تعيش الأحزاب المنحدرة من الحركة الوطنية اهتزازات تنظيمية حقيقية. يبدو الاتحاد الاشتراكي مقبلا على انشقاق تنظيمي جديد، نتيجة تفاعلات مؤتمره التاسع في سنة 2012، الذي وصل فيه إدريس لشكر إلى القيادة. أما حزب الاستقلال الذي لم يجرب الانشقاقات منذ سنة 1959، فقد خرج بدوره من مؤتمره الأخير ال16، الذي انتخب فيه أمينه العام الحالي، حميد شباط، مقصوص الجناح، بفعل تشكل تيار داخله رافض لنتائج المؤتمر الذي وضع على رأس الحزب فاعلا نقابيا لا ينحدر من العائلات الكبرى التي سيطرت على مقاليده منذ الاستقلال. الهزات التنظيمية التي يعيشها الحزبان باتت اليوم تطرح تساؤلات عميقة حول مستقبلهما السياسي، خاصة بعد قرار التنسيق مع حزب الأصالة والمعاصرة في المعارضة، وما إذا كان المغرب يشهد بداية نهاية ما تبقى من أحزاب الحركة الوطنية، وأنه بصدد ميلاد دورة حزبية جديدة. يرى المعطي منجب، أستاذ التاريخ المعاصر بجامعة محمد الخامس الرباط، أن فرضية بداية نهاية الحزبين، على ضوء حالة عدم الاستقرار التنظيمي داخلهما، قد تكون صحيحة، فكلاهما «يشهد اختفاء الجيل المؤسس»، حيث أصبح على رأس الحزبين شخصان ولدا في الخمسينات من القرن الماضي، كما أن القمع الذي مورس عليهما طيلة عقود كان له دور في «تآكل قوتهما». ثمة عامل ذاتي، إذن، يتعلق بالتغير الجيلي الذي أفضى إلى تغير في القيادة، وعامل خارجي يتعلق بطبيعة النظام السياسي الذي لا يقبل بوجود حزب قوي منافس له، كلاهما يقفان وراء حالة عدم الاستقرار التنظيمي، حسب منجب، الذي يضيف إليهما عامل «الخسارات السياسية» جراء المشاركة في حكومة التناوب والحكومات التالية، بدون القدرة على تطبيق برنامجهما الانتخابي. ثمة تفسير آخر في نظر بنيونس المرزوقي، أستاذ باحث في القانون العام بوجدة، يتعلق الأمر بسياقين؛ الأول عام يتعلق بتراجع الخطاب «الوطني الديمقراطي»، واستغلاله سياسيا وحزبيا من قبل الأحزاب المنحدرة من الحركة الوطنية، وهو خطاب لم يعد مغريا للأجيال الصاعدة، التي تتوق إلى أفق ديمقراطي تحترم فيه الحقوق والحريات. وسياق خاص مرتبط بمؤتمرات هذه الأحزاب التي لم تبلور بعد تقاليد ديمقراطية داخلها، ما جعل ما يقع داخلها من اهتزازات تنظيمية مجرد ردود أفعال شخصية، لا سياسية، على نتائج تلك المؤتمرات. يشير المرزوقي في هذا الصدد إلى عامل آخر يقف وراء تراجع قوة الحزبين معا، ويتعلق بضعف القدرة على التكيف مع الديمقراطية، وبالتالي، ضعف القدرة على استدماج القيم الجديدة داخلها، مثل الحرية والنقد والقدرة على إدارة الاختلاف داخل الحزب، الأمر الذي يجعل من تبني مطلب فتح الطريق أمام التيارات داخل الاتحاد الاشتراكي، مثلا، عملية صعبة. كان متوقعا أن تلجأ أحزاب الحركة الوطنية المتبقية إلى الديمقراطية والقيم المرتبطة بها، كخيار استراتيجي في عملها، تعوض بها «تآكل الإيديولوجيا الوطنية التي صاغت بها هويتها منذ الاستقلال»، لكن ظهر من خلال تجربة الاتحاد الاشتراكي، منذ المؤتمر السادس سنة 2001، أن صعوبة كبيرة، ربما ثقافية وقيمية، تحول دون ذلك. لكن لا يتعلق الأمر بصعوبات ذاتية فقط، بقدر ما يتعلق كذلك باستراتيجيات وتكتيكات فاعلين آخرين، حيث يرى المرزوقي أن جهات تسعى إلى إضعاف حزبي الاتحاد الاشتراكي والاستقلال كي يصبحا حزبين صغيرين، وذلك لتمهيد الطريق أمام حزب الأصالة والمعاصرة لقيادة الحكومة في الانتخابات المقبلة، وهو تصور يقوم على إيجاد «تحالف يقوده حزب قوي وراءه أحزاب ضعيفة»، مثلما هو عليه الحال في التحالف الحكومي الحالي بقيادة حزب العدالة والتنمية. لكن يبدو هذا المخرج تكتيكيا وانتخابي فقط، لأنه لا يعالج الأزمة في عمقها، ويعمل فقط على توظيف حزبين تاريخيين في ترقيع الفراغ الحزبي الذي خلفته عملية التحجيم والإضعاف التي تعرضا لها، وإيجاد بديل مؤقت لحزب العدالة والتنمية، في إطار البحث الدائم عن التوازن السياسي بين القوى الفاعلة في البلد. أما المخرج الاستراتيجي من الأزمة، الذي يتمثل أساسا في توفير الظروف الجيدة لتقوية الوسائط السياسية بما هي أدوات الحكم والتعبئة والتأطير السياسي، خاصة في ظل وجود بدائل سياسية خارج المؤسسات، فغير متوفر حاليا. ويعني ذلك أن أزمة الفاعل الحزبي، كما تتجلى اليوم في ما يقع في حزبين كبيرين، أصبحت أزمة في علاقة الدولة بالمجتمع، وهو ما يمهد الطريق أمام دورة حزبية جديدة، لكنها لم تعبر عن نفسها بعد. هل انتهت أحزاب الحركة الوطنية؟ تتعرض الأحزاب المنحدرة من الحركة الوطنية لعملية تآكل حقيقية. يبدو هذا جليا بالنسبة إلى حزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية الذي يعيش تفككا متواصلا منذ سنة 2001، كما يبدو كذلك، وإن بشكل أقل حدة لكنه حقيقي، في حالة حزب الاستقلال، وبرز للعيان منذ صعود حميد شباط إلى أمانته العامة، ما أسفر عن انقسام لم يتوقف مفعوله بعد في جسد حزب علال الفاسي. ما يقع داخل الحزبين اليوم هو ما يدفع إلى التساؤل عما إذا كانت بداية نهاية ما تبقى من أحزاب الحركة الوطنية قد حانت. توصيف حالة الإشارة إلى «ما تبقى من أحزاب الحركة الوطنية» تعني أن ثمة أحزاب كانت تعتبر نفسها استمرارا للحركة الوطنية، لكنها انتهت إلى الاضمحلال، ويتعلق الأمر بحزب الاتحاد الوطني للقوات الشعبية وحزب الشورى والاستقلال، اللذين لم يعد لهما أي تأثير سياسي يذكر. عبد الرحيم العلام، الباحث في العلوم السياسية، نبه إلى أن الاتحاد الوطني للقوات الشعبية انتهى بعد «عملية تدمير خارجي» من قبل نظام الحسن الثاني، وهو الأمر الذي يختلف تماماً عن الكيفية التي يتفكك بها الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية الذي يتعرض «لعملية تدمير ذاتي»، حسب الباحث نفسه، الذي أكد أن عامل القمع الممنهج الذي مورس من قبل النظام السياسي ضد الأحزاب التي عارضته، كان له دور حاسم في المآل الذي انتهت إليه. قد يكون هذا صحيحا بدرجة ما، لكنه لا ينطبق على حالة حزب الشورى والاستقلال، الذي دخل مرحلة الاستقلال كقوة أساسية منافسة لحزب الاستقلال، وعاشا مواجهات مفتوحة شهدت القتل والاختطاف، ثم انحاز إلى خيارات الحسن الثاني في مرحلة لاحقة، ويمكن القول إن قوة حزب محمد بلحسن الوزاني اضمحلت في جلباب النظام وليس خارجه. غير أن المعطي منجب، أستاذ التاريخ المعاصر بجامعة محمد الخامس بالرباط، أكد بدوره أن عامل القمع كان له دور حاسم في «إنهاك الأحزاب السياسية»، حيث منعها من التطور الداخلي، الأمر الذي جعلها لاحقا «غير مستعدة للحكم بشكل جيد»، في ظل نظام «منحها الحكومة بدون مفاتيح الحكم»، يقول منجب في إشارة مباشرة إلى تجربة حكومة التناوب بقيادة عبد الرحمن اليوسفي. لكن لا يبدو أن القمع كان له دور بارز في «الاهتزازات التنظيمية» التي يعيشها الحزبان الرئيسان اليوم اللذان لهما ماض وطني: الاستقلال والاتحاد الاشتراكي. لقد ظل حزب الاستقلال حزبا متماسكا طيلة نصف قرن تقريبا، وكان الانشقاق الوحيد الذي تعرض له هو خروج بعض قياداته السياسية والمثقفة منه سنة 1959 لتأسيس الاتحاد الوطني للقوات الشعبية. ورغم الرجة التي عاناها حينها، فإن الحدث في جوهره منحه الفرصة لبناء حزب منسجم مع نفسه، حزب يميني محافظ. هذا الرأي يتبناه كذلك الباحث عبد الرحيم العلام الذي يعتبر أن حزب علال الفاسي «لم يحسم بعد في رؤيته الإيديولوجية إلا بعد حدث الانشقاق الذي تعرض له»، والذي كان الانشقاق الأول والأهم في تاريخه، إذ لم يتعرض بعدها لأي انشقاق رغم أنه عانى بدوره ضغوطا كبيرة خلال وجوده في المعارضة في الستينات مثلا. في المقابل، لم يكن القمع هو السبب الرئيس لميلاد الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية سنة 1975، بقدر ما يتعلق الأمر بعاملين؛ فشل حزبه الأم، الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، في تحقيق استراتيجية الثورة التي تبناها منذ سنة 1963، وعدم قدرة قادته، أمثال عبد الرحيم بوعبيد وعمر بنجلون، على التعايش مع المكونات المختلفة (الأطر السياسية، النقابيون، رجال المقاومة). وهذا العامل الأخير هو الذي دفع عبد الرحيم بوعبيد إلى تبني قرار الانفصال عن حزب عبد الله إبراهيم منذ سنة 1972، والتمهيد لتأسيس حزب جديد هو الاتحاد الاشتراكي برؤية وخط سياسي جديد يقوم على النضال الديمقراطي. صحيح أن الاتحاد الاشتراكي تعرض لانشقاق سنة 1981، إذ خرج منه حزب الطليعة الديمقراطي الاشتراكي، لكنه ظل متماسكا داخليا طيلة فترة معارضته لحكم الحسن الثاني، كما ظل الحزب الرئيس في المعارضة، بأذرع نقابية وحقوقية وإعلامية وثقافية قوية لم تتوفر لأي حزب سياسي آخر حتى اليوم. لم يبدأ الاتحاد الاشتراكي في التفكك إلا بعد وصوله إلى الحكم سنة 1998، ويلاحظ أن حزب الاستقلال عرف بدوره هزة تنظيمية صغيرة في الفترة نفسها، بخروج بعض أطره في اللجنة المركزية التي أسست حزب «الوحدة والديمقراطية» سنة 1999، أي أن أحزاب الحركة الوطنية المتبقية اليوم في الساحة لم تشهد التآكل التنظيمي سوى في حضن الحكم وليس حين كانت في المعارضة. وهو الوضع الذي يستدعي البحث عن الأسباب العميقة التي تقف وراء ذلك. ضمور الفكرة الوطنية نشأت الحركة الوطنية في سياق مقاومة الاستعمار، باعتبارها «حركة تحرر وطني»، على جدول أعمالها نقطة وحيدة هي تحقيق الاستقلال. ومن أجل تحقيق هدفها المتمثل في التحرر والاندماج الوطني، تبنت «الإيديولوجيا الوطنية»، التي تركز على الارتباط بالوطن كمجال جامع وموحد. ورغم الاختلافات السياسية والفكرية التي ظهرت بين أحزابها، ظلت فكرة الوطنية هي المرجعية المشتركة لتلك الأحزاب، وهي «اللحمة الإيديولوجية» التي تربط أعضاءها بعضهم ببعض، حسب المعطي منجب. اليوم تبدو تلك اللحمة في تآكل حقيقي، فهي «لم تعد مغرية للأجيال الصاعدة»، يقول بنيونس المرزوقي، أستاذ باحث في كلية الحقوق بوجدة. لقد قامت تلك الأحزاب على توظيف مبالغ فيه «للمشروعية التاريخية» و«للنضال الوطني ضد الاستعمار»، وأصبحت مصطلحات مثل: مقاوم، الكفاح الوطني، حزب وطني، الاستقلال… «منفرة سياسيا»، حسب المرزوقي، لأنها أضحت لعقود طويلة مجرد «عملة رائجة وفعالة لحسن التموقع» قريبا من السلطة أو النفوذ. ضمور الفكرة