القاعة غاصَّة. فَوََّت علي تأخري وِجْدَانَ مقعد، ورؤيةََ الحاضرين يأتون تباعا، فرأيتهم جملة كأنما رُمِيَت بهم القاعة عن قوس واحدة. كلٌّ يريد أن يرى بعد طول غياب ويسمع جديد شيخ الفلسفة المغربية بل والعربية بلا مبالغة. فلسفة بناء الدليل والتعليل المنشئة للمعرفة، لا تفلسف التهويم والانطباعات المصَففة ولا تفلسفَ الترجمة الحاطبة بليل. الدكتور طه عبد الرحمن. شيخ العقل، إن صح القول. والقول والعقل لوغوس في آن. والميثوس؟ ولجتُ المدرج بهيئة أستاذ مبجل، حاملا محفظة، ورغم الاكتظاظ وتَوقُّفِ عديدٍ من الحاضرين قبْلِي لدى الباب، قررت المُضي قدما ولو اقتضى الأمر أن أقتعد إحدى درجات القاعة كدأب النواب الأمريكان في جلسات الأريحية الدستورية، حين تراهم مفترشين بلاط الكونجرس يتداولون مصائر قوم منا تحلقوا حول قِصاع البطنة المذهبة للفطنة يتوسطها جمل مشوي ألقى جرانه على كثيب رُزّْ. وأنا أنزل الدرجات أتلمس طريقي، أفاجأ بشخص لطيف يتقدم نحوي ويومئ إلي أن أستهدي به، ثم يريني مقعدا على مقربة من المنصة، مكتوبا عليه بالحرف البارز اسم السيد "محجوز". محجوز مَن؟ لو حجزني شيء ما أتيت. أو لِمن؟ لِي! في آخر التحليل ودون تعليل. ثم استدرت لأرى جمْعَ الذين حبسَهُم الحياء أو التردد أو هيبة المكان على حالهم لدى الباب. لقد حسبني المُنَظِّم دكتورا أو على سبيل "التَّدَكْتُرْ" وحتى من كانوا خلفي ربما من أصحاب المقاعد غير المحجوزة مثلَ مقعدي، ولم يدروا أنني لا هذا ولا ذاك، إنما حضرت هنا فقط من قبيل "اغدُ عالما أو متعلما أو مستمعا أو محبا ولا تكن الخامسة فتهلك!"** شيخ الفلاسفة جالس عن كثب، عليه سيماء تخلقٍ ما فتئ ينادي به، وحكمةٍ وشيخوخة بادية... شدتني شيخوخته وبثت في نفسي على الفور خشيةً وقلقا. عَقد من الزمن تصرم منذ آخر حضور لي حِصَصَه وأنا أظنها فقط بضعَ سنين. في البدء كان ذا تخصص رياضي صِرف يروم أن يصير به ربان طائرة. تعذر ذلك لكنه صار ربان فلسفة. ولئن كان ربان الطائرة يتبع خطوطا جوية رسمها غيره، فرباننا الفلسفي انزاح عن خطوط الفلسفة الترجمية المقلدة وشق لنفسه خطا مجددا، فصاغ قوانينه، وأبدع أدلته وأثل مفاهيمه لأن "من يملك أن يسمي الأشياء، يملك السلطان عليها". أصاب نيتشه في هاته... على سبيل المثال من ذا الذي يستطيع اليوم أن ينازعه إلا أن يكشف سوءته الفكرية، في قانون أن الأصل في الإنسان هو الأخلاقية وليس العقلانية كما ترسخ منذ ديكارت، وذلك لأن الحكم الأخلاقي يُسنَدُ إلى أي فعل من أفعال الإنسان حتى الفعل العقلي***. مثلا. ولماذا القلق؟ مكثت أتفرس شيخوخته فإذا بي يحضرني مشايخ المغرب الذين يقضون نحبهم تباعا وحاضر المغرب – على الأقل – لا ينتفع بهم كما ينبغي، بل كما لا تبغي له السياسات التعليمية والثقافية المتبعة ولا حتى وسائل الإعلام وهيئات التواصل المتاحة عموما لذوي أضغاث الفهم والمعرفة والسياسة والفن...ولا إراداتنا الفاترة المرتهنة لليومي المسطح؟ لا ننتفع بهم لا اعتقادا لمن رأى رأيهم على واضحة من النظر، ولا انتقادا لمن خالفهم على واضحة من النقد والفكر لكنه لا يعْدَمُ أن يتفحص قناعاته في مرآة معكوسة. فكلٌّ يُؤخذ من كلامه ويُرد إلا صاحب الروض الشريف عليه صلاة الله وسلامه. كان يقول كلاما بيِّنا فصلا يحفظه من جلس إليه، ينشئ عملا لا جدلا. "صَمَمٌ إذاعي" إذن يلف حياة مشايخنا. وموتَهم أيضا. إلا إسقاطا لواجب إعلان نَعْيِهِم، مقتضبٍ موجز يليه إشهار عريض لمهرجان مُقدس. شيخ تلو شيخ من كل طيف، وعقوق لهم ذات اليمين وذات اليسار. أمة لا تعترف بالحضور إلا لذي سلطان وفقط. من حديثي عهدٍ بموتٍ، الفقيه وشيخ سوسيولجيا السياسة وأول رئيس حكومة مغربية يُعْتد برئاسته غداة الاستقلال المرحوم عبد الله ابراهيم. وقبله ببعيد مناضل العلماء وشيخ المناضلين وعالمهم المرحوم علال الفاسي صاحب مقاصد الشريعة الغراء ومكارمها وصاحب النقد الذاتي، فمن ينقد ذاته اليوم بل ومن يقلب دولة نفسه. أولا. كما قال الجيلاني. وهناك البداية... المرحوم محمد عابد الجابري شيخ نقد العقل العربي، من تعسَّل قبل وفاته بمحاولةٍ لتفسير القرآن وقضى في صمت كطول صمته في حياته. ونابغة العربية وشيخها تباعا لخضر غزال ومصطفى النجار. رحمهم الله. والإمام المربي بامتياز الأستاذ عبد السلام ياسين رحمه الله. غطى الكلام والمدادُ الذي أساله الناس حول مطلبه العدلي واختزالُه في معارضة سياسية قيسَتْ بمعارضة الأحزاب، على مطلبه الإحساني، وهو واسطة عقد فكره وبساط مشروعه التربوي الروحي وغايته ومنتهاه. وأن إلى ربك المنتهى. ومن الأحياء؟ شيخ التاريخ عبد الله العروي، مَن سمعناه يوما يوصى أن يغلق المثقف أحيانا عليه بابه وينسى التاريخ وعقوقَه وما تمخض عن صراعاته من أفكار ومفاهيم، حتى تلك التي صارت أصناما كالعلمانية والليبرالية وباقي المفاهيم، لأنها لم تكن لتتمخض لولا أن الناس اصطكوا بينهم، بل صكَّهُم "الحدث" التاريخي... ثم يقرأ القرآن، "فإن رنَّ فذاك وإن لم يَرنَّ..." وترك الأمر معلقا على ذمة كل فرد، تبرُّءا من كل إمَّعَة يجعل فكره المظروفَ مطية للتيه عن النص المقدس المؤسس تحت شعار تاريخانية تطوق فكرَه ابتداءً ولا تستثنيه. كان ذلك ختام محاضرة حول "السنة والإصلاح." كتابٌ في شكل رسالة إل مثقفة مغرَّبَة يدلها ولو بطريقة متأرجحة كيف تقرأ القرآن. والنجيب يفهم عن أستاذه. وشيخ المستقبليات والحرب الحضارية المهدي المنجرة الذي يكابد مرضه في صمت وإصمات. وشيخ اللسانيات وصاحب "الوسائط اللغوية" الأستاذ الأوراغي الذي تضاهي نظريته نظرية شومسكي أو ربما تتجاوزها، بناء وإعمالا وإثمارا. وشيوخ أكابر آخرون مغمورون مغبونون من كل الألوان و "لا يزال الناس بخير ما أخذوا العلم عن أكابرهم فإذا أخذوا عن أصاغرهم هلكوا" الأصاغر من ذوي شبق السياسة والنجومية في مسلسل الانتقال الديمقراطي السرمدي المغربي الذي لا ينتهي، في ليلة لا تنتهي في ساحة لا تنتهي. فقدت السياسة بهم بوصلتها ومعناها القيادي الهدائي – من هداية القوم وسياستهم لما فيه خيرهم – وصارت غايةً بما تتيحه من الحظوة والاقتيات من الضرائب والحصانة من المتابعة. لا رؤية ولا روية، مؤهلهم الوحيد تمرسٌ بشيطان تفاصيل الماكينة الحزبية النقابية تحت مسمى نضال القرب، ويتقدمون المشهد الآن كأن الأمر ليس مصير شعب في ظرف عصيب بل لوحةً تجريدية تجريبية، يمزجون ألوانها كيفما اتفق حتى إذا ماجت وآلت إلى السواد لسوء تقدير كمها وكيفها نادوا بالتحكيم. وليت شعري كيف لقوم لم يحلوا صراعاتهم الشخصية المغلفة بمفردات السياسة أن يحلوا مشاكل مجتمع يغوص في الكراهية والجريمة واغتصاب الطفولة؟ انتشلني من قلقي صوت شيخ الفلسفة المغربية الواثق وفقيهها، يدحض حجة إحدى أخوات العلمانية، عق عنها الفيلسوف باسم الدهرانية وخلاصتها ودعوى أصحابها أنه "بالإمكان إيجاد قديس لا يؤمن بالله ولا باليوم الآخر" كقديس ألبير كامي في رواية "الطاعون". قديس دنيوي؟ هل يصح بديهة قبل أي تفلسف؟ لكن شيخ الفلسفة كان مستأنفا بناء مشروعه واقفا في وجه من هرعوا إليه، أولَ الأمر، من ذراري العلمانيين المقلدين لحداثةِ غيرهم وقد اكتنفهم الخوف على "سلطتهم المعرفية"، يحاولون ثنيه عن مشروعه الفلسفي الأصيل بحجة أنه سيمد "الإسلاميين الظلاميين" بحجج عقلانية هي حكرُهم وحدَهم وكأن الفلسفة شأن من شؤون العصبية القبلية وليست إعمالا للنظر من أجل الوصول إلى الحق****. وما دروا أنه كان يدق عليهم جدران الخزان الذي حسبوه أوسع ما خلق. خزان النموذج الغربي للحداثة في دورتها الحضارية الآنية، الخانق للإنسان وأخلاقيته، العابر بالإنسان إلى ربع دوَابِّيَّته الخالي، الجاعلِ من الدَّوابية حَصرا أفقَ تقدم الإنسان وتقدميته. قلق آخر انتابني لدى ختم المحاضرة، وانفضاض الجمع إلى موائد الحلوى والعصير. هل سيعود الحكيم إلى كتبه ومقامه الزكي الصامت وتبقى الساحة مرتعا لكل ذي جَلَدٍ وفوران؟ هل يداوينا الصمت وتصَرُّمُ الزمان؟ للتواصل: [email protected] * في الأصل دعاء سيدنا عمر رضي الله عنه " اللهم أشكو إليك جَلَدَ الفاجر وعجز التقي" ** حديث نبوي شريف *** محور كتابه "سؤال الأخلاق" **** من مقدمة كتابه "تجديد المنهج في تقويم التراث"