''عزاؤنا واحد في السي بها''، كلمات قطعت الشك باليقين، قالها لي الأخ العزيز سليمان العمراني في مساء أحد حزين، وبين الذهول من وقع الفاجعة ومعرفة تفاصيل ما وقع، كان ثابت واحد ووحيد هو أن سي بها قد ودعنا وخلفنا وراءه. بها ذلك المواطن من نوع خاص كما نعاه الأستاذ بنكيران لجلالة الملك، أجمع كل من تعامل معه مخالطة أو مصاحبة أو مجالسة أو حتى سماعا، أنه كان شخصية استثنائية فقد كان فريدا ومتفردا اجتمعت فيه خصال ما أظن أنها اجتمعت في غيره من إخواننا، وسمت فيه مقامات قلما سمت في غيره، ورسخت لديه أخلاق صارت طبعا له من غير تكلف وسلوكا من غير تصنع. فهو حقيقة نسيج وحده، مختلف عز شبيهه، فقد نحتت شخصيته الإنسانية والدعوية والسياسية بخلطة خاصة فيها أصل المنشأ المنعزل في جبال الأطلس هدوءا وصفاء وبساطة عيش؛ وفيها جلد وأنفة الأمازيغي الأصيل؛ وفيها أثر بين للتدين العميق المتين المبني على قواعد العلم ارتشافا من أصول مكتوبة مغربية ومشرقية من جهة، وعلى مخالطة أهل العلم سماعا ومذاكرة وصحبة من جهة أخرى؛ وفيها بساطة وتلقائية وجرأة أهل الدعوة والتبليغ وما يقتضيه ذلك من اقتحام للعقبات، ومن يقين بأن الخير هو الأصل في الإنسان مهما بدى منه غير ذلك؛ واكتملت شخصيته الدعوية بتفاعله مع الحركة الإسلامية بما لها من "شمول" فهم للدين وإعمال لوسائل تنظيمية معاصرة مدافعة ومطالبة، فكان رحمه الله في قلب كل التحولات الإستراتجية والتاريخية، انفصالا عن الشبيبة، وإرساء للتوجه الجديد وبناء لمدرسة الإصلاح واقتحاما للعمل السياسي المباشر. ذاك هو المسار العام للفقيد، لكن كيف استطاع الرجل خلال هذا المسار الطويل في العمل الإصلاحي من مختلف المواقع والمناصب والمسؤوليات أن يخط لنفسه مسارا استثنائيا، كان فيه الشخص المؤثر الذي تجده له الأثر في أغلب المسارات والملفات وإن ظن كثير من الناس أن لا أثر له؟ كيف قدر للفقيد أن يغادرنا، وإن كان ذلك بطريقة مفجعة، لكن ما سر كل هذا الإجماع حوله وحول خلقه وخصاله؟ كيف كتب لمن عاش في الظل دون كثرة ضجيج وفي الصمت دون كثير كلام، أن يغادر هذه الدنيا من مقام الشهادة إن شاء الله، وهو أشهر من نار على علم، شهرة خالصة كتبها الله له، فما أصبح أحد في الوطن لم يعرف "سي بها"، وهي شهرة كأنها فصلت على مقاسه فلم تشبها من جهته شبهة عجب أو رياء، وذلك من كريم العناية الإلهية بالفقيد ومن حسن جزائه على ما قدم. هذا هو الفقيد لكن من هو سي بها؟ وكيف اعتبر الكثيرون أن خسارته هي خسارة للوطن؟ كيف وصل المرحوم إلى ما وصل إليه؟ إن أصل كل ذلك هو أن السي بها، رحمه الله، كان من طينة خاصة.. هذه بعض من معالمها. مقامات إيمانية كان السي باها راسخ الإيمان، وكان تدينه متينا دونما استغراق في الأشكال، وكان له مقامات دقيقة وعميقة لا يتحدث بها وإن كان بعضها ديدنه الذي ما لبث يذكر به متى تكلم، كان رحمه الله يقرن القول بالعمل، ويجتهد في تمثل كثير من المقامات التي صارت ملتصقة به بحيث يشهد له بِها كل من عاشره وخالطه، ومن تلك المقامات: مقام الصدق: من القواعد والجوامع التي نحتها السي بها رحمه الله قوله: "الصدق أصل أخلاق الأمانة"، وهو مقام صحيح عزيز وناذر الوجود والتمثل. وقد كان رحمه الله صادقا يتحرى الصدق في نيته وفي أقواله وفي أفعاله وفي تصرفاته، وكان يدعو إلى ذلك ويحث عليه. وقد اعتبر أن الصدق أحد ركنين وإحدى اللازمتين للمسؤول الناجح وهما الصدق والصبر. وللمرحوم مقامات في الصدق يصعب سردها ولكني ما نسيت له مقاما حدثني به يوما بحضور الأخ الفاضل محمد يتيم، حيث سألته رحمه الله عن سر قوله مرارا في علاقته بالمسؤوليات: ''Je ne propose pas, je ne me retire pas''، أي ''لا أقترح نفسي ولا أنسحب''. فأما الأولى فهي واضحة بينة وهي في العموم سهلة لينة، خاصة بعد أن صارت ثقافة عامة في الحركة ثم بعد ذلك في الحزب، كما أن قوانيننا تمنعها فالأصل الترشيح لا الترشح، وإن كان بعض من إخوتنا يصدق عليهم مثل ''يكاد الراغب أن يقول رشحوني''؛ لكن ما هي حكاية ''لا أنسحب''، كان جواب سي بها رحمه الله: ''إنني لا أنسحب لأنني لا أستطيع أن أجزم أنني حقيقة وصدقا لست راغبا في المسؤولية''، وذلك من صدقه رحمه الله مع نفسه أولا ومع من سأله ثانيا، وهو بخلاف البعض الذي يعتذر وهو راغب أو يعتذر إذا رأى أنه غالبا لن يختار، وكان رحمه الله ممن أجاز مبدأ صار قانونا عند حزب العدالة والتنمية وهو "من اعتذر قبل اعتذاره". مقام الصبر: وثاني القواعد التي نحتها السي بها هي قوله "الصبر أصل أخلاق القوة"، وكان يردد باستمرار أن الذي لا يستطيع الصبر فلن ينجز شيئا. ومقام الصبر كما هو معلوم مقام ليس يسير البلوغ، وهو الحظ العظيم الذي يخص به الله من شاء من عباده. ''وَمَا يُلَقَّاهَا إِلا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ''. وقد كان المرحوم صبورا في كل شيء، ولا أذكر له يوما تأففا أو انزعاجا وهو يقوم بواجباته ومسؤولياته، فكان يصبر على كل شيء وفي كل مقام، وكان رحمه الله حينما تطول الاجتماعات وتكثر المداخلات ويتبرم البعض من ذلك يقول للحضور: ''من أراد الديموقراطية عليه أن يصبر على مستلزماتها، ومنها طول الاجتماعات''. وكان للمرحوم مقامات في الصبر حين غربة الالتزام ونذرة المتدينين، لما كان طالبا في المعهد الزراعي، حيث يذكر له كثير من أقرانه متدينين آنذاك على قلتهم، وغير متدينين على كثرتهم، كيف كان يرد أذى واستهزاء الكثيرين بالابتسام والصبر والإصرار، ولمن شاء أن يسأل من عاشروه في المعهد الزراعي عن صبره في التمكين للدين صلاة ودعوة ومنعا لبيع الخمور داخل المعهد، وغير ذلك من أعمال الخير، ومن صبر في زمان العسر كان عنده الصبر أيسر في أيام اليسر. مقام الحكمة: كان حكيما