الوطنية حدث ليس فقط خارج الأحزاب السياسية المنحدرة من الحركة الوطنية، بل داخلها أيضاً، وأدى ذلك إلى تحولات في أجيال القيادة. يلاحظ المعطي منجب أن «جيل الحركة الوطنية في طور الانقراض»، وهكذا لم نعد في حزب الاستقلال، مثلا، أمام قادة من طينة علال الفاسي أو عبد الكريم غلاب أو العربي المساري، وغيرهم كثير، بل حدث بفعل «التغير الجيلي»، تحول عميق جعل قيادة الحزب تنتقل من يد العائلات الكبرى (الفاسي، بوستة، الدويري، غلاب…) إلى قيادات قادمة من العمل النقابي والشعبي، على رأسهم حميد شباط وعبد القادر الكيحل وآخرون. بمعنى آخر، إن ضمور الفكرة الوطنية تحقق مع اختفاء الجيل المؤسس الذي عاش في كنف الحركة الوطنية وشارك فيها، وبالتوازي مع صعود قيادات جديدة لا تتوفر على شرعية تاريخية، ولا على دعم العائلات الكبرى التي تحكمت في حزب الاستقلال لعقود طويلة، ولم تعد قادرة على ذلك اليوم، بل إن جزءا أساسيا من شرعية القيادات الجديدة يكمن في قدرتها على التصدي لحكم العائلات. وقد شهد الاتحاد الاشتراكي المسار نفسه، حيث عرف هذا الحزب استقرارا تنظيميا، فطالما كان على رأسه قادة تاريخيون أمثال عبد الرحيم بوعبيد ثم عبد الرحمان اليوسفي، لكن بعد أن غادر هذا الأخير الاتحاد الاشتراكي سنة 2003، وجد الحزب صعوبة كبيرة في تحقيق استقرار تنظيمي، حتى عندما لجأ إلى قادة مثل محمد اليازغي ثم عبد الواحد الراضي، اللذين ينتميان من الجيل الأول والمؤسس للحزب، قبل أن يلجأ إلى الجيل اللاحق، ممثلا في إدريس لشكر الذي يبدو أنه يريد إعادة بناء الحزب بعمليات قيصرية قاسية. يؤكد بنيونس المرزوقي أهمية العامل الجيلي، إذ يعتبر أن الاهتزازات التنظيمية التي يعانيها الاتحاد الاشتراكي والاستقلال هي بالأساس «محاولة للقطع مع حكم العائلات في الحزبين»، ففي حزب الاستقلال يريد الجيل الجديد القطع مع حكم عائلتي الفاسي وبوستة، وفي الاتحاد يريد القطع مع بقايا حكم عائلات بوعبيد وبلافريج وبنبركة (اليازغي صهر بلافريج). إضافة إلى تآكل اللحمة الإيديولوجية للحزبين، وصعود أجيال جديدة تنشد قيما جديدة، ثمة عامل ثالث أدى ويؤدي إلى تآكل ما تبقى من قوتهما، ويتعلق ب«الخسارات السياسية» التي تكبداها منذ وصولهما إلى الحكم. ولا يرجع ذلك إلى ضعف الحزبين بقدر ما يتعلق بطبيعة النظام السياسي. ثمة ملاحظة بهذا الخصوص أبداها المعطي منجب، وهي أنه لكي يكون الحزب قويا في المغرب يجب أن يظل في المعارضة، أما إذا وصل إلى الحكم فإنه يصبح ضعيفا. في الدول الديمقراطية، يتقوى الحزب في المعارضة لكنه قد يصبح أقوى بعد وصوله إلى الحكم، لسبب أساسي وهو أن الوصول إلى الحكم يعني بالفعل أنه يحكم. أما في المغرب فإن الأحزاب التي تصل إلى الحكم تضعف، لسبب رئيس وهو أنها لا تحكم، لأن مفاتيح الحكم تظل بيد الملك. حدث هذا للاتحاد الاشتراكي، الذي ظل طول تاريخه السياسي يرفع شعار الاشتراكية والعدالة الاجتماعية والحرية، لكنه عندما وصل إلى الحكم وجد نفسه مجبرا على قيادة عملية خوصصة أملاك استراتيجية في الدولة، كما وجد نفسه مجبرا على تأييد قرارات بمنع الصحف والتضييق على الحريات، أما العدالة الاجتماعية التي تشكل لحمة خطابه السياسي والفكري فلم يحقق منها شيئا يذكر. لقد «فقد وهج المعارضة، دون أن يتملك شرف الحكم»، يقول منجب. لبنيونس المرزوقي رأي آخر، إذ اعتبر أن الاتحاد الاشتراكي لم يأت به الحسن الثاني للحكم، بل أتى به لغرض أساسي آخر، يتعلق بضمان «الانتقال السلس للعرش» إلى ولي العهد والملك الحالي محمد السادس، وهو ما تحقق بفعل وجود الاتحاد في الحكومة، وعندما انتهى النظام من ذلك، ودع اليوسفي دون تردد، فما كان من هذا الأخير إلا أن استقال من العمل السياسي بعد محاضرته الشهيرة في بروكسيل سنة 2003. تحولات جارفة تبدو هذه العوامل الثلاثة موضوعية، أي لا دخل للأحزاب المعنية بها، فهي ليست مسؤولة عن تراجع الفكرة الوطنية في العالم كله، وليس في المغرب فقط، كما أن التغير الجيلي مسألة طبيعية، وإن كانت تلك الأحزاب تتحمل مسؤولية المشاركة في نظام سياسي مغلق، لا يريد أن يتنازل عن شيء من سلطاته للشعب، الذي وجدت هذه الأحزاب لتمثيله والدفاع عن إرادته. لكن تلك الأحزاب لم تستطع التكيف مع مقتضيات تلك التحولات، حيث لاتزال تعاني مشكل الديمقراطية الداخلية، وضعف القدرة على بلورة لحمة إيديولوجية جديدة، الأمر الذي جعل منها أحزابا بدون مشروع للحكم. تبرر هذه الأحزاب غياب الديمقراطية داخلها لعقود طويلة بظروف القمع والتضييق التي تعرضت لها. إذ طالما اعتبرت قياداتها أن الحياة في ظل القمع لا يمكن أن يسمح بتبني الديمقراطية. وقد تبنى الاتحاد الاشتراكي استراتيجية النضال الديمقراطي في مؤتمره الأول منذ سنة 1975، وظل عبد الرحيم بوعبيد على رأسه طيلة 17 عاما (1975- 1992)، كما تبنى حزب الاستقلال المبدأ الديمقراطي منذ بداية الاستقلال، وألف زعيمه علال الفاسي كتبا كثيرة حول ذلك الموضوع، ورغم ذلك ظل امحمد بوستة أمينا عاما له طيلة 25 عاما (1974-1998)، كما ظل عباس الفاسي على رأسه نحو 14 عاما. والمثير