حسن طارق، برلماني وقيادي في الاتحاد الاشتراكي، يرى أن «عبد الرحيم بوعبيد لا يمكن أن يتكرر مرتين»، مستدركا أنه «لكل زمن رجاله»، لكن سحر بوعبيد يبقى في أنه «قاد حركة يسارية تقدمية وجماهيرية في ظروف صعبة جدا» في الوقت الذي تحولت فيه كثير من الحركات اليسارية في العالم العربي إلى أندية فكرية مغلقة. تلك الحركة التي يتغنى بها كثير من اليسار سواء كانوا اتحاديين أو من خارجه، لا زالت «تُمثل سلطة على المخيال الجماعي لليسار المغربي». في زمن بوعبيد أصبح الاتحاد الاشتراكي القوة السياسية الأولى، وفي عهده كذلك؛ أي في زمن السجون والمنافي والاختطاف، حافظ بوعبيد على الاتحاد كحركة قوية منظمة وضاربة في آفاق المجتمع المغربي ومؤسساته. «صورة الحزب القوي لم تكن سوى انعكاسا لصورة الزعيم القوي». من هنا، شكّل بوعبيد زعيما ملهما للحركة الاتحادية. صحيح أنه جاء بعده قيادي كبير، مثل: عبد الرحمن اليوسفي، لكن بوعبيد تميّز عن اليوسفي وآخرين بكونه «ظل في المغرب ولم يغادره»، يقول عبد الصمد بلكبير، قيادي يساري معروف. ويضيف قائلا: «لقد بقي بوعبيد متشبثا بالتربة الوطنية في كل شيء»، فهو من جهة لم «يراهن على الخارج لإحداث التغيير كما فعل بن بركة»، ومن جهة أخرى «لم يختر النضال في الخارج كما فعل آخرون»، في إشارة إلى اليوسفي والفقيه البصري وآخرين كُثر، اختاروا اللجوء هربا من قمع سنوات الرصاص. بقاء بوعبيد داخل المغرب قريبا من مناضلي حزبه، رغم القمع، مدافعا عنهم كمحام شهير في ردهات المحاكم وحاميا للاتحاديين وعوائلهم، جعله «قريبا من قلوب القواعد الحزبية التي رأت فيه صورة الأب»، بينما «جعل هو من منزله العائلي منزلا لكل الاتحاديين»، يضيف بلكبير. أما العنصر الآخر الذي يجعل الاتحاديين يكنّون له كل التبجيل إلى اليوم؛ فهي «نزاهته واستقامته الأخلاقية»، لم يثبت- يقول المعطي منجب- مؤرخ سياسي، أن «بوعبيد اغتنى خلال الأشهر التي كان فيها وزيرا للاقتصاد والمالية»، لقد «وضع الأسس الأولى للاقتصاد المغربي»، بل يمكن القول إنه «كان أب الاقتصاد الوطني»، لأنه هو الذي وضع أسس النمط الاقتصادي المعتمد إلى اليوم، ورغم ذلك لم «يراهن على تكوين ثروة شخصية كما فعل آخرون، بل بقي نزيها حتى أنه لم يكن يمتلك بيتا خاصا به»، إلا بعد سنوات من الاستقلال ولأسباب خارجة عن إرادته. صداقته للملوك لم تمنعه من قول «لا» نزاهة بوعبيد ووطنيته، وكذا قُربه من مناضلي الاتحاد؛ سمات ثلاث ترجع بدورها إلى الأسس الأولى التي صنعت شخصيته. فالانتماء الشعبي جعله يعيش احتكاكا نفسيا مع أبناء الأعيان خلال سنوات الدراسة في الابتدائي. احتكاك يحكيه في مذكراته، ويقول هو نفسه إنه عوّضه بالتفوق الدراسي وبالجدية، ثم سرعان ما وجد نفسه وهو ابن 15 سنة في قلب الحركة الوطنية، حيث «رضع الوطنية صغيرا»، يقول بلكبير، وتؤكد ذلك مواقفه وكونه كان أصغر الموقعين على وثيقة الاستقلال سنة 1944، التي اعتقل على