع فيهم بذرة الشك المنهجي لتشحيم عقولهم ودفعها إلى العمل بأقصى طاقتها وسرعتها..إن الاستهلال بالجامعة -وليست أية جامعة- يختزل الكثير مما يمكن أن يقال في هذا الباب، لأنه إذا كان المصنع الذي ينتج الفكر ويكون رجال المستقبل، يعاني من هذا العطب الخطير، عطب تعطل ملكة التفكير المنطقي والتحليل المنهجي، فإننا فعلا أمام حالة قحط لا يمكن مواجهتها بإجراءات ترقيعية كما يحدث في مواجهة جفاف الطبيعة. فعجز الجامعة عن تقديم الأفكار وعن تأهيل أجيال جديدة استعدادا لمواجهة التحديات القادمة، ينعكس تلقائيا على جميع الساحات والأوساط سياسية كانت أو اجتماعية أو رياضية أو فنية أو فكرية..والواقع أكبر شاهد..فالفشل يرافق المغرب في جميع الميادين، وليست فضيحة ملعب الرباط سوى الجزء الطافي من جبل الجليد.. ففي تقارير وتصنيفات المنظمات الدولية ما يغني عن الخوض في التفاصيل..وحتى إذا ألغينا منطق العقل ومعطيات الواقع السياسي، وانسقنا وراء تحليلات أستاذنا الكبير، وسلمنا بأنه لن يبقى في المعارضة سوى حزبا الاستقلال والاتحاد الاشتراكي، وسلمنا قبل ذلك بأن حزب الأصالة والمعاصرة فقد البوصلة السياسية، وانخرط فعلا في حكومة خصمه "الوحيد" ومنافسه الوحيد أيضا، قبل شهور فقط من دخول مسلسل الانتخابات المهنية والجماعية.. فما هي النتيجة التي يمكن توقعها من خلطة من هذا القبيل؟ بكل أسف، فإن تعطل ملكة التفكير، وعجز الجامعة عن القيام بدورها الكلاسيكي في تخريج النخب الموهوبة، أدى بالتبعية إلى أن المتابع "الفطن" أصبح يستهلك كثيرا من الوقت في التذكير بالأبجديات والبديهيات، بدل أن يتم تسخير الجهد الأكبر إلى ما ينبغي الاهتمام به أصلا..فلو سايرنا فرضية أن حزبي العدالة والتنمية والأصالة والمعاصرة تحالفا فعلا، سواء حالا أو مستقبلا، فإن ذلك سيكون مجرد مؤشر إضافي على "جفاف سياسي" قد يتحول في سنوات قليلة إلى "قحط" و"تصحر" دائم. فالكل يعلم أن حزب الأصالة والمعاصرة، هو "منتوج" إداري "خلق ليفترس" النماذج السابقة من الأحزاب الإدارية، ولينوب عن الأحزاب "الوطنية" التقليدية التي استهلكتها المشاركات الحكومية خاصة بعد تجربة "التناوب التوافقي".. في مواجهة مد "الإسلام السياسي"، الذي يعلم الجميع أنه التيار الوحيد الذي له حضور فعلي في الشارع..فاي عقل هذا الذي يمكن أن يقود إلى مجرد التفكير في بناء تحالف بين حزبين يعيشان صراع وجود، وهو ما ستكشف عنه الاستحقاقات الجماعية القادمة بوضوح؟..وحتى إذا سلمنا بما انتهى إليه "محللنا" من نظريات مستحيلة، فمن سيملأ ساحة المعارضة -البرلمانية بطبيعة الحال-، بما أن الشارع صار تقريبا في قبضة جماعة العدل والإحسان؟وما هو البديل الذي يمكن أن يقدمه حزبا الاستقلال والاتحاد الاشتراكي، إذا استمرا منفردين في المعارضة؟ لو طرح هذا السؤال تحديدا قبل عشرين عاما، لكان الجواب تلقائيا وطبيعيا : بإمكانهما فعل الكثير والكثير والكثير.. ولكن بما أننا نتحدث عن اليوم وليس عن الأمس، فإن اكبر خدمة يمكن تقديمها لحزب العدالة والتنمية "العدو المشترك" للأحزاب والإدارة البيروقراطية والدولة "العميقة".. هي ترك المعارضة في يد هذين الحزبين بقيادتيهما الحاليتين.لا نحتاج هنا لتكرار كل ما كتب وما قيل عن انتحار أعرق حزبين عرفهما تاريخ المغرب منذ الاستقلال وإلى اليوم، فلا يكاد يمر يوم دون أن نشاهد جزء من تجليات الانحدار والانحطاط والجفاف الذي عرفته السياسة والعمل الحزبي في سنوات معدودة..