إنهم يريدون منا أن نكون أحزابا إدارية»، هذه العبارة لحميد شباط، الأمين العام لحزب الاستقلال، تفسّر من وجهة نظره، أسباب المعاناة التي يمر منها اليوم حزب الاستقلال وحزب العدالة والتنمية. وهي عبارة تعكس تصور الدولة للأحزاب، أو ما سماه يونس برادة، أستاذ العلوم السياسية، ب»السياسة الحزبية للملكية»، التي وضع أسسها الأولى الملك الحسن الثاني، والتي ترى في الأحزاب دعامة للملكية وليس شريكا في السلطة، وهو الملك الذي أبدع طرقا خاصة للتدخل في الحقل الحزبي من أجل فرض رؤيته، مرة عبر صناعة «الحزب الأغلبي»، وذلك بالتوازي مع «سياسة الاحتواء والاختراق»، التي اتبعها مع أحزاب الحركة الوطنية. الأحزاب في خدمة الملكية إذا كانت العلاقة بين الملكية وأحزاب الحركة الوطنية اتسمت بالسعي إلى التوافق، خلال حكم الملك محمد الخامس، فإن العلاقة في عهد الحسن الثاني اتسمت بالصراع والتنافس الحاد حول السلطة. ففي رأي حسن طارق، أستاذ العلوم السياسية، فإن الصراع بين الطرفين أخذ «بعدا حديا ينبني على تنازع بين المشروعيات»، حسم لصالح الملكية ب»إعلان دستور 1962»، ما أتاح لها الفرصة لكي تنخرط في بلورة «معالم سياسة حزبية، قائمة على دعم التعددية الحزبية لتكسير شوكة الحزب الوطني المهيمن، وعلى إنتاج ظاهرة الحزب الأغلبي»، الذي يؤسس عادة من طرف مقربين من القصر قبيل الانتخابات ليفوز بأغلبية المقاعد. يتماشى هذا التوجه مع الموقع الذي أعطته الملكية لنفسها في بنيان النظام السياسي، وهو موقع مركزي. وفي العلاقة مع الأحزاب، حددت الخطب الملكية محددين اثنين لسلوكها: الأول أنها فوق الصراع الحزبي، فالملك كما قال الحسن الثاني هو «فوق الجميع، وأب الجميع، وملجأ الجميع»، ويعني ذلك أنها محايدة وتفرض على نفسها ألا تتدخل في التنافس الحزبي. أما المرتكز الثاني، فهو الدور التحكيمي بين الفرقاء، وقد استند الحسن الثاني على هذه الوظيفة لتبرير الاختصاصات الواسعة التي منحها لنفسه في الدستور، علما أن دستور 1962 لم ينص صراحة على وظيفة التحكيم بين وظائف الملك واختصاصاته. وفي رأي يونس برادة، أستاذ العلوم السياسية ومؤلف كتاب: «وظيفة الحزب في النظام السياسي المغربي»، فإن دور الملك بصفته «الحكم الفاعل»، والذي يمنحه الدستور اختصاصات واسعة، معناه أن الملكية تمنح نفسها الحق في «تنحية كل من يتجاوز قواعد اللعب»، وهو ما يتماشي مع الحقيقة الساطعة فوق الأرض، حيث إن الملكية «تتحكم في تلابيب الحياة السياسية والدستورية». وهكذا، يتوارى الخطاب في مواجهة حقيقة السلطة، حيث تكشف الممارسة عن نقيضه، بحيث تجعل من الملكية «منخرطة مؤسساتيا في دائرة الصراع لوجودها أصلا في صميم السلطة السياسية». في هذا الإطار، يمكن فهم حرص الملكية على تأطير المجال الحزبي وضبطه، ضمن تصور واسع للسلطة، يضع الملكية في مركزها، بمبررات منها الشرعية الدينية والتاريخية والسياسية، ويمنحها القوة والقدرة على التأثير في الأحزاب السياسية لكي تكون في خدمتها، أي إن القبول بالحزب السياسي في فلك السلطة مرتبط بمدى خضوعه للفاعل الرئيس فيها، أي الملك. ووفق هذا التصور، يرى برادة أن وظيفة الحزب تتحول من «عمل يروم بلوغ السلطة السياسية كتوجه استراتيجي داخل المنظومة الديمقراطية، إلى مجرد دعامة للنظام لمواجهة التخلف الاقتصادي والاجتماعي، ومواكبة التحول