الأمر أهم من حجز تذكرة ذهاب إلى موسكو، وأكثر من انتصار في مقابلة لكرة القدم، وأوسع من رفع راية المغرب في كأس الأمم السنة المقبلة في روسيا. الأمر أبعد من ذلك بكثير. الملايين الذين نزلوا إلى الشوارع في كل المدن المغربية، بلا استثناء، ليلة السبت للاحتفال الجماعي بانتصار شباب المنتخب في أبيدجان، كانوا يبحثون عن ثلاثة أشياء، ووجدوها تلك الليلة. كانوا يبحثون عن إنجاز ولو رمزي.. إنجاز حقيقي وليس وهميا، يرونه أمامهم، ويلمسونه بأيديهم في بلاد عزت فيها الإنجازات، وحلت فيها الوعود بدل الأفعال.. الوعود التي لا تتحقق، ولا يعترف أصحابها بالفشل في كل القطاعات. الملايين الذين نزلوا إلى شوارع المملكة، من طنجة إلى لكويرة، كانوا متعطشين للفرح، لأنهم شعب مصاب بفقر الفرح في الدم.. فرح حقيقي نابع من القلب لأمة لها كل الإمكانات لتصير أفضل مما هي عليه الآن، لكن السياسة خذلتها، والنخبة أقعدتها، والإرادة خانتها، فصارت دولة تتسول الإعانات من دول الخليج كل عام، وتبحث كل سنة عن قروض وهبات لسد عجز الموازنة، وتبعث أبناءها وراء البحر للبحث عن لقمة العيش، ولا تخجل من الاعتراف بأن تحت سمائها 12 مليون إنسان يعيشون تحت خط الفقر بأقل من دولار في اليوم. الملايين الذين خرجوا إلى الشوارع يوم السبت حاملين الأعلام الوطنية، ورافعين رؤوسهم إلى السماء بالزغاريد والهتاف والأغاني والشعارات، كانوا يرددون في أعماقهم شعار أوباما الانتخابي: «نعم نستطيع yes we can».. نستطيع إنجاز وإنجاح مشروع وطني كبير، مثل مشروع التأهل إلى منافسات كأس العام لكرة القدم، في رياضة عالمية، بمعايير عالمية، وبإشراف عالمي. إنه حجز مقعد بين الكبار لدولة صغيرة مليئة بالمشاكل والأعطاب والاختلالات، لكنها، في الوقت نفسه، مليئة بالطاقات وبالشباب وبالأمل في تحسين وضع البلاد، وصورتها، ومكانتها بين الأمم. نعم إنها مجرد لعبة، لكنها لعبة كل ما فيها جدي، ويحتاج النصر فيها إلى جهد وإلى مال وكفاءات وعرق وذكاء وتنظيم وخطة واستراتيجية، وتعبئة واسعة للشعب لكي يعطي كيمياء خاصة وطاقة جبارة لأحد عشر لاعبا يخوضون مقابلة من 90 دقيقة. هذه هي الرسائل التي قرأتها يوم أمس وأنا أتفحص وجوه كل الأجيال التي خرجت إلى شوارع المدن المغربية تحتفي بالنصر، وتتخطى كل الحواجز والخطوط العمرية والطبقية والثقافية والإيديولوجية والسياسية بينها، لتصنع لحظة فرح جماعي نابع من القلب، لأفراد يشعرون بأنهم مجتمع، ومجتمع يشعر بأنه أمة، وأمة تشعر بأن لها مكانة بين الأمم، وبأنها توجد اليوم في المكان الخطأ والزمن الخطأ والظروف الخطأ… نحن بلاد لا تنتج شيئا تقريبا، ولا نصدر إلى الخارج سوى الفوسفاط، وهو هبة من السماء، والمهاجرين شرعيين وغير شرعيين، وهم هبة اليأس، لذلك، يحتاج المغاربة إلى الافتخار بشيء، بإسهام، بإنجاز خارج الحدود، يرفع رايتهم بين الأمم، ولا سبيل إلى ذلك اليوم إلا الرياضة التي خلقت لهذا الهدف النبيل. على الدولة والحكومة والبرلمان والأحزاب والنخب السياسية والإدارية أن يتأملوا درس التأهل إلى نهائيات كأس العام، وأن يُخرجوا من اللعبة القانون الأكثر جدية الذي ينطبق على جميع المشاريع، أكانت في الرياضة أو في الصناعة أو في التعليم أو في الدبلوماسية أو في البنيات الأساسية، أو في مجمل السياسات العمومية… الخلطة التي جعلت من طاجين الكرة المغربية ناجحا اليوم هي: مشروع أو حلم أو هدف كبير (التأهل إلى نهائيات كأس العام التي يتابعها العالم كله تقريبا في حالة المنتخب) هذا هو الشرط الأول للنجاح، أما الارتجال والتخبط والتجريب فلا تصنع بوصلة نحو المستقبل. الشرط الثاني هو البحث عن الكفاءة، عن الموهبة، عن الخبرة دون قيود ولا حدود (رئيس جامعة من أهل الاختصاص، مدرب أجنبي محترف، لاعبون موهوبون من الداخل والخارج يلعبون في فرق كبيرة تعطيهم خبرة وتجربة). الشرط الثالث هو المال عصب كل الحروب، وتوفير كل الإمكانيات المطلوبة لتحقيق الهدف. الشرط الرابع هو تعبئة الأمة، وإقناعها بمشروعية الهدف وصواب الطريق إليه، والتواصل الدائم معها إلى النهاية. الشرط الخامس هو ربط المسؤولية بالمحاسبة، ووضع تعاقدات واضحة فيها حقوق وواجبات لكل الأطراف. الشرط السادس هو احترام التخصصات، وترك كل واحد يقوم بعمله دون محاباة ولا تحكم ولا خرق لقانون التخصصات. الشرط السابع هو احترام المعايير الدولية، والانخراط في ثقافة العصر، وعدم الاختباء وراء خصوصيات مزعومة تنتهي بالبلاد إلى عزلة قاتلة… المنتخب اليوم يلعب بالقوانين ذاتها التي تعتمدها المنتخبات في ألمانيا وإنجلترا وأمريكا وروسيا وفرنسا وجنوب إفريقيا… كذلك يجب أن يلعب بالقوانين نفسها في السياسة والاقتصاد والاجتماع وإدارة الحكم… الخصوصيات في القميص والشعار والعلم والأسلوب، وليس في القواعد والضوابط وأصول اللعبة… ألم نقل إنها لعبة لكن كل ما فيها جدي.