لكن علينا أن نستحضر أن السياسة فن وعلم في نفس الوقت..فن، لأنها تحتاج إلى موهبة تولد مع المرء ولا يمكن اكتسابها أو شراؤها.. أو انتحالها..وعلم، لأنها تعتمد على منطق معين وعلى آليات وأدوات وتقنيات، يتطلب تحصيلها الكثير من الجد والاجتهاد.. فهل ما نشاهده اليوم في الصفوف الأولى لهذين الحزبين بالتحديد يمكن من الرهان على قدرتهما على ملء الفراغ، ومواجهة حزب العدالة والتنمية -حتى دون التسليم بنظرية المحلل أعلاه حول احتمال دخول حزب الأصالة والمعاصرة إلى الحكومة-؟والسؤال الأخطر، كيف سيكون شكل حكومة يقودها شباط أو لشكر؟ وكيف ستتعامل مع "المعارضة"؟ فالرجلان فضلا تشتيت أعرق حزبين بدل السعي للحفاظ على شعرة معاوية حتى مع رفاق الدرب النضالي الطويل، وما نشاهده اليوم من تلاسن وحروب "قذرة" لم يسبق تسجيله حتى في الأحزاب الإدارية عندما فقدت مهندسها إدريس البصري، وتركت لمواجهة مصيرها.. ينبؤ بكيف التعامل مع الآخر المختلف في حال قاد الاتحاد أو الاستقلال الحكومة..أعتقد أنه، وعكس ما يراه كثيرون، فإننا أمام تطور منطقي في مسار أحزاب فشلت في تجديد دمائها بشكل طبيعي.. وليس فقط أمام عبث أيد خفية تحاول التحكم في المشهد السياسي..فأي فشل أكبر من أن يركز لشكر وشباط على اتهام حزب العدالة والتنمية بالتشويش على حزبيهما وتحريك المعارضين، بينما يرد هؤلاء بأن القيادتين الحاليتين الاستقلالية والاتحادية تحملان بصمة "البام"؟وأي مصير ينتظر الحزبين العريقين إذا كانت حروبهما الداخلية ستتكفل باستنزافهما بحيث لن يجدا الوقت الكافي لمواجهة المعارك السياسية والانتخابية التي لا مفر منها؟ لقد قلت أعلاه إن الجفاف أنواع، لكن أخطر هذه الأنواع على الإطلاق، هو الجفاف الفكري والقحط السياسي.. فالإنسان نجح دائما في التأقلم مع التقلبات المناخية "المتطرفة"، وحين تتعطل قدرته على التأقلم فتلك هي إحدى مؤشرات قرب "الانقراض"..وبكل أسف، نعيش حاليا لحظة غير مسبوقة في تاريخ المغرب "المستقل"، حيث إن الأحزاب التي استعصى اختراقها وترويضها على المخزن، أصبحت اليوم تمارس لعبة "التفجير الذاتي".. وعوض أن تبادر النخب الفكرية للتنبيه لمخاطر هذه "اللعبة"، فإنها تخصص وقتها لطرح سيناريوهات مستحيلة ومستبعدة وغير منطقية.. إن القاموس الذي استعمله السيد لشكر خلال مروره في قناة ميدي1 تي في نؤخرا، يكشف أن الحزب الذي كان الواجهة السياسية لأنتلجنسيا المغرب التقدمية منذ انشقاقه عن حزب الاستقلال في نهاية الحمسينيات.. تحول إلى ما يشبه السوق العشوائي، حيث الصراخ والعويل والزحام والصراع على المربعات..كما أن المشاهد التي تداولتها مواقع الأنترنيت حول نوعية الحاضرين في مؤتمر الشبيبة الاستقلالية الأخير، ورهان السيد شباط على استعمال ورقة العدل والإحسان، دليل على أن الحزب "العتيد" بلغ مرحلة الشيخوخة بكل أمراضها وأعراضها، بدليل اللجوء إلى أدوات ووسائل لم يكن الاستقلاليون ليفكروا فيها أصلا، لولا أن "الميزان" اختل منذ أن صارت الشعبوية برنامجا حزبيا.... حكاية من التاريخ تستحق أن تسرد..ورد في الأخبار أن الحجاج بن يوسف بعد ما ولي على العراق وقف في المسجد وقال: "يا أهل العراق أما ترون أن الله رفع عنكم الطاعون منذ أن وليت عليكم".فوقف رجل من أقصى المسجد رافعا صوته:"إن الله أوسع رحمة من أن يجمع علينا الحجاج والطاعون".. والله أوسع رحمة ايضا من أن يجمع على المغاربة جفاف الطبيعة بجفاف الفكر والسياسة