إثرها قادة حزب الاستقلال. فقاد بوعبيد أول مظاهرة ضد الاستعمار، انتهت به في سجن لعلو، لكن يوم الإفراج عنه كان من ضمن الرموز التي استقبلها السلطان محمد الخامس. مارس مهنة المحاماة بعد حصوله على الإجازة في القانون من فرنسا، واستطاع بتكوينه القانوني والاقتصادي كذلك أن يفرض نفسه «رجل التوازنات» على الأطراف المتناقضة حينها. عبد الصمد بلكبير اعتبر أن مُساهمة بوعبيد في مفاوضات «إيكس ليبان» كانت بسبب أن فرنسا تشبثت به، كما تشبث به القصر الملكي، ناهيك عن اختيار حزب الاستقلال له ليكون ضمن فريقه المفاوض. هذا التوافق على شخص بوعبيد هو الذي سيجعل منه أول سفير للحركة الوطنية في فرنسا؛ معنى ذلك أنه كان مهندسا أساسيا لعملية الاستقلال التي تمت، إلى حد أنه أعاد صياغة بلاغ إعلان استقلال المغرب عن فرنسا في 16 نونبر 1955، الذي لم يكن يُشير صراحة إلى الإلغاء الضمني لمعاهدة الحماية. لكن بلكبير يقول إن دوره كان أساسيا كذلك في نسج العلاقات الاستراتيجية بين المغرب وفرنسا بعد الحصول على الاستقلال. وبذلك بنى بوعبيد نفوذه السياسي داخل حزب الاستقلال وفي الدولة ومع فرنسا، لكن كل الاتحاديين اليوم يحتفظون له بأنه وإن «اقترب كثيرا من السلطة إلى حد أنه كان صديقا حميما لمحمد الخامس، وكذلك للحسن الثاني، فإنه كان شجاعا لأنه كان يستطيع قلب الطاولة في اللحظة المناسبة». كان «يستطيع قول لا كبيرة حين يتطلب الأمر ذلك» يقول حسن طارق، الذي وصفه بأنه «كان يتمتع بالحكمة التي تمنحه القدرة على التبرير السياسي». القرب من السلطة ومعارضتها حصلت في أكثر من محطة سياسية في حياة بوعبيد. المعطي منجب أكد أنه حين أقال القصر حكومة عبد الله إبراهيم، ذهب إليه الحسن الثاني وكان حينها وليا للعهد يطلب منه أن يبقى في الحكومة التي ترأسها بنفسه، «لكن بوعبيد رفض»، وفسّر المعطي منجب هذا الموقف بأنه «التزام أخلاقي من بوعبيد تجاه حزبه». لم يمنعه قربه وصداقته لمحمد الخامس أو ولي عهده من رفض قبول وزير في حكومة برئاسة ولي العهد. وحين رأى أن ولي العهد حينها يتجه نحو التحالف مع الجيش والأمن على حساب الأحزاب السياسية، قال بوعبيد عبارته الشهيرة والراديكالية:»إن المغرب مهدد بنظام فاشستي»، وذلك بعد أيام قليلة من إقالة حكومة عبد الإله إبراهيم، وخلال أول تجمع انتخابي له في الرباط أثناء أول انتخابات جماعية في ماس 1960. ربح بوعبيد من تلك المواقف الجريئة حزبا قويا وحركة اتحادية جماهيرية. لقد سارع الحسن الثاني بعد وفاة والده نحو بناء نظام لعب فيه الجيش خلال الستينات وبداية السبعينات دورا محوريا، على حساب الأحزاب السياسية. لكن بوعبيد وقف له بالمرصاد، داخل التراب الوطني وليس من خارجه، بل إنه واجه نظام الحسن الثاني بالحزب وليس بالتحالف مع دول أجنبية. البعض يتساءل عن علاقة ما، سرّية كانت له بجنرالات في الجيش، لكن ذلك بقي غامضا إلى اليوم. أما الصدام العلني الوحيد بينه