تمر الأحزاب السياسية بمحنة. حزب الاستقلال مهدد بالانقسام، والاتحاد الاشتراكي كذلك، فيما يتعرض حزب العدالة والتنمية لهزة سياسية غير مسبوقة. وفي المقابل، تعرف أحزاب سياسية بعينها انتعاشة بعد تهميش ونسيان، على رأسها حزب التجمع الوطني للأحرار والاتحاد الدستوري. في الظاهر، تبدو الأحزاب، التي تمر بوضعية صعبة، وكأنها تعاني خلافات تنظيمية وتصورية حول مؤتمراتها المرتقبة خلال الأشهر المقبلة، لكن وضع أزماتها في السياق السياسي والدستوري يكشف أن السبب أبعد من ذلك. عباس بوغالم، أستاذ العلوم السياسية بوجدة، يفسر أزمة الأحزاب السياسية انطلاقا من طبيعة النظام السياسي الذي توجد في «القلب منه مؤسسة ملكية مهيمنة على الحقل الحزبي، والتي لا تقبل بأحزاب سياسية قوية قد تنازعها السلطة». ويضع خالد يايموت، أستاذ العلوم السياسية، أزمة هذه الأحزاب في سياقها، فبالنسبة إليه، «بدأت الأزمة بعدما قررت السلطة استعادة سيطرتها على الوضع السياسي لاسترجاع ما تنازلت عنه سنة 2011 تحت ضغط الربيع العربي»، وحسب تصور يايموت، فقد حاولت السلطة «استعادة التحكم في الأحزاب السياسية أولا، تمهيدا للتحكم وضبط الحكومة نفسها كمؤسسة»، وهو ما حصل مع حكومة سعد الدين العثماني. لكن، لا يتعلق الأمر برغبة السلطة فقط في فرض هيمنتها على الأحزاب، هناك، من جانب آخر، قابلية النخب الحزبية للخضوع. تتمثل المؤشرات التي تدل على خضوع الأحزاب وقابليتها للضبط، حسب أحمد البوز، في «النزعة الأنانية» لقياداتها، وتتجلى هذه النزعة في «الشراهة في السعي نحو المناصب». وتستغل السلطة، من جهتها، هذه النزعات الأنانية أو أطماع النخبة، التي تجد فيها مدخلا ملائما للتحكم في القيادة الحزبية، عبر الإغراء بالمنصب والجاه، وكما قال المؤرخ عبد الله العروي، «لولا الطمع لما كان اضطهاد وانتقام، وسلب ورشوة» (من ديوان السياسة). ومن بين تجليات الأزمة داخل الأحزاب، ضعف الديمقراطية الداخلية، وضعف الثقافة الديمقراطية لدى قياداتها وقواعدها، ليس في تولي المسؤوليات داخل الحزب فقط والارتقاء التنظيمي، بل في كيفية توزيع المناصب والمنافع، التي تتحول إلى وسيلة للمكافأة أو العقاب، مكافأة المقربين والأتباع، ومعاقبة الأنداد وذوي الرأي المستقل أو المعارض. وحسب أحمد البوز، أستاذ العلوم السياسية، ف«قد تكون هناك مؤتمرات وانتخابات داخل هذا الحزب أو ذاك، لكن لم تتحول الديمقراطية بعد إلى ثقافة داخل المؤسسة الحزبية». موضوعيا، تكشف الوقائع أنه بقدر ما تسعى السلطة إلى التحكم في الأحزاب السياسية، فإن هنالك قابلية لدى النخب الحزبية للخضوع للضبط، أما كلفة كل ذلك طبعا فتدفعها الديمقراطية أساسا. أحمد البوز يرى أن «الدولة تعتبر أي عملية ديمقراطية مفتوحة خسارة لها، وأن أقرب الطرق إلى المحافظة على وضع غير ديمقراطي هو التحكم في الأحزاب، التي تقبل من جهتها بذلك». بيد أنه قد تتواطأ الأحزاب مع السلطة على وقف التطور الديمقراطي، لكنها لا يمكن أن «توقف الدينامية الاجتماعية والسياسية الصاعدة»، يقول خالد يايموت. وبمعنى آخر، إن «العودة إلى التحكم في الأحزاب السياسية إنما الغرض منها هو عزل تلك الأحزاب، وتحييدها عن الدينامية الاجتماعية والسياسية المتصاعدة من المجتمع». في استراتيجيتها تلك، تحاول السلطة تحييد الأحزاب وعزلها عن الاحتجاجات الاجتماعية. وخلال احتجاجات الريف، قدمت على لسان وزير الداخلية الجديد، عبد الوافي لفتيت، تفسيرا للوقائع يعتبر أن استمرار التظاهر والاحتجاج لحوالي ثلاثة أشهر يعبّر عن عمق الخصاص الاجتماعي، فالوالي لفتيت أكد أن «مطالب الساكنة ذات بعد اجتماعي محض»، وبناء على ذلك، فالجواب تنموي، أي في مشروع «الحسيمة منارة المتوسط»، لكنه لا يجيب عن كل الأسئلة، التي يتهرب منها باتهام «عناصر وجهات تستغل الاحتجاجات لأجل أهداف مشبوهة». أن يقف وزير الداخلية لفتيت، القادم من عالم التقنوقراط، أمام المحتجين بدل المنتخبين مؤشر كاف وقوي على تهميش الأحزاب. لكن «ما لا تنتبه إليه الدولة هو أن تهميش الأحزاب سيؤدي إلى تجاوز المجتمع لها، وبالتالي، اصطدامه بالمؤسسات مباشرة». وحسب يايموت، فإن جواب السلطة «قد يحلّ أزمة راهنة، لكنه يسهم، بكل تأكيد، في بناء أزمة مقبلة، لن تكون الأحزاب قادرة على الإسهام بأي شيء لحلّها».