بإجماع، وهو الوصف الذي ألصق به بيد أنه لم يدعه يوما، لكنه كان حكيما بصمته وكلامه الموزون، فمن كثر كلامه كثر سقطه. وكان حكيما برفقه فما كان الرفق في شيء إلا زانه، وكان حكيما بيقينه في الله وثقته في أن الصدق يهدي إلى البر، وأن الصبر مفتاح النصر، وكان حكيما بسكينته فما كانت تحركه كبار الأحداث فيتسرع، ولا تلهيه كثرة المعيقات والمثبطات فييأس. كان حكيما يلتزم منهج الإصلاح فلا يحيد عنه، ويلزم المشروعية، مشروعية المؤسسات ومشروعية المسؤولين، فلا يخرقها أو يألب ضددها؛ فكان آمنا مطمئنا بيقين أن البركة في الشورى ولزوم الجماعة، فما احتج يوما على قرار وما خرج يوما عن مؤسسة، وكان همه الأساس دوما أن يسأل سؤالا منهجيا مفتاحا كيف اتخذ القرار؟ أولا ثم بعد ذلك ما هو القرار وما هي تفاصيله؟ لكن السؤال الأول ركن، والثاني تبع له لا أصل. لقد كان حكيما وكفى. ''يُؤْتِي الحِكْمَةَ مَن يَشَاءُ وَمَن يُؤْتَ الحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً''، وقد كان رحمه الله حكيما فآتاه الله خيرا كثيرا. مقام التواضع: ومن المقامات التي اكتملت أو كادت عند المرحوم مقام التواضع، تلك شهادة من عرفه. هي شهادة السياسيين جميعهم، ويا للعجب، وهي شهادة إخوانه وأخواته فيه حزبا وحركة ولا عجب، سواء منهم المؤسسون أو الجيل الثاني أومن تبعهم إلى اليوم. لكن إن شئتم أن تعرفوا حقيقة تواضع السي بها، فلا تسألوا عنه من سبق، وإن كانت شهادتهم مقدرة ومعتبرة، فما كل السياسيين صغيرهم وكبيرهم متواضعون، وما كل الاخوة والأخوات من أهل الإصلاح والتوحيد وحزب العدالة والتنمية متواضعون، فمن هؤلاء من أعطي عشر ما أعطي المرحوم فاستكبر واستعلى. إن شئتم أن تعرفوا حقيقة تواضع المرحوم فاسألوا عنه ''صغار القوم وضعافهم''، اسألوا عنه مستخدمي المقرات الحزبية والحركية، اسألوا عنه الحراس والمياومين، اسألوهم كيف كان يسألهم عن أحوالهم، وكيف حضر لكثير منهم أفراحهم وأتراحهم، كيف اقتسم مرات عديدة، آناء الليل وأطراف النهار، معهم طعامهم وشرابهم في تواضع يعز ويمتنع عن كل تكلف أو تصنع. مقام الزهد: سي بها كان من أكبر الزهاد وهو زاهد حقيقي، لم يتغير فيه شيء بإطلاق وجزم، رغم أنه كان لا يحب الجزم والإطلاق. وهو زاهد حقيقي لأن الزهد الحقيقي أن تزهد في ما بين يديك وما بلغته وتحصلت عليه. والمرحوم زهد في كل شيء فما غيرته المسؤوليات منذ كان، ولم تتغير عاداته وطبائعه وخصاله، حتى وهو وزير دولة ظل كما كان لم يسع إلى امتلاك الدنيا وما حرص على ذلك. وإن بعض الناس ومنهم بعض إخوتنا أعطوا بضعا مما أعطي السي بها رحمه الله فبدلوا وغيروا حتى زهد فيهم كثير من الناس، لكن المرحوم زهد في ما في أيدي الناس فأحبوه وشهدوا له بالفضل. أصول أخلاقية كان لسي بها رحمه الله أصول أخلاقية كثيرة، ضبطت إيقاع سلوكه فأصبحت حاكمة لسلوكه، ومن