أن تلك الأحزاب التي ظلت تعتبر نفسها ديمقراطية، لم تدمج مبدأ التداول على قيادة الحزب إلا بعد أن اشترطت عليها وزارة الداخلية ذلك إذا هي رغبت في الحصول على التمويل الرسمي. لقد عاش العالم الموجة الديمقراطية الثالثة منذ انهيار حائط برلين والاتحاد السوفياتي، لكن الأحزاب التاريخية المغربية ظلت خارج «روح العصر» ذاك، حتى فرضت عليها وزارة الداخلية احترام قوانينها الأساسية والداخلية، بعد تضمينها مواعيد قارة للمؤتمر الوطني، ومنح القيادة المنتخبة ولايتين فقط على رأس الحزب. لذلك يعتبر المرزوقي أن «ضعف الممارسة الديمقراطية» هو السبب في الاهتزازات التنظيمية داخل الأحزاب السياسية. لقد اعتمدت هذه الأحزاب «طريقة في التدبير مبنية على المركزية أساسا، وذلك بسبب التأثر بتدبير الدولة لشؤونها»، الأمر الذي حال دون «تبلور أية تقاليد ديمقراطية». تتضح مما سبق قدرة النظام السياسي الكبيرة على التأثير في الأحزاب، ويعكس ذلك تصورا خاصا لوظيفة الحزب ودوره. في الدول الديمقراطية، يشكل الحزب المؤسسة التي تلعب دورا مهما في تجديد النظام السياسي، عبر آلية ديمقراطية حزبية تنعكس إيجابا على ديمقراطية الدولة. لكن في المغرب وقع ويقع العكس، فالدولة هي التي تؤثر في الحزب، سلبا وإيجابا. ويعكس ذلك في العمق أزمة الحزب السياسي، التي يعكسها حزبا الاتحاد الاشتراكي والاستقلال. قيم.. ووسائط جديدة لا تكمن أزمة أحزاب الحركة الوطنية المتبقية في مشكل الديمقراطية فحسب، ففي الوقت الذي تظهر ضعفا بارزا في قدرتها على التكيف، وتلجأ في تدبير خلافاتها إلى الفصل والطرد، ثمة تحولات أخرى تزيد من عمق أزمتها، وهي بروز قيم جديدة وصعود وسائط غير تقليدية. مثلا، عندما يهدد الكاتب الأول للاتحاد الاشتراكي، إدريس لشكر، بطرد قيادات قضت عمرها السياسي كاملا في الحزب، فإن ذلك لا يعكس ضعف احترام التقنيات الديمقراطية فحسب، بل يعكس ضعفا آخر يتجلى في عدم قدرة الحزب على التكيف مع «الغائيات الجديدة»، حسب تعبير المعطي منجب، الذي أوضح قائلا: «يبدو لي أن حرية العضو في الاتحاد الاشتراكي في نقد القيادة والتعبير عن الخلاف معها أقل بقليل مما هو موجود في حزب منافس كالعدالة والتنمية»، وأوضح: «لا يمكن لحزب أن يعارض اليوم قيم الحرية والنقد والفردانية داخله»، لأن تلك القيم أضحت روحا جديدة تسري في وجدان الأجيال الصاعدة، التي استفادت من التكنولوجيا الحديثة. وهكذا، ففي الوقت الذي تزعم أحزاب مثل الاتحاد الاشتراكي بأنها تؤمن بالتعددية وحرية النقد والتعبير والاختلاف، فهي لا تقبلها داخليا. هذا في الوقت الذي لم تعد تتوفر على «اللحمة الإيديولوجية» المولدة للحركة والنضال داخل صفوفها. وطبعا حين يغيب ذلك، تطغى المصالح الفردية التي تؤدي إلى الخلافات حول المنافع، وتتحول العلاقة بالحزب إلى «علاقة منفعة» فقط. أما في حزب الاستقلال، فقط ظلت العائلات الكبرى توفر، باسم التاريخ والنضال والوطنية، بعض اللحمة لمناضليها، وفي نظر عبد الرحيم العلام، فإن تراجع أثر نفوذ العائلات على الحزب سيفتح الباب تدريجيا أمام صراع المواقع والمصالح والمنافع، خصوصا أن «الذي قاد التغيير داخل الحزب هو الجناح النقابي فيه»، الذي تغلب عليه «العقلية الاحتجاجية والمطلبية». إن ضعف قدرة حزبي الاستقلال والاتحاد الاشتراكي على استدماج القيم الجديدة، بعد الفشل في تبني الديمقراطية، يجعلها على تناقض مع طموحات الأجيال الصاعدة، التي اختارت تبني موقف «العزوف الحزبي»، حسب عبد الرحيم العلام، الذي يرى أن الأجيال الجديدة، التي تجلت في شباب حركة 20 فبراير، على درجة عالية من التسييس، لكنها «اختارت ممارسة السياسة خارج المؤسسة الحزبية». العزوف عن المؤسسات الحزبية يعني إدارة الظهر للمؤسسات الوسيطة التقليدية (النقابة، الحزب…)، وهي مؤسسات لا يبدو أن الدولة الحديثة وفرت بديلا عنها للاتصال السياسي بالمجتمع. وإن كان الواقع في العالم كله يشهد أن المجتمعات أضحت أكثر ميلا نحو الوسائط الجديدة، أي المجتمع المدني والصحافة، وأساسا الإعلام الجديد ممثلا في الوسائط الاجتماعية مثل الفايسبوك والتويتر… في المغرب تبدو هذه الوسائط الجديدة أكثر تبنيا للقيم الجديدة من الأحزاب التقليدية، لذلك تشهد مشاركة أوسع للأجيال الجديدة، ويكفي في هذا الصدد الإشارة إلى الكيفية التي ظهرت بها حركة 20 فبراير، بل كل حركات الربيع العربي، التي اتخذت من الفايسبوك الفضاء الملائم لبلورة تصوراتها وتنسيق حركتها، قبل النزول إلى الميادين. لكن، هل يتصور وجود حياة سياسية من دون أحزاب؟ يبدو ذلك احتمالا بعيد الوقوع حاليا. مصير الاتحاد والاستقلال لا يتوقع أن تختفي أحزاب الحركة الوطنية تماماً، الاحتمال الأول الذي يرجحه بنيونس المرزوقي هو أن يتحول الاتحاد الاشتراكي والاستقلال إلى حزبين صغيرين، مستندا إلى قراءته للمشهد السياسي في أفق الانتخابات المقبلة، حيث يرى أن الدولة تعمل من أجل إيجاد بديل لحزب العدالة والتنمية، الذي يعتقد أن شعبيته تآكلت بسبب وجوده في الحكومة، وهذا البديل يتمثل، في نظره، في حزب الأصالة والمعاصرة، لكنها تريد معه أحزابا صغيرة تمنحه المشروعية اللازمة، بحيث يكون هناك «حزب قوي بأحزاب ضعيفة»، لأنه لا يمكن أن يكون هناك تحالف بثلاثة أحزاب قوية، ولهذا الغرض يعتقد أن ثمة جهة ما تعمل على إضعاف حزبي الاتحاد الاشتراكي والاستقلال حتى يصبحا طوع اليد التي تريدهما. لكن يبدو هذا المخرج تكتيكيا وانتخابيا فقط، لأنه لا يعالج الأزمة في عمقها، ويعمل فقط على توظيف حزبين تاريخيين في ترقيع الفراغ الحزبي الذي خلفته عملية التحجيم والإضعاف التي تعرضا لها، وإيجاد بديل مؤقت لحزب العدالة والتنمية في إطار البحث الدائم عن التوازن السياسي بين القوى الفاعلة في البلد. أما المخرج الاستراتيجي من الأزمة، الذي يتمثل أساسا في توفير الظروف الجيدة لتقوية الوسائط السياسية بما هي أدوات للحكم والتعبئة والتأطير السياسي، خاصة في ظل وجود بدائل سياسية خارج المؤسسات، فغير متوفر حاليا. ويعني ذلك أن أزمة الفاعل الحزبي تتعداه تدريجيا لكي تصبح أزمة في علاقة الدولة بالمجتمع، الأمر الذي يفرض عليها توفير الظروف لتبلور خيارات سياسية، حزبية ونقابية، حقيقية أمام الأجيال الصاعدة التي ترغب في ممارسة السياسة لكن بأدوات جديدة وغير تقليدية. الاتحاد الوطني.. موت سريري في الستينيات كان الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، سليل الحركة الوطنية، هو من كان يهز البلاد بنضالاته. اليوم، ومنذ انفصال الاتحاد الاشتراكي عنه سنة 1975، يبدو أنه في موت سريري طويل. تشكل هذا الحزب من قبل القواعد والبنيات التي اعتبرت أن حزب الاستقلال لم يُحسن إدارة معركة التحرر الوطني، وحاولت أن تنظم نفسها على شكل تيار واسع غير منظم أولا على شكل الجامعات المستقلة في حزب الاستقلال، مرورا بالجامعات المتحدة، وتتويجا بالإعلان عن الاتحاد الوطني، بقيادة المهدي بن بركة وعبد الله إبراهيم وعبد الرحمن اليوسفي والفقيه محمد البصري. وهكذا جمع الحزب في تكوينه بين ثلاثة مكونات (نقابة الاتحاد المغربي للشغل، أعضاء المقاومة وجيش التحرير، الأطر السياسية والمثقفة من مشارب ليبرالية واشتراكية وقومية)، وهي توجهات تعايشت مؤقتا داخل الحزب، قبل أن يؤدي الاختلاف فيما بينها إلى التشرذم، حيث انفصل المحجوب بن الصديق بالنقابة عن الحزب سنة 1961، فيما بحثت بعض الأطر السياسية، خاصة التي انحدرت من حزب الشورى والاستقلال عن مكان لها بجانب القصر. على إثر ذلك، خلا الحزب للأطر اليسارية، التي تبنت «الاختيار الثوري» كأسلوب في المواجهة السياسية، وهو اختيار فرض نفسه بعد إقالة حكومة عبد الله إبراهيم، وظهر بوضوح في موقف الحزب من دستور 1962، بحيث تحدث في بيان لجنته المركزية عن أنه نتاج ل»الحكم المطلق»، وطالب بهيئة منتخبة ومستقلة لوضع دستور ديمقراطي. كان ذلك إيذانا ببداية مواجهة مفتوحة مع نظام الحسن الثاني، طيلة فترة الستينيات حتى منتصف 1972، مواجهة استخدم فيها الحزب كل أذرعه الثلاثة: السياسية والنقابية (مكاتب نقابية انفصلت عن الاتحاد المغربي للشغل) والمسلحة (جيش التحرير)، تعرض خلالها قادة الحزب أمثال المهدي بن بركة وعمر بن جلون وعبد الرحمان اليوسفي وآخرين، يعدون بالمئات إلى أنواع مختلفة من التنكيل والتقتيل والاختطاف. استمرت هذه المواجهة حتى سنة 1972، لكن في المقابل كانت الخلافات تعتمل داخل الحزب بين التوجهات الثلاثة: السياسي الذي يريد توظيف النقابي، والنقابي الذي يريد الاستقلال عن السياسي، والتوجه الذي يتبني الخيار المسلح من أجل إحداث التغيير السياسي. وهو التعايش الذي توقف تماما بعد 1972، حين قرّر عبد الرحيم بوعبيد تأسيس الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية. أما الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، فقد بقي عبارة عن مجموعة صغيرة ملتفة حول عبد الله إبراهيم، قاطعت جميع العمليات الانتخابات منذ 1972. وفي السنة الموالية عقد مؤتمره الثالث من أجل ترميم نفسه بعد انشقاق تيار بوعبيد عنه، كما عقد مؤتمرا رابعا سنة 1983، وبقي على حاله دون أية مبادرة سياسية وغيرها حتى وفاة زعيمه سنة 2005، وقد حاول أن يعقد مؤتمرا آخر له سنة 2007، إلا أن الواقع يشير إلى أن هذا الحزب قد انحل تماما ولم تبق سوى مقراته شاهدة عليه.. حزب الاستقلال.. نهاية العائلة وانطلاق الشعبوية يعتبر حزب الاستقلال نفسه الوريث الحقيقي للحركة الوطنية، فزعيمه المؤسس، علال الفاسي، هو من قاد النضال السياسي ضد الاستعمار، كخيار بديل للمقاومة المسلحة. بهذه القناعة عاش حزب الاستقلال تقلباته إلى اليوم. تزعمته العائلات الكبرى بالأساس، خاصة من فاس، ثم سلا ومراكش وتطوان، فمنها تحديدا تنحدر عائلات الفاسي وبلافريج والعراقي والتازي وغلاب واليزيدي وبوستة والقادري وبن عبد الجليل والطريس وآخرين، ممن توارثوا الحزب منذ تأسيس كتلة العمل الوطني سنة 1934. قدّم حزب الاستقلال نفسه باعتباره الحزب الذي جاء بالاستقلال إلى المغرب، والذي أعاد الملك محمد الخامس إلى عرش أسلافه. أما بعد الاستقلال فقد قدّم نفسه كحليف موثوق به للمؤسسة الملكية، وحاول من وراء