في شهر ماي من العام 1974، كان للتو قد توفي علال الفاسي، الأمين العام لحزب الاستقلال، في بوخاريست عاصمة رومانيا، عندما استقبل الملك الراحل الحسن الثاني أعضاء اللجنة التنفيذية للحزب في قصره، لإبلاغهم تعازيه بشكل شخصي، في تصرف نادر في ذلك الوقت. وفي ذلك اللقاء، وجه الملك إلى قيادة «الاستقلال» عبارة حاسمة: «رحم الله السي علال الفاسي، والله يجعل البركة في السي بوستة». ففهمت قيادة الحزب أن الملك يزكي بوستة خليفة لعلال الفاسي، وبالفعل، سيتسلم الرجل قيادة حزب الميزان، وسيبقى على رأسه إلى سنة 1998، عندما تنحى ليخلفه عباس الفاسي. وفي تلك المرحلة، كانت للدولة يد طولى في تعيين زعماء الأحزاب السياسية، بل وصناعة الهيئات الحزبية بنفسها من أول لبنة إلى آخرها، لكن ذلك كان محصورا في الأحزاب التي كانت تسمى آنذاك «إدارية»، فيما لم تكن لديها السلطة نفسها على أحزاب المعارضة، أو التي كانت تبدي نوعا من المقاومة للتدخلات الخارجية، مثل حزب الاستقلال نفسه. لكن، لم يعد القصر، منذ رحيل الحسن الثاني، يستخدم هذه الطريقة لكي يوعز إلى قيادة حزبية معينة باختيار زعيم محدد، فقد طورت السلطات عمليات التوجيه والاختراق بشكل مستمر، بل ووسعت نفوذها ليشمل أحزابا كانت إلى وقت قريب تعتبر نفسها «محصنة إزاء أي تأثير خارجي». الاستقلال.. صناعة ثم تدمير حزب الاستقلال نفسه لم يسلم من الطرق الجديدة في صناعة الزعماء. ويعيش حميد شباط، الأمين العام الحالي للحزب، أوقاتا عصيبة الآن، تمثل دليلا بالنسبة إليه على أن السلطة «قررت القضاء عليه»، كما قال في ندوة صحافية عقدها وحيدا في الأسبوع الماضي بالرباط. بدأت قصة أفول نجم شباط بخطاب حزبي شهر دجنبر الماضي، أعلن فيه أن موريتانيا «أراض مغربية محضة»، وسرعان ما أصدرت وزارة الخارجية بيانا تنديديا بذلك، وبعث الملك برئيس الحكومة، عبد الإله بنكيران، إلى نواكشوط لمقابلة الرئيس الموريتاني لتبديد «سوء الفهم». وكانت أولى نتائج بلاغ الخارجية ثم رحلة بنكيران، أن أصبح شباط وحزبه خارج حسابات تشكيل الحكومة الجديدة التي كانت متعثرة حتى ذلك الوقت. ويقول قيادي كان مواليا لشباط حتى وقت قريب: «لقد فهمنا أن شباط قد انتهى». وبالفعل، ذلك ما حدث، فقد شكل مؤيده حمدي ولد الرشيد معارضة سريعة لكنها جارفة، أخذت منه نقابة الاتحاد العام للشغالين، ثم شرع شباط يحصي خسائره من الأنصار بشكل تدريجي، حتى لم يتبق بجانبه سوى حفنة من صغار المناضلين في مدينة فاس. وكان ذلك فقط الجزء الظاهر من المشكلة، لأن شباط أصبح على ما يبدو «ملاحقا» منذ أن أفسد مخططا للانقلاب على نتائج انتخابات 7 أكتوبر، ومال إلى بنكيران بدل الحلفاء الذين كان مطلوبا منه أن يتبعهم، حسب ما كشفه أخيرا. كان تولي شباط زعامة حزب الاستقلال عام 2012، موضع انتقاد باعتباره «مرشح جهات في السلطة»، ولم يتوقف جناح عبد الواحد الفاسي في كيل هذا الاتهام إليه حينها، لاسيما أن الخطة كانت وقتها، حسب ما فهمه قياديون بالحزب، أن يوضع في القيادة شخص يمتلك قدرات تمكنه من مواجهة عبد الإله بنكيران، أمين عام حزب العدالة والتنمية. لكن هذا ليس سوى جانب واحد من القصة، لأن مرشحا آخر سيظهر فجأة، وسيتحلق حوله الجميع «تحت تأثير ما»، حسب تعبير أحد المتتبعين. شباط قال إن الوزير المنتدب في الداخلية سابقا، الشرقي الضريس، «لديه دور في ما جرى»، كما أن قياديين كانوا موالين لشباط مقتنعون بأن السلطات كانت تعمل لإبعاد الرجل وطرح اسم نزار بركة دون كلل، وحشد الموالين له. وسيعلنها شباط: «بركة مرشح المخزن». بركة هذا الذي يشغل منصب رئيس المجلس الاقتصادي والاجتماعي، ظل، طيلة سنين، يبعد نفسه عن الصراعات داخل حزبه بدعوى أن منصبه يجبره على التحفظ، لكنه فجأة سيتخلى عن هذا العذر. وبشكل شبه رسمي، أصبح بركة هو المرشح الأقوى لزعامة حزب الاستقلال. وفي تصريح جديد لصحيفة «المساء»، أعلن شباط خلاصته السياسية: «على الدولة أن تشرع في تعيين الأمناء العامين للأحزاب بشكل مباشر». وما حدث لشباط بالضبط هو ما لخصه الباحث المغربي محمد ضريف عندما قال: «في المغرب غالبا ما يتم التعامل مع الأحزاب بمعيار مدى تمتعها برضى المخزن من عدمه، فرضى المخزن وحده يجعل من الحزب، بين عشية وضحاها، قوة كبرى، ويكفي أن يعتقد الناس أن المخزن تخلى عن رئيس الحزب ليبتعدوا عنه» (المجلة المغربية لعلم الاجتماع السياسي –عدد:5-1988-ص:94). الأحرار.. الرعاية الدائمة لليد الخفية في 2010، كان رئيس التجمع الوطني للأحرار هو مصطفى المنصوري. وكان قد تولى رئاسة الأحرار عام 2007، في أول اختبار ديمقراطي يعرفه هذا الحزب الذي أسسه أحمد عصمان بإيعاز من صهره الملك الحسن الثاني. لكن، فجأة، وفي خريف عام 2009، سيجد المنصوري نفسه في مواجهة تيار كبير يطلب تنحيه الفوري. لم يستطع المنصوري مواجهة المد الجارف لهذا التيار الذي قاده صلاح الدين مزوار، وبجانبه وزراء الحزب كافة، ولم يكن بوسعه أن يهاجم التيار كما يفعل شباط الآن مع بركة وباقي خصومه. لكن الكثيرين في التجمع الوطني للأحرار كانوا يعرفون أن هذا التيار تحركه «جهات» في السلطة. «ليس صعبا فهم أن مزوار كان يتحرك وفق توجيهات معينة في تلك المرحلة، فهو لم يكن شخصا مسيسا، ومع ذلك نهض فجأة وأسس تيارا ذا قوة كبيرة»، كما قال عضو في اللجنة المركزية للحزب بقي مواليا للمنصوري حتى نهاية المطاف. بدأت قصة الانهيار المفاجئ والسريع للمنصوري بعبارة تلفظ بها في اجتماع للمكتب السياسي كان يناقش عرضا للاندماج مع حزب الأصالة والمعاصرة الذي كان قد ولد للتو. كانت العبارة أن «الأحرار ليس حزبا للتفريط فيه لصالح أي كان». وفي ذلك الوقت، كان المنصوري يبدي ليونة إزاء حزب العدالة والتنمية، وشكل ذلك بالنسبة إلى جهات ما، توليفة متفجرة، وكان يجب قطع أسلاكها. سُربت المناقشات التي جرت في الاجتماع الداخلي إلى جهات في السلطة التي كانت أيضا ترعى حزب الأصالة والمعاصرة، ثم بدأت الحرب القصيرة في أكتوبر 2009، وانتهت في يناير 2010 بإعلان مزوار رئيسا للحزب. كان المنصوري يبدو كالعاجز في هذه المعركة، لأنه لم يكن يرغب في توسيع الخسائر، وقد أسر لمقربيه بأن «أجهزة في الدولة لم تعد تريده أن يبقى رئيسا للحزب»، وقد طلب من أنصاره القلائل أن يساندوا مزوار في المجلس الوطني بمراكش. ورغم أن الحزب لم يندمج في «البام» في مرحلة مزوار، فإنه تحول إلى ما يشبه ملحقة له، وكان عنصرا محوريا في تحالف الثمانية G8 