ذلك: الخير يغلب الشر: كبرى الأصول التي حكمت سلوك السي بها، يكثر من ذكر هذا الأصل ويسوق لذلك الاستشهادات. وكان المرحوم خيرا يحب الخير ويتحراه فيمن خالفوه، ويحرص أن يبحث عن الخير فيجده غالبا، ويقابل الإساءة بالخير دائما، وهو يردد: ''حتى يغلب خيري شره''، رواية عن الحكاية المشهورة التي ظل يكررها مرارا رحمه الله وخلاصتها أن وفد الحج السجلماسي عندما طلب من المولى قاسم بن محمد أن يبعث معهم أحد أولاده، وهو يومئذ أكبر شرفاء الحجاز ديانة ووجاهة، اختبر من أولاده من يصلح لهذه المهمة، فكان يسألهم واحدا واحدا ويقول لهم: ''من فعل معك الخير، فماذا تفعل معه أنت؟'' فيقول: ''الخير''. ومن يفعل معك الشر؟ فيقول: ''الشر''. فيقول اجلس. إلى أن انتهى إلى حسن الداخل، فقال له كما قال لإخوته فقال: من فعل معي الشر، أفعل معه الخير قال: فيعود ذلك بالشر، قال فأعوذ له بالخير إلى أن يغلب خيري على شره فاستنار وجه المولى قاسم، وداخلته أريحية هاشمية، ودعا له بالبركة فيه وفي عقبه. حسن الإصغاء: مما عرف به المرحوم حسن الانصات والاستماع، كان مستمعا جيدا دونما حاجة إلى دروس التنمية الذاتية، فتلك كانت خصلته التي يكسب بها قلوب من عاشروه وعرفوه. كان يستمع بإمعان وكان يستمع بإتقان، وكان يقرن ذلك كله بهدوء وبشاشة وطيبوبة تريح محدثه فيفتح لسي بها قلبه وعقله. وكان قليل المقاطعة لمحدثيه. فكان يصغي حتى يفهم ويستوعب، وإن اقتضى الأمر أن يسأل سأل بلطف. الرفق: "ما أذكر أن الوالد عنفنا"، تلك شهادة واحدة تكفيه، قال في حقه ابنه أمين، فقد كان السي بها رفيقا غير عنيف طوال كل مساره، حتى وهو طالب في المعهد الزراعي، فما وجده الطلبة يوما في مواجهة، إلا مرة واحدة سنة 1978، وهو الأمر الذي استغربه طلبة المعهد آنذاك إذ لم يسبق لهم أن رأوا المرحوم في أي مواجهة. وغير ذلك ظل مسار الفقيد كله رفق وسلم دائمين. الابتسامة صدقة: كان السي بها مبتسما دائما حتى في أصعب اللحظات والفترات والمحطات، وكان بشوشا حين السلام وحين الافتراق، ابتسامة تريح من جالسه، وتبعد الغم عن من جاءه يشكي سوء حال أو قسوة معاملة. قل خيرا أو اصمت: كان رحمه الله كثير الصمت وإذا تكلم أوجز، وما أذكر أنه جرح أو أوجع بكلام، ولا أذكر أن أحدا اشتكاه لأحد بسبب كلام جارح أو فظاظة في القول أو إغلاظ فيه. مبادئ إصلاحية كان السي بها يحسن صياغة كثير من المبادئ الإصلاحية التي طورتها الحركة، أو الحزب، وسي بها له إضافات وإفادات، فعقله المنهجي منحه القدرة على صياغة كثير من تلك المبادئ ومنها: الإصلاح مقصد خالص: كان المرحوم يؤكد باستمرار أن الغرض من مشروعنا الإصلاحي هو الإصلاح ولا شيء غير الإصلاح، ''إِنْ أُرِيدُ إِلاّ الإِصْلاَحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِيَ إِلاّ بِاللّهِ عَلَيْهِ تَوَكّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ''، فلا