ذلك الهيمنة على المؤسسات الحيوية في البلاد، وإزاحة كل من يعترض طريقه ولو بالقوة، كما حدث مع الشورى والاستقلال. لكن استراتيجيته تلك ستتعرض لضربة قوية سنة 1959، حين وقع أول انشقاق به بخروج قياداته اليسارية منه وتأسيس الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، الذي عيّن رئيسه، عبد الله إبراهيم، على رأس الحكومة الرابعة أواخر 1958 حتى ماي 1960. رغم ذلك، وافق حزب الاستقلال على الانضمام إلى الحكومة الخامسة التي ترأسها محمد الخامس في يوليوز 1960، والتي كان من مهامها إعداد أول دستور للبلاد من قبل مجلس دستوري انتخب زعيم الحزب علال الفاسي لرئاسته، ثم الحكومة السادسة التي قادها الحسن الثاني (حين كان وليا للعهد). صوّت الحزب بنعم على دستور 1962، وانضم إلى الحكومة السابعة لكنه استقال منها في سنة 1963. انضم الحزب إلى الرافضين لحالة الاستثناء سنة 1965، وعارض دستور 1970، وانضم إلى «الكتلة الوطنية» سنة 1970 مع الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، لكن حدث الصحراء واستكمال الوحدة الترابية، دفعهما إلى التخفيف من حدة مواجهة نظام الحسن الثاني، والانخراط في معركة الوحدة الترابية، حيث إن زعيم الحزب مثلا، علال الفاسي، توفي سنة 1974، بينما كان في مهمة برومانيا تتعلق بقضية الصحراء. على إثر وفاة زعيم الحزب، عقد المؤتمر التاسع سنة 1974، الذي انتخب فيه امحمد بوستة أمينا عاما، وبقي على رأسه حتى سنة 1998. لقد انتقل الحزب من يد عائلة فاسية عريقة، هي عائلة علال الفاسي، إلى عائلة مراكشية عريقة كذلك، زيادة على علاقات المصاهرة التي تجمعهما. عُرفت عن بوستة مواجهته المستمرة لإدريس البصري، وحين تشكلت الكتلة الديمقراطية سنة 1992، حاول الحسن الثاني استمالة أحزابها إلى تشكيل حكومة، وقرر أن يتكلف بوستة برئاستها، لكن الأخير رفض بسبب إصرار الحسن الثاني على استمرار إدريس البصري وزيرا للداخلية بها. بسبب ذلك، وبعد موافقة أحزاب الكتلة على التصويت بنعم على دستور 1996، نظمت الانتخابات التشريعية لسنة 1997، وكانت المفاجأة أن حزب الاستقلال تلقى ضربة قوية دفعته إلى التصريح بأن تلك الانتخابات عرفت «انتهاكات صارخة لحرية الاختيار»، وشهدت «أخطر عمليات للتزوير منذ سنة 1963» استهدفت حزب الاستقلال «عقابا له على موقفه من فكرة التناوب سنة 1994». رغم ذلك، وافق الحزب على المشاركة في حكومة عبد الرحمن اليوسفي سنة 1998، إلا أنه عقب نتائج الانتخابات البرلمانية لسنة 2002 اعترض على تعيين اليوسفي مرة ثانية، ورفع عباس الفاسي، الذي انتخب أمينا عاما عقب بوستة سنة 1998 أيضا، شعار «مول النوبة»، إذ اعتبر أن حزب الاستقلال هو الأحق برئاسة الحكومة، ولجأ إلى استقطاب نواب برلمانيين رحل من أحزاب أخرى، لتصبح له الأغلبية البرلمانية أكبر من تلك التي حصل عليها الاتحاديون في تلك الانتخابات، وهو ما أدى إلى تعيين إدريس جطو وزيرا أول، بدل عبد الرحمان اليوسفي. وبينما كان الاتحاد الاشتراكي يتشرذم، كان حزب الاستقلال يستقطب الأعيان استعدادا للانتخابات الموالية، وهكذا استطاع بالفعل أن يحصل على المرتبة الأولى في الانتخابات التشريعية لسنة 2007، وكان أن عيّن الملك محمد السادس أمينه العام، عباس الفاسي، وزيرا أول، على اعتبار أنه الحزب الفائز فيها. لكن عباس لم يستكمل ولايته الحكومية بسبب الربيع العربي وحركة 20 فبراير، التي دفعت الدولة إلى تغيير الدستور، وإجراء انتخابات سابقة لأوانها سنة 2011، والتي فاز فيها حزب العدالة والتنمية. في شتنبر 2012، انعقد المؤتمر السادس عشر للحزب، حيث غادر عباس الفاسي حزب الاستقلال، بعد ثلاث ولايات متتالية على رأسه، لكنه ترك خلفه تصدعا بين اتجاهين؛ اتجاه عبد الواحد الفاسي الذي هو امتداد للعائلات الكبرى التي سيطرت على الحزب منذ تأسيسه، واتجاه نقابي وشبابي ونسائي صعد من الأسفل ويقوده حميد شباط، الذي استطاع لأول مرة الوصول إلى قيادة حزب الاستقلال. الاتحاد الاشتراكي.. لعنة الانشقاقات ظل الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية حزبا أساسيا في المشهد السياسي منذ تأسيسه سنة 1975. يصف نفسه بأنه حزب مغربي وطني ديمقراطي، تقدمي وحداثي، لقد أراد أن يكون ممثلا للتيار الحداثي والعلماني في المغرب. تعود جذوره إلى الحركة الوطنية المغربية، فقادته، أمثال عبد الرحيم بوعبيد والمهدي بنبركة وعبد الرحمان اليوسفي، من قادة الحركة الوطنية وجيش التحرير، انضموا إلى حزب الاستقلال مبكرا، وناضلوا من داخله سنوات ما بعد الاستقلال كذلك، قبل أن يقرروا الانشقاق عنه سنة 1959، حيث أسسوا الاتحاد الوطني للقوات الشعبية. تزعم قادة الاتحاد أول حكومة أواخر سنة 1958 برئاسة عبد الله إبراهيم، لكنهم استمروا فيها سنة ونصف السنة فقط، إذ أقيل رئيسها في ماي 1960 من قبل الملك محمد الخامس لأسباب وضغوط داخلية وخارجية، وكان ذلك بداية عهد جديد في العلاقة بين الطرفين، تميز بالصراع على السلطة، وأدى إلى ما يسمى اليوم بسنوات الرصاص، كان من ضحاياها المهدي بنبركة نفسه، وعدد كبير من