هددت النقابات في المغرب في حال فشل الجولة الجديدة من الحوار الاجتماعي التي دعا إليها رئيس الوزراء إلى النزول إلى الشارع، بينما اعتبرت نقابة الاتحاد المغربي للشغل أنه لا يمكن الحديث عن حوار جدي خارج الوفاء بالالتزامات المقطوعة من قبل الحكومة، وفي الوقت الذي تجد فيه أغلب المركزيات النقابية الكبرى نفسها مطوقة بسبب مشاركة أحزابها في الحكومة، فإن اقتراب الموعد الانتخابي في 2012 يعجل من الاحتكام إلى سلطة الشارع، واللعب بآخر الأوراق للتنصل من ثقل الأداء الحكومي المعيب على أكثر من واجهة. من المحير جداً في الحالة المغربية أن تكون المركزيات النقابية تابعة بشكل مباشر أو غير مباشر للأحزاب السياسية، ما يمس جوهر قرارها النقابي، فهي من جهة الذراع التي يلجأ لها الحزب للنزول إلى الشارع في استعراض للقوة في حالات التوتر الاجتماعي، وهي من جهة ثانية القوة الضاربة في الحزب، والتي تتدخل في الوقت المناسب من أجل فرض الانضباط وإمالة هذه الكفة السياسية أو تلك. والمشهد العام في المغرب، يتأرجح بين قوة الحزب وسلاح النقابة، ولعل المعركة الأخيرة المندلعة داخل نقابة الفيدرالية الديمقراطية للشغل، والتي لم تستطع أن تنتخب قيادتها النقابية منذ مؤتمرها الوطني المنعقد قبل شهرين، ليدل على أن الخيوط السياسية والنقابية في المغرب يجري تحريكها في مكان آخر. فقبل هذا التاريخ، جرى تأسيس الاتحاد العام للشغالين بالمغرب، بعد انشقاق الاتحاد الوطني للقوات الشعبية عن حزب الاستقلال، وسيطرة الأول على الاتحاد المغربي للشغل، أول مركزية نقابية مغربية، التي انشقت عنه أيضا، الكونفدرالية الديمقراطية للشغل، بعد تأسيس الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، وخروج الفيدرالية الديمقراطية من رحم الكونفدرالية الديمقراطية للشغل، بعد انشقاق حزب المؤتمر الوطني الاتحادي عن الاتحاد الاشتراكي، وتحكم نوبير الأموي والمنشقين في كدش، وأخيرا تصدع في المؤتمر الوطني الاتحادي وولادة الحزب الاشتراكي يؤديان إلى تصدع جديد بين رفاق الأمس وولادة المنظمة الديمقراطية للشغل. الانشقاق النقابي والحزبي جرت العادة أن يكون كل انشقاق حزبي إعلاناً عن ولادة مركزية نقابية، باستثناء حزب الطليعة الديمقراطي الاشتراكي، الذي ظل يشتغل بالمركزية النقابية الكونفدرالية، في حين تتوزع باقي أحزاب اليسار في العمل على المركزيات النقابية الثلاثة الكونفدرالية، والاتحاد المغربي للشغل، والفيدرالية، وأحيانا المنظمة، أما أحزاب اليمين فتشتغل في الاتحاد المغربي للشغل، أو تؤسس مركزية نقابية سرعان ما تندثر أو لا يتعدى صيتها جدران مقرات الحزب أو على أبعد تقدير صحافته، وتبقى المنظمات النقابية الأربع الأقوى في المغرب، الاتحاد المغربي للشغل، والكونفدرالية الديمقراطية للشغل، والاتحاد العام للشغالين بالمغرب، والفيدرالية الديمقراطية للشغل، لأنها المركزيات الأكثر تمثيلية، إضافة إلى الاتحاد الوطني للشغل بالمغرب، الذي يحضر جلسات الحوار الاجتماعي، والمنظمة الديمقراطية للشغل. لكن نقابة الاتحاد المغربي ظلت دائما تلح على استقلالية المركزية النقابية، وهو الأمر الذي أوضحه الأمين العام الميلودي مخاريق، في الجلسة الافتتاحية للمؤتمر الوطني العاشر، حين هاجم الأحزاب السياسية، رغم أن الاتحاد المغربي للشغل، يضم مكونات من مختلف الأحزاب السياسية، يسارية ويمينية، من أقصى اليسار النهج الديمقراطي، وباقي مكونات اليسار الاشتراكي الموحد، والتقدم والاشتراكية، وجبهة القوى الديمقراطية، وأقصى اليمين الاتحاد الدستوري، ناهيك عن الحزب الجديد الأصالة والمعاصرة، والعتيد الاتحاد الوطني للقوات الشعبية. مخاريق في استعراضه للتقرير العام طرح إشكالية تأثير الحزبي على النقابي في المغرب، وقال إن