عام 2011 لمواجهة حزب العدالة والتنمية، وهو الأمر الذي انتهى إلى الفشل. ومع ذلك، بقي مزوار رئيسا للحزب، وخرج إلى المعارضة بمعية حزب الأصالة والمعاصرة، قبل أن يعود للتحالف مع «البيجيدي» عام 2013 عقب خروج حزب الاستقلال من الحكومة، وظل على هذه الحال حتى 2016 عندما خسر الأحرار للمرة الثانية رهان الحصول على نتائج متقدمة، وأيضا أمل أن يحصد حزب الأصالة والمعاصرة المرتبة الأولى. وفي هذه الظروف، ستدور الدائرة على مزوار نفسه، ليصبح للسلطة مرشح آخر لقيادة الأحرار في مرحلة المفاوضات مع «البيجيدي»: عزيز أخنوش. مزوار سيقدم استقالته من الحزب بعد يومين من إعلان نتائج اقتراع 7 أكتوبر. «كانت تلك مفاجأة للجميع، لأن مزوار لم يكن يعتزم أن يستقيل بتاتا، لكنه فجأة طلب عقد اجتماع للمكتب السياسي، وكان من الواضح أن بعض أعضائه يعرفون بالأمر، وكانوا مستعدين له، وبمجرد ما أعلن استقالته، ابتسم بعضهم، فيما أولئك الذين لم يكن في علمهم شيء فقد كانوا يستفسرون عما يحدث»، كما يقول مقرب من مزوار طلب عدم الكشف عن هويته. ويضيف: «لاحقا، علمت أن جهة في السلطة طلبت من مزوار أن يتنحى لكي يكون أخنوش رئيسا للحزب، ولم تكن هذه الجهة وزارة الداخلية». سيغادر مزوار بشكل شبه نهائي العملية السياسية، رغم أن أخنوش وضعه في قائمة أعضاء المكتب السياسي الذي عينه في مؤتمر الجديدة شهر ماي الماضي. فهو لا يحضر اجتماعاته ولا حتى أنشطته. وعندما عاد أخنوش -الذي استقال من التجمع الوطني للأحرار، ووعد لاحقا بألا يترشح باسم أي حزب، ودعم بدلا عن ذلك مرشحا من حزب الأصالة والمعاصرة في دائرته بتافراوت- فقد فهم الجميع الرسالة. «كان يقال لنا إن أخنوش تريده سلطات عليا، ولم يكن بمقدور أحد أن يعترض، فقد كان كل شيء مهيأ لتقبل أن أخنوش رئيس تجمعي قح»، كما قال عضو في المجلس الوطني. الاتحاد الاشتراكي.. السلطة تخترق اليسار ليس هناك دائما رئيس تتخلى عنه الدولة، فيشرع الحزب في عملية تغييره، ففي أحيان أخرى، يكون للدولة مرشح مفضل، وذلك ما حدث في حزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية عام 2012، فقد كان السباق في الظاهر بين ثلاثة قياديين اتحاديين هم: فتح الله ولعلو، وإدريس لشكر، وأحمد الزيدي (لقي مصرعه لاحقا عام 2014 في حادث غرق في وادي الشراط). وعادة، لم تكن مؤتمرات هذا الحزب تكشف وجود تأثيرات خارجية من السلطة بشأن من ينبغي أن يكون كاتبا عاما للحزب، لكن، في هذه المرة، كان المشهد مختلفا. في تحقيق نشر بصحيفة «المساء» في فبراير 2013، يشهد مؤتمرون كثيرون على وجود تأثير من جهات في السلطة للتصويت لصالح لشكر. ومن هؤلاء مؤتمر يدعى البشير الغزوي، الذي قال: «اتصل مسؤول أمني كبير بوالدي وطلب منه أن يحث المؤتمرين، أنا وأخي ومؤتمري سيدي قاسم، على أن يصوتوا لفائدة إدريس لشكر. فأجابه أبي ساخرا: ‘‘يا إما هاد إدريس لشكر ولى معاكم فالبوليس، يا إما البوليس غادي يدخل معانا للاتحاد الاشتراكي''!». عبد العلي دومو، عضو الفريق البرلماني للحزب آنذاك (عضو حزب التقدم والاشتراكية حاليا)، قال بدوره: «لقد ثبت لدينا أن العديد من أجهزة الدولة، وفي طليعتها المديرية العامة للشؤون الداخلية، تدخلت