قيادات الحزب. قاد الاتحاديون معركة طويلة ضد نظام الحسن الثاني، لكن بعد فشل المحاولتين الانقلابيتين من قبل الجيش سنتي 1971 و1972، ثم بروز ملف الصحراء، حدث تحول جديد داخل الاتحاد الوطني، تمثل في تغليب الخيار الديمقراطي على الخيار الثوري، ما أدى إلى انشقاق ترتب عليه تأسيس الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية سنة 1975، الذي اعتمد استراتيجية النضال الديمقراطي بقيادة عبد الرحيم بوعبيد. ورغم الانشقاق الذي تعرض له الاتحاد الاشتراكي بدوره سنة 1981، بعد انفصال من يسمون «رفاق الشهداء» الذين أسسوا حزب الطليعة الديمقراطي الاشتراكي، إلا أنه حافظ على قوته ونفوذه السياسي، وعلى تصدره المشهد السياسي كحزب معارض. وفي منتصف التسعينيات بدأت العلاقة بين الحزب والقصر في الانفراج، تلاه حوار سياسي أفضى إلى التصويت بنعم على دستور 1996، الأمر الذي مهّد لحكومة التناوب بقيادة عبد الرحمان اليوسفي (1998-2002). انعكست التجربة الحكومية سلبا على الحزب، ففي مؤتمره السادس سنة 2001 عرف انشقاقا قويا، خرج منه تياران مرة واحدة (المؤتمر الوطني الاتحادي وتيار الوفاء للديمقراطية)، ثم ما لبث أن وصل الانشقاق إلى مركزيته النقابية «الكونفدرالية الديمقراطية للشغل». وقد زاد من حدة الانشقاق وآثاره السلبية تعيين الملك محمد السادس الوزير الأول في الحكومة الموالية (2002-2007)، من خارج الأحزاب، دون مراعاة لنتائج الانتخابات التشريعية التي تصدر فيها الاتحاد المرتبة الأولى. كانت تلك ضربة قاصمة تلقاها الاتحاد من القصر، ترتبت عليها سنة 2003 استقالة عبد الرحمن اليوسفي من قيادة الحزب ومن الحياة السياسية عامة، الأمر الذي أدى إلى تعميق الأزمة داخله أكثر. وفي الانتخابات التشريعية 2007 حصل على نتائج أقل وضعته في المرتبة الرابعة بين الأحزاب السياسية الأولى في البلاد، وعاب الحزب طريقة تدبير كاتبه الأول حينها، محمد اليازغي، المشاركة في الحكومة، الأمر الذي خلّف صراعات انتهت باستقالته، ومهدت الطريق نحو مؤتمر 2008 الذي انتخب فيه خلفه عبد الواحد الراضي. رغم أن مرحلة الراضي مرت هادئة، خاصة بعد استوزار إدريس لشكر في حكومة عباس الفاسي الثانية، فإن تدهور الحزب في الحياة السياسية تواصل، حيث تراجع إلى المرتبة الخامسة في انتخابات 2011. وفي مؤتمره التاسع سنة 2012، الذي انتخب فيه إدريس لشكر كاتبا وطنيا، بدا أن الحزب يفقد ما تبقى له من وهج في نظر كثير من رموزه التي ابتعدت عنه. كان منتظرا أن يصلح لشكر ما أفسده الدهر السياسي في الحزب، لكن حدث العكس، إذ بدل أن يرص الحزب صفوفه ويستوعب خلافاته، ظهر أنه يتجه نحو التشرذم مرة أخرى، إذ يعتزم تيار «الانفتاح والديمقراطية»، بقيادة أحمد الزايدي، مواصلة العمل السياسي عبر تجربة حزبية أخرى. وبذلك تكون أغلبية نخب الحزب قد ابتعدت عنه، في الوقت الذي شرع الأعيان ومناضلون كانوا إلى الأمس القريب في الهامش يحتلون الصفوف الأمامية. التقدم والاشتراكية: من الشيوعية إلى الأعيان يعتبر حزب التقدم والاشتراكية امتدادا للحزب الشيوعي المغربي الذي تأسس سنة 1943، الذي أسسه بالدار البيضاء ليون سلطان كامتداد للحزب الشيوعي الفرنسي قبل أن يصل إلى قيادته، الشيوعيون المغاربة، وأبرزهم علي يعتة، وعبد السلام برقية، حيث خاضوا، إلى باقي امتدادات الحركة الوطنية، النضال ضد المستعمر، إلا أنه بعد مسيرة طويلة تعدت 70 عاما، يبدو أن هذا الحزب قد انتهى في أحضان الأعيان. في نظر مؤسسيه، أمثال إسماعيل العلوي، رئيس مجلس رئاسة الحزب حاليا، فإن التقدم والاشتراكية هو أول من أدخل الفكر والقيم الاشتراكية إلى المغرب، مثل فكر المساواة بين الجنسين، كما أنه كان سبّاقا إلى تكييف الفكر الشيوعي مع الواقع والتربة المغربية. علاقته بالنظام السياسي طبعها التوتر على الدوام، إذ تعرض للمنع سنة 1959 بقرار من حكومة عبد الله إبراهيم، بدعوى أن مبادئ الحزب تتعارض مع الإسلام، إذ أحيل القرار على المحكمة الابتدائية بالرباط، حيث كان بها قضاة فرنسيون اعتبروا من جهتهم أنه ليس هناك أي تعارض، ثم استأنفت الحكومة الحكم القضائي وتم المنع سنة 1961. لجأ الحزب إلى العمل السرّي إثر ذلك، ولم يشارك في الحياة السياسية التي انقسمت خلال الستينيات بين قوى ثورية تريد السلطة بأي ثمن، ونظام الحسن الثاني الذي استعمل كل وسائل القمع الممكنة للبقاء في الحكم. وخلال الانفراج الذي حدث بعد رفع حالة الاستثناء، سُمح للحزب بالظهور من جديد باسم حزب التحرر والاشتراكية سنة 1969، الذي قرّر تغيير اسمه سنة 1974 إلى التقدم والاشتراكية. حين اندلع مشكل الصحراء، أسهم علي يعتة بفاعلية في إقناع عدد من دول المعسكر الشرقي بالطرح المغربي. وعلى إثر ذلك، شارك الحزب في كل الانتخابات التشريعية، والتظاهرات السياسية التي طبعت المشهد السياسي، مثل الإضراب العام لسنة 1981 وغير ذلك، بحيث انحاز إلى ما يسمى ب»الصف الوطني»، وهو أحد الأحزاب الأربعة التي شكلت «الكتلة الديمقراطية» سنة 1992. ظل الحزب متماسكا في ظل رئاسة زعيمه المؤسس علي يعتة، حتى وفاته