كثيرا ما ينتابني إحساس عميق بأن الأموات يتحكمون في حياتنا أكثر من الأحياء، وإذا كان محمد بن عبد الله النبي الخاتم صلى الله عليه وسلم، قد تسلل نور هديه إلى قلوب يستحيل عدها وهز وجدان الإنسانية برمتها هزا ليكون للعالم قلب وضمير فوق نعمة العقل حتى تعلقت همته المادية بما وراء القمر من كواكب، ناهيك عن اهتداء البشرية إلى فنون من الحكم تسوس ولا تستعبد وتملك ولا تستعلي، تحفظ كرامة الآدمي ولو كان عربيا. ونعلم يقينا أن دوام الملك مرهون بسنن وثوابت معلومة من السياسة بالضرورة. إذا كان محمد صلى الله عليه وسلم تاجا على هامة أنبل الحضارات وإماما لبني الانسان حتى يسدل الستار على الدراما البشرية الدائرة وقائعها على كوكبنا العجوز، فإن المرأة التي مات وهو يوصي بها خيرا قد أنجبت بعده دررا مكنونة من كلا الجنسين ساهموا في تخفيف أعباء الحياة على أبنائها، يقول ماكيافيلي: 'إن القرئ الفطن يستدل من تاريخ روما على أن الدين نافع لقيادة الجيوش ومواساة الشعب وتشجيع الأخيار (كالعدالة والتنمية في المغرب)، وردع المفسدين'. دون أن يصل الردع إلى اتخاذ المحيطات المائي منها والرملي مقابر للمردوع.. وقد سبقه ابن خلدون المغربي بقرن من الزمان حين دون في مقدمته ما نص على أن العرب لا يحصل لهم الملك إلا بصبغة دينية مقررا أن الدعوة الدينية تزيد الدولة في أصلها قوة على قوة العصبية. ذلك ما أوحت لي به نتائج الانتخابات التشريعية في المغرب، التي تصدر قائمة الفائزين بها حزب العدالة والتنمية الذي عارك السياسة لعقود طويلة من الزمن، دون أن يستكين لعوامل الهزيمة والاندثار، وهي كثيرة ليس بالمعنى السياسي للكلمة، وإنما أيضا بالمعنى المادي كذلك، فالحياة الحزبية في المغرب شحيحة، ولا تغري منخرطيها بالعمل فيها، لا سيما إذا كان الأمر يتعلق بالعنزة السوداء التي تكلف صحبها ثمنا باهظا. وقد مكنت النتيجة التي حاز عليها العدالة والتنمية أمينه العام من الاضطلاع بمهمة تشكيل الحكومة، بعد أن كلفه الملك محمد السادس بذلك، وأعلن أنه يعتزم مشاورة الجميع لتكوين حكومة وحدة وطنية تستجيب لمتطلبات المرحلة، بما في ذلك مطالب حركة 20 فبراير التي لا تزال تتمسك بالنزول إلى الشارع للتظاهر من أجل إسقاط الفساد والمفسدين، وهو عنوان بارز لا شك أن قادة العدالة والتنمية، وأمينه العام يدركون خطورته البالغة ليس فقط على مستقبل الاستقرار في المغرب، بل وأهميته في الحكم على نجاح أي تجربة سياسية تريد أن تضيف الجديد للساحة السياسية المغربية والمغاربية والعربية والإسلامية. ويدرك كل من عايش المغاربة، وقرأ لقادة العدالة والتنمية وناقش قياداتهم، أنهم ليسوا من شريحة القوم التبع الذين يفعلون ما يؤمرون به، وإنما غالبيتهم من الأكاديميين المتمكنين من العلوم الدقيقة والشرعية، ويعلمون أن الانحناء لغير خالق الكون مذلة، ويؤمن غالبيتهم أن التعدي على آدمية الكيان البشري وإراقة دمه أعظم عند الله من هدم الكعبة، وأنهم سينطلقون في معالجة ملفات البطالة والجوع والألم الذي يعتصر عشرات الآلاف من المغاربة الذين ضاقت بهم سبل العيش الكريم، ويؤسسون الجامعات العلمية التي بها ترتقي الشعوب والمستشفيات التي تعالج أوجاع المغاربة وتداوي الفقير منهم قبل الغني. ليس المهم في السياسة المغربية، أن العدالة والتنمية ورواد المساجد ممن لا يحتاجون إلى الحراسات الشخصية، ويحرصون على السير على الأقدام للعمل أو للصلاة، أن يصلوا إلى الحكم وإلى الحصول على تأييد الناخب المغربي، الذي اختار الإسلام