الاتحاد عاش مواجهة مع الأحزاب، متابعاً " ناضل الاتحاد المغربي للشغل من أجل ديمقراطية حقيقية، تضمن الكرامة الإنسانية، ولم تثنه عن تشبثه بالديمقراطية حملات القمع، والتآمر، والتقسيم، وضرب الوحدة النقابية، بتفريخ نقابات تابعة للحكومة وللأحزاب السياسية، وحملات البهتان والتضليل التي تقودها وسائل الإعلام الممولة من المال العمومي " . الاتحاد المغربي للشغل، الذي تأسس في 20 مارس 1955 بالدار البيضاء، يقول الأمين العام: كان " حدثاً تاريخياً رائعاً، وتحدياً للاستعمار الغاشم، ونصراً للجماهير العمالية، ولعموم الشعب المغربي التواق إلى الحرية والديمقراطية والكرامة والعدالة والمساواة، خلافاً للنقابات الحزبية، التي نشأت بقرارات حكومية أو حزبية، داخل صالونات الدردشة السياسية، وكواليس أجهزة الدولة، في إطار توزيع الأدوار والامتيازات " . الوحدة النقابية، هاجس الاتحاد المغربي للشغل، ما دفعه إلى الإقدام على عدم الاعتراف بباقي المركزيات النقابية، والابتعاد عن التنسيق معها، خاصة تلك التي خرجت من رحمه، الاتحاد العام للشغالين بالمغرب، بعد انشقاق الاتحاد الوطني للقوات الشعبية عن حزب الاستقلال، والكونفدرالية الديمقراطية للشغل، بعد انشقاق الاتحاد الاشتراكي عن الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، إذ يؤكد التقرير أنه " منذ البداية، اعتبر الاتحاد المغربي للشغل، أن العمال يشكلون قوة اجتماعية منظمة، وقابلة للتنظيم والنضال، بحكم وضعهم الاجتماعي المتردي، واحتكاكهم اليومي مع آليات الاستغلال الرأسمالي والقهر الطبقي، وأنهم ينتمون لطبقة واحدة موحدة، تجمعهم مصالح وأهداف ومصير مشترك، لا تخترقهم تناقضات، وأن تناقضهم الرئيسي مع مستغليهم لا مع بعضهم، وأن في وحدتهم سلاحهم الواقي، والقاطع وسر انتصاراتهم وتقدمهم " ، لا يهم الاختلاف داخل الإطار " لأن التنوع والاختلاف السياسي والإيديولوجي والثقافي إثراء للنقابة " ، وأن الاتحاد المغربي للشغل " آمن بالتعددية داخل الوحدة، وأن النضال من أجل الوحدة النقابية جزء لا يتجزأ من النضال النقابي الأصيل " . الاستقلالية النقابية، مبدأ لا مناص منه بالاتحاد المغربي للشغل، ف" المنظمة النقابية الأصيلة، كانت دائما تحمل قيم استقلالية العالم العمالي، من دون أن تتخلى عن وظيفتها الثقافية والسياسية " . و" الاتحاد المغربي للشغل، منظمة مستقلة عن الدولة، وعن أرباب العمل، وعن الأحزاب السياسية " . لتحقيق الهدفين السابقين، لا بد من الديمقراطية النقابية، لذلك اعتبر التقرير العام أن " الديمقراطية النقابية هي شرط أساسي لا بد من توفره لضمان وحدة واستقلالية النقابة، بل إنها أساس التنظيم النقابي المتين، المتماسك والراسخ " . علامة إيجابية منذ تأسيس الاتحاد العام للشغالين في المغرب، وهو مركزية نقابية تابعة لحزب الاستقلال، وهو يستمد أو ينهل من المذهبية الاستقلالية، التي ترتكز على أربعة أسس أو مذاهب أساسية، الإسلام الوسطي، والتعادلية الاجتماعية والاقتصادية، والشورى، بمعنى الديمقراطية، وأخيرا صيانة الاستقلال والوحدة الوطنية والترابية للملكة بقيادة الزعيم الراحل علال الفاسي. وجاء تأسيس الاتحاد العام للشغالين بالمغرب في إطار التعددية، التي اتبعها المغرب، عام ،1958 الذي أقر حرية التجمعات والاجتماعات، وحرية الصحافة وتأسيس الجمعيات والأحزاب والنقابات، ونهج التعددية السياسية من طرف الحكومة حينها، وناضل الاستقلاليون من أجل تأسيس نقابتهم، وبتضحيات المناضلين والشهداء، تأسس الاتحاد العام للشغالين بالمغرب في 30 مارس عام ،1960 وأسهم في تأسيسه رجال الحركة الوطنية، من بينهم محمد الدويري، وقيادات أخرى في حزب الاستقلال من أجل الدفاع عن الفلاحين، والصناع التقليديين، والتجار والحرفيين، والشغيلة. ورغم