ينبغي أن تختلط نية الإصلاح بأي شيء آخر، وأي خلط يربك مسار الإصلاح سواء بالنسبة للمصلح أو للمعني بالإصلاح. وكان هذا المبدأ موجها لكثير من القرارت والمواقف، سواء إزاء النظام في فترة بلورة التوجه الجديد، أو ما تلى ذلك من تفاعل مع محيط الحركة والحزب. المشروعية لا الغلبة: كان المرحوم شديد الحساسية تجاه هذا الأمر، بل كان متشددا إزاءه، وكان يعتبر الطعن في المشروعية دون وجه حق، هو إعمال لمنطق الغلبة والسيف الذي عانى منه المسلمون كثيرا. وكان يؤكد أن الاختلاف في إطار المشروعية غالبا ما ينتهي بإيجاد حلول وتوافقات، وأما الخلاف خارج المشروعية فهو الفتنة التي لا يستطيع أن يعلم أحد منتهاها. فمشروعية المؤسسات والمسؤولين عنده فوق كل اعتبار من احترمها جادله وناقشه وحاوره وبحث معه عن الحلول مهما صعبت، ومن خرج عن المشروعية فهو عند مخطئ خطأ منهجيا أصليا ينبغي له أولا وقبل أي أمر آخر أن يراجعه ويتراجع عنه. الحرية لا التحكم: كان رحمه الله مقدسا للحرية، وكان يعتبرها أحد أركان قوة الحركة والحزب، وكان يعتبر حفظ حرية الأعضاء في التعبير والاختيار من الحقوق الأصلية. ولهذا كان رحمه الله يقول مرارا ''علاش كتقمعو الأخ خليوه يعبر''، فكان بذلك يكره القمع والتحكم. التعاون لا الصراع: كان رحمه الله يحرص على التعاون على الخير مع كل الناس، وكان يكره الصراع والتنازع، ولا يمل من تكرار قوله تعالى: ''ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم'' في كل مرة وصله أو حضر لخلاف وصراع بين الأفراد أو الهيئات. والصراع عنده فكرة غربية المنشإ والثقافة، بعكس الأصل عند المسلمين الذي هو التعاون والتآزر. وبذلك كان يرفض أن يكون طرفا في أي صراع أو خلاف، في الدعوة كما في السياسة في الحركة كما الحزب، في البرلمان كما في الحكومة، وفي الوطن كما الأمة. العطاء والقيام بالواجب: ''علينا أن نتعامل مع المجتمع بهذا المنطق، بغرض الإصلاح، هكذا تكلم المرحوم، لا يمكن أن تصلح وأنت تحاول أن تأخذ بغير حساب، ولا يمكنك أن تصلح وأنت خاضع لمنطق المجتمع ولمطالبه. الإصلاح له منطق خاص لا يحابي، والعطاء هو بذل دون حساب، ومن أراد أن يأخذ فهو رهين لما أراده، وحينها يكون المصلح رهينة لما أخذ فيكون في فمه ماء، فما عساه يقول؟ وإن هو خضع للمجتمع ودخل في منطقه فماذا عساه أن يصلح؟ قواعد منهجية المنهج أكبر من الأشخاص: كان المرحوم متجردا مستقلا، لا يحابي أحدا كبر أم صغر، إذ المنهج عنده أكبر من الأشخاص مهما كانت مكانتهم عنده، وأذكر في هذا المقام قدرته الرهيبة على إطفاء قوة الأخ عبد الإله بنكيران حينما ينطلق وهو الكاسحة التي إن انطلقت فهي هادرة قوية جبارة، فإن تجاوز في أمر دون وجه حق لم يزد عليه وهو هادئ وجالس كجبل لا يتحرك: ''ما عندكش الحق آسي عبد الإله''، ويظل يعيدها حتى ينظر