السياسي ضمن توازنات النظام ورهاناته المحورية». أما وظيفتا التأطير والتنشئة، التي كانت دساتير الحسن الثاني تنص عليهما بالنسبة إلى الحزب والنقابة والجمعية، فليس من أجل السلطة، وإنما من أجل «سد الفراغ»، حتى لا تقع فريسة في يد أعداء الملكية. آليات التحكم كي يفرض الحسن الثاني رؤيته على الأحزاب، لجأ إلى آليتين للتدخل: الأولى تتمثل في صناعة «الحزب الأغلبي»، أو ما يسمى في عدد من الكتابات ب»الأحزاب الإدارية»، التي تأسست في مرات عدة من لدن مقربين من القصر؛ فيما تتمثل الثانية في تقنيات الاحتواء والاختراق التي استعملها مع أحزاب الحركة الوطنية. أولى تجارب الحزب الأغلبي، كانت في التجربة البرلمانية الأولى سنة 1963، حيث أقدم أحمد رضى اكديرة، المدير العام للديوان الملكي، بنفسه على إنشاء جبهة الدفاع عن المؤسسات الدستورية «الفيك»، بغرض الحيلولة دون فوز أحزاب الحركة الوطنية في أول انتخابات تشريعية عرفها المغرب، وقد استعمل اكديرة في سبيل ذلك، كل وسائل السلطة، من أجل تأسيس جبهته، بما في ذلك أحزاب صغيرة مثل الحركة الشعبية وحزب الشورى والاستقلال ونخبة محسوبة على القصر وأعيان البادية. ثم تكررت التجربة الثانية في حالة حزب التجمع الوطني للأحرار، الذي تأسس سنة 1978، من قبل صهر الحسن الثاني ووزيره الأول، أحمد عصمان، وعدد من وزراء حكومة 10 أكتوبر 1977، مثل مولاي أحمد العلوي، والطيب بن الشيخ، وعبدالكامل الرغاي، وعبدالقادر بنسليمان، وهو الحزب الذي لايزال قائما حتى اليوم، ويشتغل بالآليات نفسها ومن أجل الأهداف ذاتها، أي خدمة الملكية. ولم تختلف تجربة الاتحاد الدستوري عن التجارب السابقة، حيث أقدم المعطي بوعبيد، من موقعه كوزير أول سنة 1983 على عملية تأسيس الاتحاد الدستوري الذي سيحرز على أغلبية مطلقة في برلمان 1984. تتمثل الوظيفة الأساسية لحزب الأغلبي في دعم السياسة الملكية، وتوسيع قاعدتها الاجتماعية إلى النخب الإدارية والمالية والفلاحين والمقاولين والأعيان الطامحين في الوصول السهل إلى السلطة والثروة، ويبدو أنها بموقعها ذاك تأتمر، أيضا، بتعليمات الملك أو من يكلفه لهذه الغاية، من مستشاريه. وبعبارة حسن طارق، فإن هذه الأحزاب تعتبر «حرثا مباحا للدولة»، لذلك فالحزب الأغلبي هو في حقيقته «حزب عرضي»، معرض للتفكك والانهيار بسرعة بفعل تركيبته وهشاشته. من المواجهة إلى الاختراق أما آليات التحكم في أحزاب الحركة الوطنية، فقد كانت مختلفة. إذ في بداية حكم الحسن الثاني مزج بين المواجهة ومحاولة الاحتواء، لكن منذ منتصف السبعينيات، وبفعل تعدد الأخطار من داخل نظام حكمه، لجأ إلى خيار الاختراق بغرض الاحتواء، تماشيا مع التحولات الدولية. في رأي عبدالصمد بلكبير، قيادي يساري وأستاذ جامعي، فإن ما فعله الحسن الثاني يندرج في «إطار نظري أوسع، بات يصطلح عليه اليوم بالانقلاب الناعم، الذي يعيد إنتاج أوضاع السيطرة والهيمنة بدون مواجهة عنيفة»، مؤكدا أن هذا الأسلوب جربته «مراكز الإمبريالية العالمية في أوروبا الشرقية، وفي جنوب إفريقيا، وأعطى نتائج باهرة». ويرى بلكبير أن الحسن الثاني اقتنع منذ منتصف السبعينيات أنه «يمكن احتواء حزب الاتحاد الاشتراكي، بدل مواجهته»، وهي عملية تطلبت أن يكون للدولة رجالها داخل هذه الأحزاب، سواء تطلب الأمر زرعهم بداخلها، أو شراؤهم بواسطة