قد ينظر البعض إلى ما أصبح يعرف ب"التشرميل" على أنه مجرد ظاهرة اجتماعية عابرة، ستأخذ وقتها قبل أن تصبح جملة أو فقرة في كتاب الظواهر السلوكية "الشاذة" التي لا يخلو منها مجتمع من المجتمعات..لكن الواقع ربما غير ذلك. فنحن لسنا أمام ظاهرة، بقدر ما نحن أمام حلقة في مسلسل متواصل منذ سنوات، إن لم نقل منذ عقود.. عنوانه الرئيسي "الظواهر الشاذة والمنفلتة" التي يتم التطبيع معها وتبريرها بدل التصدي لها ومواجهتها. ولهذا، فالمقاربة الأمنية الأخيرة التي انطلقت أصلا بعد فوات الأوان، لن تقضي على "الظاهرة"، بقدر ما ستدفعها إلى تعديل اتجاهها، بما أنها لن تعالج الأسباب والمسببات، وإنما ستكتفي بمواجهة بعض المظاهر الخارجية فقط. أقول إن التعامل الأمني انطلق بشكل متأخر، لأنه كان مطلوبا الحسم عند البدايات، وليس الانتظار إلى حين اتساع الخرق واستفحال الداء. ومع الأسف، فإن هذه المساحة أيضا لم تسلم من لعنة المزايدات والمناكفات والمماحكة السياسية.. ولذلك طبعها الارتجال والاستعراض.. ومخطئ من يعتقد أن "التشرميل" هو نبتة شيطانية ظهرت فجأة، بل هو تطور منطقي لمجموعة من الانحرافات السلوكية والاجتماعية التي تم غض الطرف عنها على مدى سنوات إلى أن أخذت الأشكال التي أصبحنا نراها حاليا.. إن نفس الفئات والشرائح التي تستعرض سكاكينها وسيوفها وغلات سرقاتها على صفحات مواقع التواصل الاجتماعي هي التي تمارس الشغب في ملاعب كرة القدم، وهي التي تخرب كل شيء تجده في طريقها دون مبرر أو سابق إنذار، وهي التي لا تتأخر في ممارسة قلة الأدب في الشارع العام، ولا عن إثارة الفوضى في التجمعات والمناسبات وحتى المهرجانات الفنية... عندما بدأت مظاهر الشغب في الملاعب الرياضية تأخذ منحى خطيرا في السنوات القليلة الماضية، كان المتوقع والمطلوب، الضرب بيد من حديد على أيدي المخربين والمشاغبين، لكن أصواتا ارتفعت للدعوة إلى غض الطرف عن هذه الممارسات، واعتبارها مجرد "تمرد مراهقين"، إلى أن حدثت "غزوة الخميس الأسود" بالدارالبيضاء، بل إلى أن تحولت المباريات الرياضية إلى بؤر للتخريب والنهب بشكل منهجي يصعب التحكم فيه.. فعندما نقلت وسائل الإعلام صور ذاك الشاب المراكشي الذي كسر عشرات المقاعد بشكل هستيري في المركب الجديد الذي اعتبره المغرب تحفة تستحق أن يفتخر بها المغاربة، سرعان ما طوي الملف..وعوض أن يكون هذا المنحرف عبرة لغيره.. اكتفت إدارة الملعب بإحصاء خسائرها، بل لقد نشرت الصحف ذات مرة أن لاعبا دوليا تنقل إلى محطة القطار بالعاصمة لاستقبال شباب مشاغبين عند عودتهم من الدارالبيضاء بعد قضاء عقوبة حبسية "خفيفة" على خلفية أعمال شغب وتخريب.. وعندما ضبطت جماعات تمارس طقوسا منحرفة تعارفت الأوساط الإعلامية على وصفها ب"عبادة الشيطان"، وجدنا من الصحف وأصحاب الأقلام من يدافع عن هذه الفئة على اعتبار أنها مجرد جماعة "فنانين شباب"، مع أن هذه الظاهرة ليست مغربية صرفة، بل هناك نماذج لانحرافاتها في مختلف بقاع المعمور..