وبين الحسن الثاني وجها لوجه، فكان في قضية الوحدة الترابية في مؤتمر منظمة الوحدة الإفريقية بنيروبي في شتنبر سنة 1981، حين وافق الحسن الثاني على إجراء الاستفتاء حول الصحراء، لكن الاتحاد الاشتراكي رفض موقف الحسن الثاني، وضمّن موقفه بيانا تاريخيا، وقعه ثلاثة أعضاء في المكتب السياسي هم بوعبيد اليازغي والحبابي فقط؛ مما أدى إلى اعتقالهم وإهانتهم من قبل الحسن الثاني شخصيا، أما بوعبيد فحين قُدم أمام المحكمة فقد قال كلمته الشهيرة: «هذه المحاكمة سيكون لها تاريخ، فأنتم لكم الأمر، ونحن نقول: ربّ السجن أحب إلي من أن ألتزم الصمت وألا أقول رأيي في قضية مصيرية وطنية». ولم يكتف بوعبيد بذلك، فقد وقف قبل اعتقاله لأول مرة مع تنظيم إضراب عام شنته الكونفدرالية الديمقراطية للشغل في يونيو 1981. كان الإضراب في الظاهر ضد ارتفاع مضاعف عرفته أسعار السلع الأساسية، لكن في الجوهر –يقول المعطي منجب- كان الإضراب العام ضد سياسة الحسن الثاني في قضية الوحدة الترابية. معتدل سياسيا متشدد ثقافيا القدرة على الجمع بين القرب من السلطة وقول كلمة «لا» حين يتطلب الأمر ذلك، تجد تفسيرها –بحسب المعطي منجب- في التكوين الثقافي في شخصية بوعبيد، فهو «كان سياسيا ليبراليا اجتماعيا وطنيا»، «يبحث عن الحلول الوسطى، لكنه كان يرفض المساومات الرخيصة». يُقدر الظروف والإكراهات، لكن ليس على حساب قناعاته ومواقفه. بمعنى آخر، كان بوعبيد سياسيا براغماتيا، حامل فكرة ومشروع، جعل منه «شخصا معتدلا في السياسة، لكن راديكاليا في الثقافة» بحسب المعطي منجب، ويجد ذلك تفسيره في «التكوين الفرنسي القوي في شخصيته الفكرية والثقافية»، فهو «ابن الجمهورية الرابعة في فرنسا التي كانت للمؤسسة التشريعية الكلمة الأولى في صناعة القرار الفرنسي». لكن هناك عنصرا آخر صنع منه هذا الرجل الذي كان هو بوعبيد؛ يتعلق الأمر بتكوين الحركة الاتحادية نفسها التي كانت تمزج بين تيارات متعددة. فعلى مستوى الفكر كان الاتحاد تتنازعه مكونات وطنية، إما ذات توجه سلفي، أو ذات توجه حداثي اشتراكي، وثالثة ذات توجه قومي عربي؛ أما على المستوى السياسي فقد كان الاتحاد منقسما بين تيار يؤمن بالإصلاح التدريجي للأوضاع، بينما كان هناك تيارا آخر يؤمن بالعمل المسلح والانقلابات. وكان بوعبيد الذي قاد الاتحاد يستطيع الموازنة بين كل هذه التيارات على المستوى السياسي، وإن كان هو نفسه ليبراليا حداثيا على المستوى الفكري. القدرة على الجمع بين التناقضات داخل الحزب وخارجه، والتوفيق بين التيارات والمصالح، هي التي جعلت من بوعبيد رجل سياسة وكاريزما. فقدها الاتحاد بوفاته سنة 1992. استطاع بوعبيد أن يحافظ على وحدة الحزب في ظل سنوات الرصاص والقمع، يقول كثير من الاتحاديين، بينما «لم يستطع ذلك آخرون في وقت الرخاء». خرج من عمق الشعب، ليدخل بذكائه عمق العمل الوطني والسياسي المغربي. فبالرغم من وسطه العائلي الفقير وظروف والده، تمكن