الامتيازات، أو التغرير بهم بواسطة الجنس». و»بواسطة هؤلاء، يمكنها التأثير والتوجيه، دون حاجة إلى أسلوب القمع الذي كان متبعا في السابق»، ويؤكد بلكبير أن هذا الأسلوب كانت خيوطه لدى الحسن الثاني، لكن تنفيذه يقع على عاتق أجهزة ومؤسسات عديدة، تعمل في إطار تنافسي، ويصبّ ذلك كله في يد المايسترو». لكن حسن طارق، أستاذ العلوم السياسية، ينبّه إلى أن علاقة الحسن الثاني بقيادات أحزاب الحركة الوطنية كانت أبعد ما تكون عن القدرة على «التوجيه المباشر»، لأن هذه القيادات كانت تربطها بالحسن الثاني «علاقة معقدة بسبب أنها مجايلة له»، كما هو الحال بالنسبة إلى علال الفاسي وعبدالرحيم بوعبيد، فيها «جانب شخصي مباشر»، ولأنها كانت «متمسكة باستقلاليتها، وتعتد برأيها الخاص»، وتقود أحزاب «لها قاعدة مناضلة، فإن قدرة السلطة على اختراقها محدودة جدا». لكن هذا لا يمنع من التأثير فيها، حيث اعتمد النظام ثلاث قنوات لذلك. القناة الأولى، تتمثل في «رجال القصر داخل الأحزاب»، وهي «وضعية معينة»، يقول حسن طارق، «بعيدا عن التقدير الأخلاقي لها، هؤلاء ليسوا بياعة أو مجندون داخل أحزابهم، بل مكنتهم أحداث ووقائع وعلاقات معينة، من تمثل أدوار أقرب إلى الوساطة، أصبحوا معها مخاطبين مقبولين من قبل الحسن الثاني، وفي الوقت نفسه لهم تقدير واعتبار وسط المناضلين». القناة الثانية، كانت لمستشاري الملك، أمثال عبدالهادي بوطالب وإدريس السلاوي وأحمد بنسودة، الذين كانت تربطهم علاقة زمالة وصداقة مع قيادات هذه الأحزاب، وبعضها علاقات خاصة مثل التي كانت تربط بين إدريس السلاوي ومحمد الحبابي (قيادي اتحادي) مثلا، حيث يتمكن هؤلاء من الاطلاع على آراء ومواقف أحزاب الحركة الوطنية، وفي الوقت نفسه تتمكن الأحزاب من إيجاد مخاطبين لها داخل القصر. أما القناة الثالثة، فهي قناة إدريس البصري، الذي «كان حريصا على أن يكون له رجاله وسط قادة الأحزاب»، ويبدو أنه كان يترصد قيادات الصف الثاني، ويستعمل في ذلك أساليب «غير أخلاقية، مثل الأموال، الحماية الخاصة، التغاضي عن ملفات، التنجيح الانتخابي، تعيينات في مناصب، الريع الصغير (البقع)»، ومع لذلك يرى طارق أن «نسبة الاختراق كانت ضعيفة، مقارنة مع كائن اليوم». لكن يبدو أنه في بعض الحالات تجاوز التحكم في حزب معين إلى التدخل في اختيار القيادة الحزبية، إذ تعتبر واقعة اختيار عباس الفاسي أمينا عاما لحزب الاستقلال في مؤتمر استثنائي سنة 1998، خلفا لمحمد بوستة، حالة شهيرة في هذا السياق. فالفاسي قطع علاقته مع حزب الاستقلال في وقت مبكر، خاصة بعد التحاقه سفيرا للمغرب في تونس ثم فرنسا، حيث قضى نحو 20 سنة خارج المغرب، لكن بسبب الخلاف بين بوستة والحسن الثاني حول تشكيل حكومة التناوب الأولى سنة 1994، حول استوزار إدريس البصري، وبعد أن لجأ الحسن الثاني إلى عبدالرحمان اليوسفي بديل لبوستة، أقدم هذا الأخير على تقديم استقالته، والدعوة إلى مؤتمر استثنائي لحزب الاستقلال في سنة 1998. ويروي خالد الجامعي، عضو اللجنة التنفيذية للحزب حينها، أن مجلس رئاسة الحزب كان يتجه نحو تزكية امحمد الدويري، لخلافة بوستة، لكن فجأة تدخل الحسن الثاني وطلب من القيادة الاستقلالية اختيار شخص آخر لم يكن سوى عباس الفاسي، الذي تم استقدامه من فرنسا لكي يرأس حزب الاستقلال، بل استمر على رأسه ثلاث ولايات متتابعة