عنوة، وإنما الأهم هو كيف يمكن لقادة المغرب الجدد أن يأتوا بما لم يستطعه الأوائل في العدل وتصريف شؤون العامة من المغاربة، ليدرك المواطن العادي أن من يسوسه جزء منه، وأن الإعلام الذي يعكس عمل الحكومة، ينبض بمشاغل الناس وتطلعاتهم ولا يدبلج لهم الأفلام الرومنسية التركية أو المكسيكية كما لو أن المغرب الأقصى الذي ناطح ثقافات العالم برمته، ووقف صامدا أمام الزحف العثماني يوم كان يقودون امبراطورية انصاعت لها طواعية أقوام وبلدان متعددة، أصبح عاجزا عن الابداع والاضافة. واعلم رحمك صندوق الاقتراع، والخطاب للعدالة والتنمية، أن حال من يثق في الناخب كحال المضارب الذي يثق بالسوق المالية وتقلبات اليورو وتثعلب الدولار، يدخلها (السوق) العملاق بلمة لم يزدها الشيب إلا جمالا فمازالت به ومازال بها حتى يخرج إما وزيرا أولا وإما من أهل الصفة، فحذار من الناخب فإن المغرب الشقيق رفض الانتحار الجماعي وعافته السكتة الدماغية رغم أنه لا يملك بترولا ولا غازا لأن القصر لم يعلق السياسة على حبال المشانق، بل مقرط المغرب نفسه وثبر العدالة والتنمية وصابر عشريتين لينتقل رصيده من 7 مقاعد عام 1992 إلى 107 من مقاعد البرلمان عام 2011. من أسباب هذا الفوز الذي فاجأ العدالة والتنمية نفسه أنهار الدماء التي سالت في جميع الجملكيات العربية بحسب تعبير الدكتور منصف المرزوقي، والفشل الذريع الذي مني به التحالف في العراق/ ما أدى إلى رفع الفيتو عن الإسلاميين فتصدروا المشهد السياسي وتحولوا إلى عامل مهم في إخراج السياسة من غرفة الانعاش ونزع فتيل التوتر الاجتماعي والسياسي في المنطقة العربية برمتها كما هو مأمول. يقول الكاتب البريطاني روبيرت سكايدلسك: 'إن الحكومة تستطيع دائما تخفيض نفقاتها، لكنها لا تستطيع السيطرة على دخلها، وإذا ما أدى تخفيض إنفاق الحكومة إلى نقص في حجم مداخيل الضرائب'، فإني أخشى على العبادلة السبعة ومعهم بنكيران قد تضطرهم الرغبة الملحة في النجاح إلى التشدد مع المتهربين من دفع الضرائب، ولو كانوا من الأغنياء ومن غيرهم يتهربّ؟. إن من يتابع ما يحدث في الوطن العربي لا يمكن إلا أن تغمره المسرة بسبب نزاهة الانتخابات المغربية، وصدقيتها، وهي لبنة أخرى في بناء حياة ديمقراطية بلا حدود ومازانها وشفا بها صدور الكثيرين خارج المغرب هو أن الفائز كان مقموعا دائما ومضطهدا على الدوام، ومن أفضال الله على ابن آدم أنه يملك ذاكرة عظيمة للنسيان كما يقال. وهذه هدية الاقتصادي البريطاني الراحل جون ماينارد كينز إلى الحكومة المغربية المرتقبة برئاسة بنكيران: 'عليك أن تعتني جيدا بالبطالة وستعتني الميزانية بنفسها'، وذلك ليسجل المغرب سبقا معتبرا بترأس إسلامي لحكومة عربية فضلت الثورة الهادئة لطي صفحات مطلوب من المغاربة نسيانها باستثناء من تضرر بشكل مباشر وما أكثر المعذبين في الوطن العربي. إن من حسن حظ الإسلاميين المغاربة أن ليس لهم مجلس عسكري ينازعهم البقاء، وإن كان لهم همة يخاصمهم أينما يمموا وجوههم، وعلى الرغم من أن التاريخ عموما كما يقول كوليردج: هو ليس كالمشكاة في مؤخرة سفينة مبحرة ليلا في مدلهم المحيط، لا يكاد نورها يضيء غير قليل من المياه التي قطعنا دون أن تفصح المشكاة عن الكثير مما ينتظرنا في ظلمات اليم، وأن كانت النون الأخيرة في انتظار العبادلة الإسلاميين الذين أفرجت عنهم الثورات العربية. عادل الحامدي كاتب وإعلامي تونسي مقيم في بريطانيا العنوان الأصلي للمقال: العبادلة السبعة وبنكيران هل ينجحون فيما فشل فيه الآخرون؟