إليه الأخ عبد الإله بنكيران وكأنه جمرة حارقة أفرغت عليها ماء زلالا وهو يقول له ''حتى أنت آسي بها''. ذلك كان ديدنه مع الجميع لا يمنعه الحب والقرب والعشرة من أن يعدل في قوله، وأن يعبر عن ذلك بكل قوة ووضوح وهدوء. التدرج والتراكم: كان رحمه الله يرى أن الإصلاح لا ينتهي، ولا يمكن لمصلح أن يدعي يوما أنهه أكمل مهمة الإصلاح، فهذا الأخير عملية مستمرة وطويلة وتحتاج إلى صبر وإصرار وانتظام ودوام. كن جزءا من الحل ولا تكن جزءا من المشكلة: إنها إحدى القواعد الذهبية التي كان المرحوم يذكر ويعمل بها، فما كان المرحوم يوما جزءا من مشكلة، فإن بحثت عنه وسط المشاكل وجدته يحلها أويسهم في حلها بما استطاع. كان إيجابيا في نقده بناء، باحثا عن الأعذار متفهما لها، وما أغلظ القول يوما مع أحد اشتغل تحت مسؤوليته. المهم عنده أن تتقدم الأمور وتتحسن والباقي تفاصيل ما ينبغي لها أن تشوش عن المقاصد والغايات. لا للابتزاز ولا للاستفزاز: إنها إحدى أهم المعادلات ''الباهوية'' التي تضبط علاقته مع الآخرين في أي موقع وجدوا؛ لا نخضع للابتزاز ولا نستجيب للاستفزاز. لا نخضع للابتزاز فنتنازل ونرسخ منطق الغلبة والابتزاز، ولا نستجيب للاستفزاز فنخطأ الطريق ونغير المسار، فنكون بذلك قد حققنا مراد الآخرين وأهدافهم، ودخلنا في منطقهم، وتخلينا بذلك عن أهدافنا ومقاصدنا. لا تجزم ولا تطلق ولا تعمم: تلك القاعدة التي كان المرحوم يراجع بها ويدقق الوثائق كما المواقف، لا تجزم فتقطع طريق العودة أو المراجعة، ولا تطلق فتأخذ في يدك الأخضر واليابس، ولا تعمم فلكل قاعدة استثناء. على سبيل الختم مات الأخ الحبيب عبد الله بها، ولم يكن خطيبا مفوها، ولا قائدا ملهما، إذا حدث اختصر، ولم تكن له مبادرات خاصة به، لكنه مع ذلك كان دائم الحضور، ووافر الأثر، وما نقله الأستاذ محمد يتيم عن الأستاذ عبد الإله بنكيران صحيح حين قال هذا الأخير: ''لا تظنوا أن بها وراء كل الأفكار والمبادرات، إنني في الغالب أكون صاحب المبادرة والفكرة ، ولكنني لا أطمئن لها وأمضي فيها إلا بعد أن أعرضها عليه ويوافقني فيما ذهبت إليه''، لكن مع ذلك كيف لمسؤول أن يجد بسهولة موضع اطمئنان وميزان أمان، فلو لم يكن لسي بها من المزايا إلا هاته لكفته. وصحيح أيضا أن المرحوم كان وهو النائب في أغلب أيامه يعيش في ظل المسؤول، ومرد ذلك إلى قاعدة وضعها في وظيفة النيابة، وهو الخبير بها، حيث أجملها في قوله: ''أن تكون نائبا لمسؤول معناه أن تسنده في حضوره وأن تحسن تمثيله في غيابه''. مات الأخ عبد الله بها كما علمتم، بعد أن انتهى أجله وانتهى معه عمله، سنذكره أحيانا وننساه أحيانا أخرى، وتلك سنة الله في خلقه، لكن ما هو مؤكد أننا متى ذكرناه سنذكر فضله وسابقته وخيره، ومتى ذكرناه سنذكر بعضا من حكمه وقواعده. نسأل الله له الغفران والجنة، ونسأل الله لنا جميعا حسن الخاتمة.