أن الاتحاد محسوب على حزب الاستقلال وهو من أسسه، فإنه يعلن في أكثر من محطة عبر قيادته النقابية أنه مستقل عن القرار الحزبي في " الاستقلال " ، لكن هذا الادعاء لا يقنع أحداً، ففي لحظات كثيرة يجري فيها تماه تام بين الحزبي والسياسي عند هذه النقابة، فمن أعضائها من يتحمل مسؤوليات قيادية حزبية ما جعل من القرار النقابي تصريف بشكل أو بآخر للقرار الحزبي. وفي إطار اتخاذ موقف ممايز عن الحزب، قررت النقابة خوض الإضراب الوطني الأخير في الوظيفة العمومية، برفقة الفيدرالية الديمقراطية للشغل والاتحاد النقابي للموظفين، والاتحاد الوطني للشغل بالمغرب، رغم أن الحكومة يترأسها الأمين العام للحزب، والقطاع يشرف عليه وزير استقلالي. ويؤكد قياديو النقابة على استقلالية قراراتها، بما في ذلك التجمعات الحزبية، وبحضور الأمين العام للحزب، الذي يتفهم الوضع، رغم أنه يتحمل مسؤولية الوزارة الأولى، وخوض النقابة لمعارك نضالية، سواء في القطاع العام أو الخاص، أو الشبه العمومي، في ظل حكومة يقودها حزب الاستقلال، تؤكد استقلالية الاتحاد العام للشغالين بالمغرب، رغم أن أغلب مكوناته استقلالية، وهذا ليس عيباً، لأن ظاهرة ارتباط النقابي بالحزبي ظاهرة عالمية، ولا ترتبط بالمغرب وحده، لكن نجاحها يتجلى في ضمان استقلالية القرارات، وانتخاب الهياكل النقابية بعيدا عن التأثيرات الحزبية، فيما يبقى التوجه العام هو المشترك بين الاثنين، بحيث لا يمكن على مستوى الواقع التفريق بين النقابي والسياسي لأنهما متكاملان. والدليل على استقلالية النقابة عن الحزب، كما يقولون، هو أن الحزب لا يفرض على أعضائه الانخراط والانتماء للاتحاد العام للشغالين بالمغرب، حيث هناك أطر حزبية منخرطة في مركزيات نقابية أخرى. جدال حول الارتباط من الأكيد أن الحركة النقابية بالمغرب هي نتاج سياقات عامة سياسية واقتصادية وثقافية عرفها المغرب قبل وبعد استقلاله السياسي. فالعمل النقابي أو المنظومة النقابية إن صح تسميتها بذلك، هي جزء لا يتجزأ من منظومة مجتمعية شاملة، تتفاعل معها وتخضع لتأثيراتها، وبالتالي، فأي تحليل للعمل النقابي أو للأزمة النقابية لا يقف عند هذه العوامل المؤطرة للحركة الاجتماعية النقابية وسياقاتها العامة، يظل تحليلاً تبسيطياً للمسألة من منظور استقلالية النقابي عن السياسي، وظل ويظل من قبيل المستحيلات، ويحاول منظرو العولمة الاقتصادية والنيوليبراليون فصل النقابي عن السياسي، نظرا لقوته في التغيير والعكس صحيح. وفي تاريخ المغرب النقابي نجد أن الكونفدرالية الديمقراطية للشغل بنضالاتها واضطراباتها الشهيرة مند تأسيسها سنة ،1978 إلى حدود سنة 1998 أي إبان التحولات، التي شهدها المغرب، وتحمل حكومة التناوب بقيادة عبد الرحمن اليوسفي مهمة تدبير الشأن العام، عملت على ترجمة الدور الحقيقي للعمل النقابي في تنمية الوعي بحقوق الطبقة العاملة، ما جعل شعاراتها تقترب أكثر من الشعارات التي ترفعها الأحزاب السياسية اليسارية في المغرب، بحكم الظروف الاقتصادية والاجتماعية التي كانت تمر بها البلاد، وأيضا بسبب المحاكمات التي تعرضت لها قيادات سياسية ذات حمولة رمزية تنشط على الواجهات السياسية والنقابية في الآن نفسه. كما أن أحد أقوى المركزيات النقابية بالمغرب (كدش) ظلت بشكل علني ترفع شعارات سياسية قوية مزلزلة، وبقرار مشترك، ومملى عليها من طرف القيادة الحزبية للاتحاد الاشتراكي، وأن زعيم النقابة نوبير الأموي، ونائبه عبد المجيد بوزوبع كانا عضوين بالمكتب السياسي للحزب. ويرى مهتمون بالشأن النقابي في المغرب أنه لا يمكن الحديث عن استقلالية النقابة، ولا عن استقلالية قرارها، فهي استقلالية مزعومة، ترفعها المركزيات النقابية كشعارات للاستهلاك الإعلامي فقط . * صحيفة " الخليج " الإماراتية