سنة 1996. ولم يُوفق الحزب في اختيار من يخلفه، بحيث حدث صراع بين إسماعيل العلوي والتهامي الخياري، الأمر الذي أدى إلى انشقاق هذا الأخير عنه وتأسيسه لحزب جبهة القوى الديمقراطية. انضم الحزب إلى حكومة التناوب بقيادة عبد الرحمان اليوسفي، وظل في كل الحكومات اللاحقة حتى الآن. لكن يلاحظ أنه في الوقت الذي تحول فيه حزب التقدم والاشتراكية إلى حزب نخبوي صرف، فقد نهج استراتيجية انتخابية تقوم على الأعيان، وبات مدينا في وجوده بالكامل، كفريق نيابي بمجلس النواب (باستثناء منتخبي اللائحة الوطنية)، إلى هذه الفئة الانتخابية. حزب الشورى والاستقلال: موت زعيم يساوي موت حزب ارتبط بروز واضمحلال حزب الشورى والاستقلال بشخص مؤسسه، محمد بلحسن الوزاني (1910-1978). تأسس هذا الحزب سنة 1946، كامتداد للحركة القومية التي انشقت عن كتلة العمل الوطني سنة 1937، بعد خلافات بين الوزاني وعلال الفاسي. حاول الحزب في منافسته الطويلة مع الاستقلال، أن يجلب النخب التي تلقت تكوينا عصريا،- على شاكلة أمينه العام، الذي يعتبر من أوائل خريجي العلوم السياسية بباريس-، التي تبنت مبكرا شعارات الديمقراطية والليبرالية. كان من أبرزهم عبد القادر بن جلون، والتهامي الوزاني، وعبد الهادي بوطالب، وأحمد بن سودة، ومحمد الشرقاوي، وغيرهم. سواء قبل الاستقلال أو في السنوات الأولى منه، حاول حزب الشورى والاستقلال أن يكون البديل الثاني لحزب الاستقلال، بحثا عن التوازن، حيث أسهم بسبب ذلك في «النضال السياسي». إذ شارك بوفد وازن في مفاوضات «إيكس ليبان»، أهلته فيما بعد للانضمام إلى الحكومة الأولى (1955) برئاسة مبارك البكاي، التي فاوضت من أجل استكمال الاستقلال، والتي شارك فيها بست حقائب، لكنه سرعان ما أُبعد عن الحكومة الثانية (1956) فتحول إلى المعارضة. كحزب معارض للحكومة، حاول الشورى والاستقلال لعب الدور الذي يفرضه عليه موقعه، فحاول تأليب الشعب على الحكومة وقراراتها، وعلى حزب الاستقلال خاصة، لكن في غياب تقاليد مؤسسية، تحول التنافس بين الحزبين إلى صراع دام، أي باغتيالات واعتقالات واسعة، وصلت إلى حد فرض أحكام استثنائية على تحركات الحزب وأعضائه، ومنع اجتماعاته ثم إغلاق جريدته (الرأي العام). رغم ذلك، ظل الحزب واقفا، إذ من موقع المعارضة وافق على رغبة الملك محمد الخامس بالتمثيل في المجلس الوطني الاستشاري سنة 1956، الذي ترأسه المهدي بن بركة باسم حزب الاستقلال، لكنه شارك فيه كقوة معارضة، ووصل مع خصمه إلى اتفاق لوقف النزاعات إلا أن الاقتتال استمر بينهما، الأمر الذي اضطره إلى تقديم شكوى إلى الملك محمد الخامس، كما يروي ذلك عبد الهادي بوطالب في كتابه «نصف قرن من السياسة». تحت ضغط المواجهة، بدت معالم انقسام وسط الحزب بين توجهين: ليبرالي ومحافظ، ومثال ذلك حدث داخل حزب الاستقلال أيضا. وحين انشق الجناح اليساري في حزب الاستقلال وأسس الاتحاد الوطني للقوات الشعبية بقيادة عبد الله إبراهيم والمهدي بن بركة، التحق بالحزب تيار معتبر في حزب الشورى والاستقلال يقوده عبد الهادي بوطالب وأحمد بن سودة والتهامي الوزاني. يروي بوطالب أن الحوار مع الجناح اليساري في حزب الاستقلال شارك فيه محمد بلحسن الوزاني كذلك، وكان مقررا أن ينضم حزب الشورى والاستقلال كاملا إلى الحزب الجديد، لكن الوزاني تراجع عن ذلك، وغيّر اسم حزبه. صار اسم الحزب الذي اختاره محمد بلحسن الوزاني منذ يناير 1960، حزب الدستور الديمقراطي، تأكيدا منه على مطلبه الذي رفعه رسميا في اجتماع للمجلس الوطني للحزب في شتنبر 1959، أي حاجة البلاد إلى «دستور ديمقراطي». وأصدر الحزب جريدة باسم «الدستور» زيادة في التأكيد. بعد إقالة حكومة عبد الله إبراهيم في ماي 1960، شكل الحسن الثاني (ولي العهد آنذاك) حكومة ترأسها بنفسه، وكان أن شارك فيها الحزب، وعين أمينه العام محمد بلحسن الوزاني في موقع وزير دولة، لكن موقفه كان حاسما من دستور 1962، الذي رفضه وطالب، على غرار الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، بهيئة مستقلة منتخبة، بعدما كان الوزاني قد انسحب من المجلس الدستوري الذي عينه الملك الحسن الثاني ووضع علال الفاسي على رأسه. لكن موقفه التقدمي من دستور 1962، لم يمنع الوزاني من الانخراط في جبهة الدفاع عن المؤسسات الدستورية (الفديك) بزعامة أحمد رضا اكديرة، والتي تأسست لإحداث توازن مع حزبي الاتحاد الوطني للقوات الشعبية والاستقلال، وفازت في أول انتخابات تشريعية سنة 1963. عارض الوزاني إقرار حالة الاستثناء التي فرضها الحسن الثاني، لكنه ظل إلى جانب السلطة، وفي الوقت الذي نوه فيه بعودة الحياة الدستورية بعد إقرار دستور 1970، وجّه نقدا قويا إلى دستور 1972 الذي رأى فيه «نكوصا» مقارنة بمكاسب دستور 62. أصيب الوزاني في حادث انقلاب الصخيرات 1971، حيث بترت يده اليمنى، وتعلم الكتابة باليد اليسرى، لكن دوره السياسي تراجع إلى الوراء، وقل كثيرا بعد وفاة زوجته سنة 1975، فيما توفي هو سنة 1978. استمر حزب الشورى والاستقلال بعده، لكن كحزب صغير لا يكاد يذكر له شأن منذ وفاة زعيمه.