الطفل عبد الرحيم المزداد في 1922 بسلا، من ولوج مدرسة أبناء الأعيان بهذه المدينة التاريخية. وبسرعة أثار اهتمام نخبة المدينة بما يختزنه من ذكاء ونشاط وأسلوب في التعامل ينبئ عن مستقبل واعد. «خلال الفترة التي قضاها في الدراسة بمدرسة أبناء الأعيان بسلا، بدأ عبد الرحيم بوعبيد يشعر بالتفاوتات الاجتماعية»، يقول شارل أندريه جوليان في كتابه «المغرب في مواجهة الامبرياليات». لذلك كان «معجبا بالأفكار الشيوعية»، غير أنه بعد نقاش مع صديقيه جاك كريسا وأندريه مارتي، اختار الحفاظ على استقلاليته والنضال في صفوف حزب الاستقلال. اعتقل وهو شاب يافع في 31 يناير1944 ليقضي سنتين في السجن، وليطرد من سلك التعليم، ويمنع من الدراسة بكليات «بوردو» و «الجزائر». غير أن حزب الاستقلال، الذي زرع في الشاب عبد الرحيم بوعبيد القيمة الفكرية والنضالية التي يمكن أن تجدد قيم التنظيم، عمل على إرساله إلى باريس بصفته مسؤولا عن فرع الحزب بالعاصمة الفرنسية. وبهذه الصفة استكمل عبد الرحيم بوعبيد دراسته العليا في القانون بفرنسا، وبذلك انخرط في مسلسل الدفاع عن العمال والطلبة المغاربة، وكذلك الدفاع عن القضية الوطنية من أجل عودة الملك محمد الخامس، وأيضا من أجل بناء الدولة والمؤسسات من خلال مقاربة إصلاحية حقيقية. وتمكن، بفضل كاريزميته وجاذبيته، من استقطاب الرأي العام الفرنسي، وبخاصة الأوساط التقدمية والمثقفين وحتى شخصيات من عالم السياسة ومن الأرستقراطية الفرنسية لدعم القضية المغربية. فقد كان بوعبيد يدرك أن مصير المغرب لا يتحدد فقط في الرباط، ولكن يتحدد كذلك من خلال الحصول على دعم الرأي العام الفرنسي والأجنبي. وقد نجح في إقناع شخصيات كاثوليكية ويهودية وأساتذة مرموقين بجدوى التوقيع على نص أعده بنفسه، يحدد شروط استئناف الحوار بين فرنسا والوطنيين حول الإجراءات الفورية، التي يتعين اتخاذها بخصوص مستقبل المغرب. وقد سلمت هذه الوثيقة إلى مديرية شرق إفريقيا بوزارة الخارجية الفرنسية في شهر فبراير1946، ولم يكن سن عبد الرحيم بوعبيد يتجاوز آنذاك 24 عاما. وكانت تلك الوثيقة تقول صراحة إن نظام الحماية أصبح متجاوزا وأنه لا يمكن الخروج من الأزمة إلا من خلال مرافقة السياسة الفرنسية للمغرب بإصلاحات جوهرية، مثل: اعتماد حرية الصحافة وحرية الانتماء النقابي وحرية التجمع بالنسبة للفرنسيين والمغاربة، وبناء التنظيم الاقتصادي والاجتماعي والسياسي للمغرب وفق المبادئ الديمقراطية. ويذكر التاريخ لهذا الرجل أنه هو الذي جعل رئيس الحكومة الفرنسية مانديس فرانس يتراجع عن رفضه التفاوض مع الوطنيين، ورفضه استقبال وفد حزب الاستقلال الذي كان يتشكل منه إلى جانب امحمد بوستة وعمر بن عبد الجليل. وكانت كارزمية بوعبيد هي التي جعلت أوساط فرنسية مؤثرة في اتخاذ القرار، خاصة أنطوان بيناي، وزير الخارجية الفرنسية آنذاك يقرر لقاءه رفقة محمد الشرقاوي، قبل أن يقتنع بضرورة التعامل مباشرة معه.