للضغط على مناضلينا في تادلة وأزيلال والعرائش والصحراء ومراكش وغيرها من الفروع». محمد عامر أيضا، وكان قبلها وزيرا للجالية المقيمة في الخارج، قال إنه تلقى مكالمة صبيحة أحد أيام المؤتمر يقول فيها المتصل: «ألو السي عامر، صباح الخير، شوف آ السي عامر، إدريس لشكر هو اللي غادي يدوز، حافظوا على وحدة الحزب». كان المتصل هو إلياس العماري، عضو المكتب السياسي لحزب الأصالة والمعاصرة حينها. عامر قال أيضا إن العماري سبق وأن أخبره قبل المؤتمر بأن «اللي صالحين فهاد الوقت لقيادة الأحزاب ومواجهة الإسلاميين هم شباط في حزب الاستقلال، ولشكر في الاتحاد الاشتراكي، وبنشماش في الأصالة والمعاصرة». آخرون نسبوا التوجيهات إلى الشرقي الضريس، الوزير المنتدب في الداخلية، وفقا لإفادة دومو الذي ذكر أن عبد الوهاب بلفقيه أعلن لمؤتمرين من جهة الصحراء أن «الشرقي الضريس أخبره بأن سيدنا باغي لشكر». في نهاية المطاف، فاز لشكر بزعامة الاتحاد الاشتراكي، وتسبب ذلك في انشقاق مجموعة الزيدي، ثم تأسيس حزب جديد. وفي 2017، أعيد انتخابه مرة ثانية، رغم أن غالبية مؤيديه الكبار انفضوا من حوله، وشكلوا مجموعة العشرة التي قادها بلفقيه لمعارضة ترشحه، وكان يعتقد أن هذه المجموعة مسنودة من جهات في السلطة، لكنها لم تستطع تحقيق أي اختراق في الحزب، وهُمشت بشكل نهائي من مناصب القيادة. «البام».. رؤساء لا يصوت عليهم أعضاء الحزب!هناك حالة خاصة لكيفية تدخل السلطة لتغيير زعماء حزب باستمرار، هو حزب الأصالة والمعاصرة نفسه. فقد كان هذا الحزب، الذي نشأ برعاية السلطة نفسها، موضع تغييرات متتالية لرؤسائه، منذ حسن بنعدي الذي عين رئيسا مؤقتا، ورئيسه الموالي، محمد الشيخ بيد الله، الذي عين بإيعاز مراكز النفوذ نفسها التي شكلت الحزب، كما هو حال تنصيبه رئيسا لمجلس المستشارين، كما كان لتعيين مصطفى الباكوري أمينا عاما للحزب دلالة مفادها أن رؤساء هذا الحزب يعينون بطريقة لا يكون فيها لأعضاء الحزب وحتى قيادته أي دخل فيها، فهذا الرجل، الذي قيل إنه أعفي من منصب رئيس صندوق الإيداع والتدبير بسبب مشاركته في حفل بمقر الحزب خلال إعلان نتائج الانتخابات الجماعية لعام 2009، سيعن لاحقا مديرا لوكالة الطاقة الشمسية، وفي عام 2012، سيطرح اسمه لتولي قيادة «حزب الجرار»، وذلك ما حصل، رغم أن الرجل لم يكن يمتلك قبل ذلك بطاقة عضوية في الحزب. وبسبب النتائج المخيبة للآمال في الانتخابات الجماعية لعام 2015، تقرر فجأة التخلي عن الباكوري، في خطة لمواجهة «البيجيدي» وأمينه العام عبد الإله بنكيران، الذي لم يكن بروفايل الباكوري صالحا لمقاومة شراسته، فانتقل إلياس العماري من عمله المعتاد في الكواليس، إلى الواجهة بتنصيبه أمينا عاما للحزب بالتصفيق في يناير من عام 2016. بيد أن هذا التغيير لم يُجد نفعا في انتخابات 7 أكتوبر، وعندما تقرر تغيير دفة «رعاية السلطة» نحو حزب التجمع الوطني للأحرار ورئيسه الجديد عزيز أخنوش، كان العمر السياسي للعماري، المحاصر بضغط حراك الريف وبالانتقادات الموجهة لدعم السلطة له، قد انتهى، فقدم استقالته، أو طلب منه ذلك بالأحرى، كما تقول مصادر بالحزب، في شهر غشت الماضي، بعد عام ونصف فحسب من توليه الزعامة.