ومن لا يرى الشمس وراء الغربال فهو أعمى.. وعندما تواترت أخبار حفلات اللواط والانحراف الجنسي، بل وتم اعتقال شباب متلبسين بالجرم المشهود، ارتفعت أصوات البعض دفاعا عن "حرية شخصية" موهومة، وما زال السجال دائرا حول هذا الموضوع، رغم أن الانحراف الجنسي لم يعد حكرا على البالغين المتراضين، بل أصبح يلتهم يوميا أطفالا من مختلف الأعمار... وعندما أسيء لسمعة المغرب بسبب إقبال العديد من المغربيات على الدعارة العابرة للحدود، تحركت نفس الجهات لتحريف النقاش عن مساره الحقيقي، فبدل أن يتم استنكار هذا الانحراف، أصبحنا أمام احتجاج على الطريقة التي تتعامل بها دول الخليج والشرق الأوسط مع "عاملات الجنس المغربيات" (العاهرات حاشاكم)، بل لم تسلم حتى الأجهزة الأمنية المغربية من القصف الإعلامي فقط لأنها عملت على مداهمة بعض المقاهي والنوادي الليلة والفنادق لتوقيف القاصرات، حيث تجندت صحف بعينها لاتهام البوليس بتهديد "النشاط السياحي".. وعندما أصبحت السينما المغربية متخصصة في الترويج لأشكال الشذوذ والانحراف، دون أية لمسة فنية أو رسالة واضحة، قوبلت كل الانتقادات والتساؤلات المشروعة بهجوم مضاد كاسح تحت يافطة :"لا للسينما النظيفة".. وكأن المطلوب هو "السينما القذرة".. وعندما تجند الإعلام العمومي لتوجيه الرأي العام نحو إنتاج شخصية مغربية هجينة، هي عبارة عن خليط بلا ملامح، بل إن البرامج الشبابية خاصة في القناة الثانية، بذلت جهودا خرافية لتقديم صورة مشوهة، متحررة من كل القيم والضوابط، وكل ذلك تحت عنوان : "انخراط الشباب المغربي في العولمة" و"الانفتاح" و"التسامح" وكل المفاهيم الأخرى البراقة في الظاهر الفارغة من الداخل.. وعندما تخصصت بعض المهرجانات في جلب "الأيقونات" التي يفترض أن تكون المثل الأعلى للشباب المغربي، لاحظنا أن العينات التي تم الاقتصار عليها، تعاني جلها إن لم نقل كلها من انحرافات تؤهلها لأن تكون مادة دسمة لخبراء علم النفس من مختلف التخصصات.. إن الرابط الأساسي بين كل المظاهر أعلاه، هو أن أجيالا كاملة شحنت بشكل يجعلها تعيش على هامش المجتمع، وبدل أن تستغل طاقتها المتدفقة لتوفير الوقود لتنمية حقيقية ونهضة مدروسة، تحولت إلى قنابل موقوتة مهددة بالانفجار، بل إلى كائنات تعادي المجتمع على طريقة "الهجرة والتكفير"، لكن دون مسوغات دينية هذه المرة... لقد تعرضت أستاذة بإحدى ثانويات حي يعقوب المنصور بالرباط لاعتداء جسدي من طرف أحد تلاميذها، الشيء الذي دفع إدارة المؤسسة إلى طلب شرطة النجدة التي اعتقلت التلميذ المعتدي، وأخذت مسطرة المتابعة القضائية طريقها.. لكن إلحاح أسرة التلميذ وكثرة الوساطات، دفعت الأستاذة المعتدى عليها إلى التنازل عن حقها حتى لا يسجل عليها أنها كانت سببا في تخريب مستقبل مراهق متهور، لكن أياما قليلة بعد إطلاق سراحه وطي الملف، اعتقل مرة أخرى لكن في مدينة الدارالبيضاء على إثر مشاركته في "غزة الخميس الأسود" الشهيرة..فلبث في السجن بضعة شهور .. أسوق هذا المثال لأؤكد أن "ملة التشرميل واحدة"، فالذين يشاغبون في المدارس، هم الذين يخربون في الملاعب، هم الذين يهددون أمن المواطنين.. ولا يهمني هنا المقاربات التربوية ولا السيكولوجية ولا السوسيولوجية، لأن كل ذلك مجرد كلام يتحول إلى متاهات ونظريات قد يستغرق نقاشها سنوات وربما عقودا...وإنما يهمني، "الحملة الأمنية" التي حدد لها سقف زمني لوضع حد لظاهرة كادت تتحول إلى "مذهب" ينافس المذاهب التقليدية في مغرب الألفية الثالثة.. بداية، لا يمكن المرور مر الكرام، على حالة السرعة القصوى التي عرفتها مختلف الأجهزة المختصة بعد صدور التعليمات الملكية في الموضوع، وهي خطوة تثير في حد ذاتها عشرات الأسئلة وعلامات الاستفهام: هل من الضروري أن يتدخل ملك البلاد حتى تقوم الأجهزة الأمنية بعملها؟ هل نحن أمام حملة عابرة، أم أمام أسلوب جديد في العمل؟ هل نحن أمام مقاربة لا تفرق بين الصغائر والكبائر في مجال الانحراف أم هي مجرد "هوجة" ستنقضي بانقضاء مبرراتها؟ أطرح هذه التساؤلات، لأننا البلد الوحيد في العالم الذي يمكن فيه للدولة أن تنطلق في ثانية من حالة التوقف التام إلى وضع السرعة القصوى، وفق نظرية "الزيادة في العلم".. فقبل شهر أو أكثر، لو أن مواطنا اتصل بالشرطة لإخبارها بأن مجموعة من "المشرملين" يلعبون الكرة بعد منتصف الليل تحت نافذته، أو يستعملون مكبرات الصوت بجوار منزله، هل كانت ستتم الاستجابة لندائه؟ هذا هو السبب في تطور الأمور إلى استعراضات مسلحة على صفحات الفيسبوك، أي أن جيلا كاملا من قليلي الأدب الذين فشلت أسرهم في تربيتهم، واستسلمت المدرسة والمجتمع أمام انحرافهم..لم يجد الواحد منهم من يقرص أذنه لإعادته إلى جادة الصواب قبل فوات الأوان. لست من أنصار العقاب الجماعي، أو الحملات الأمنية العشوائية، فنحن في نهاية المطاف أمام مراهقين لم يجدوا من يرشدهم إلى الطريق الصحيح للاستفادة من طاقتهم وفائض حيويتهم.. كنت أتمنى مثلا، لو أنه بدل اشتغال الأجهزة والسلطة بنفي القيام بحلاقة بعض الرؤوس، أن يجبر هؤلاء المراهقون على قضاء أسبوع واحد في إحدى الثكنات العسكرية يخضعون خلاله لقليل من "البيزوطاج"..الذي يفتتح عادة ب"البول أزيرو"، أو بإحدى القرى المنسية في الأطلس حيث رحلة البحث عن الماء مثلا تتطلب يوما أو بعض يوم، وحيث لا هواتف ولا فيسبوك ولا "دريات".. لقد برر كثير من الذين تم اعتقالهم واستجوابهم اعتناقهم ل"مذهب" التشرميل، بأنهم سعوا فقط للفت انتباه "الدريات"، وهذه في حد ذاتها مسألة تحتاج إلى تعميق البحث، لأننا فعلا أمام خلل اجتماعي غير مسبوق.. فقد جرت العادة أن تلهث الفتيات خلف الأغنياء، أو نجوم الفن والرياضة، أو حتى وراء أفراد الجالية، أو السياح الأجانب، خاصة الخليجيين منهم، لكن أن ينحدر ذوق الفتاة المغربية إلى هذا الدرك، فنحن في حاجة فعلا إلى تحليل نفسي ودراسات اجتماعية لفهم أسباب ومبررات هذا الانقلاب.. لن تنفع هنا نظرية أمير الشعراء شوقي :"وللناس في ما يعشقون مذاهب"، فأياً كان نوع الحرمان ومهما كانت عقد النقص التي تعاني منها الفتاة، هل هناك مبرر لأن تكون معجبة بمراهق حول رأسه إلى خريطة ل"أرخبيل"، ويحمل سكينا أطول منه مع أننا لسنا في زمن عنترة وكليب والمهلهل، أو يفخر بما اقترفه من جرائم، وكأننا أمام بعث جديد لزمن الصعاليك؟ * قصة يمكن أن توضح جزء مما سبق: تداولت بعض صفحات الفيسبوك خبرا لا أدري مدى صحته، يتعلق بكون التلاميذ في اليابان لا يخضعون لأي نوع من الحراسة خلال الامتحانات.. ما غاب عن هواة المقارنة، أن التلميذ الياباني يجتهد ليتعلم ولا يقبل الغش ولا يستعمله، كما أن الأسرة اليابانية لا تحرض أبناءها على "النقيل"، ولا تبرر تقاعسهم ولا تربيهم على الكسل، كما أن رجل التعليم الياباني لا يتعامل مع تلميذه ك"مصدر لدخل إضافي" ولا المدرسة تتعامل معه ك"زبون"..ولن تقبل محلات "الفطوكوبي" حتما في هذا البلد تصغير المقررات الدراسية للمساعدة على الغش، لأن أصحابها يدركون أن هذه الخطوة مهما بدت صغيرة إلا أنها قد تكون سببا - ضمن أسباب- لتخريب مستقبل الدولة التي تحولت إلى معجزة..