حين انطلاق السباق نحو قصر الإليزيه، نشرت مجلة "لكسبريس" الفرنسية، غلافاً يلخص واقع اليسار، مفاده: "منصب شاغر.. مهنة زعيم لليسار متاحة.. للمهتمين بالعرض التوجه نحو عنوان المقر الرئيس للحزب الاشتراكي الفرنسي". رسالة المجلة، وإن كانت بقالب ساخر، وجرعة زائدة من الجدية في الآن ذاته، يمكن نسخها، ونقلها هنا في المغرب حرفياً، في سياق واقع حصرت فيه أحزاب اليسار و"اليسار" نفسها ضمن خانة التبعية لمن يتصدق عليها بحقيبة وزارية، وأخرى احترفت الانتظارية و"النضال" بالتمويل لأجل شعارات ليبرالية بأفق "اشتراكي" ! وأخرى أصبحت معامل لإنتاج البلاغات، حتى أصبحت محط سخرية لمن ينتمي إليها، قبل من يعارضها. "زعماء" اليسار المغاربة نتاج مسار تاريخي عنوانه الانشقاقات، وإن اختلف "الرفاق"، حول نقطة في جدول الأعمال، ومنهم من يختلف عن ما هو أتثمن، انشقوا شعباً وقبائل، ولنا في ما بعد عام 2002 خير مثال، حين اختار الزعماء الحقائب ومنافعها، عوض اختيار رص الصفوف، ورفض اغتيال المنهجية الديمقراطية. كما لنا في بداية الثمانينيات من القرن الماضي مثال آخر، حين كانت للمقاعد البرلمانية سحر فقدان الآلاف والزج بالعشرات في السجون لأحل عيون مقاعد القبة. كما لنا في أمثلة كثيرة أفرزت اليوم أكثر من تنظيم "يساري" حجة لمواجهة من قد تغضبه الكلمات الواردة هنا. هؤلاء "الزعماء"، الخالدون، المبجلون، المقدسون بورقة "الإرث النضالي التاريخي"، ومنهم من بحجة القرب من دوائر منح شروط الحياة لهم ولتنظيماتهم، اعتزلوا منذ مدة تحقيق شروط التطور. هؤلاء. اختاروا النضال ضد الانفراد بالقرار، وتخوين المستبدين، لكن مع تجريب حلاوة ما يرفضونه. اختاروا جعل التنظيمات اليسارية و"اليسارية" بالمغرب، ماركة مسجلة باسمهم، لهم وحدهم لا شريك لهم. ومن يعارضهم، "أرض الله واسعة". عبارة أطلقها أجداد اليسار وأبناؤهم وأحفادهم من بعدهم، في وجه كل صوت يخالف نهج الانتحار الجماعي للانتماء، دون أن يتخلصوا بالتجربة، وهم يؤسسون تنظيماً جديد لما عارضوه، من عقدة العبارة التي أطلقت في وجههم، ليعيدوا ترديدها مرة أخرى، في وجه الرافضين للانتحار الجماعي. نتفرج اليوم على مشهد تشكيل الحكومة المغربية. وفي كل فصولها، الكلمة لحزب العدالة والتنمية الفائز بالانتخابات، وبعده الأحزاب الإدارية كما يحلوا ل"الرفاق" تسميتها، ثم في الصف الأخير البعيد، هناك، ينتظر "زعماء اليسار" عطف أحد الفريقين، لعلهم لا يخرجون بخفي حنين، من مسار توزيع "الغنائم الوزارية". في سياق المشهد ذاته، فريق آخر، كان بالأمس القريب نقطة ضوء اختار لها "صناعها" لقب "الخط الثالث"، لا هم من هذا الفريق، ولا ضمن خطط الآخر، بشعار هدفه الأول جمع الشتات. لكن بعد محطة الصناديق، تبخر كل شيء، وعادت نزعة الزعامة لتكون هي سيدة الموقف. ورهن طرف منهم مواقفه بكل ما هو ممكن ضد حزب "العدالة والتنمية"، ضداً في سياق عام، يقوي هذا الأخير كلما اشتدت المواقف ضده، ويضعف في الوقت ذاته من يصدرها ضده. "الخط الثالث"، والمتمثل – كما سوقت هي له – في فيدرالية اليسار الديمقراطي، أخبر من وضعوا الثقة فيه، خلال الانتخابات التشريعية الأخيرة بنقطة الوصول، أشار لها، ووعد بها، دون أن يفي بالتزاماته الداخلية المتاحة، ما جعل عدداً من المقاطعين للانتخابات، من الذين تخلوا عن موقفهم لأجله، يعيدون التفكير في قرارهم، والتساؤل وإن سراً "كيف لهؤلاء الذين لم يستطيعوا أن يحققوا وعداً لهم فيه سلطة القرار أن يفرضوا أو يحققوا لنا ما لا سلطة مطلقة لهم عليه؟ !" العقدة مرة أخرى تختبئ خلف عقدة "الزعامة". وإن أراد هؤلاء فهم لعنتها، ما عليهم إلا النظر حولهم، وتعداد، إن استطاعوا، التنظيمات التي تعلن انتماءها لمشروع اليسار منذ نشأتها، مروراً بتطوراته، ووصلاً إلى تفرعاته الكبرى اليوم. في الساحة السياسية سيجدون أكثر من تنظيم يرى أنه هو "الياسر" وغيره وهم، داخل الجامعة الواقع أكثر بؤساً ودموية، ويمكن أن يجر الاختلاف حول أتفه الأسباب الشخصية، إلى معارك طاحنة، تسال فيها الدماء، يجرح ويقتل فيها الأفراد لأجل عيون "الزعامة". نحن اليوم ببساطة، أمام يسار جرب حلاوة الحكومة ومقاعد البرلمان باختيارات زعاماته، ولا بديل لهم للاستمرار في الاستفادة منها، غير الوقوف في آخر الصف، لانتظر عطف أحدهم، كي يجود بقليل من الفتات على حساب المشروع وشعاراته. نحن كذلك، أمام فئة أخرى، ألفت موقع أقصى المشروع، نظير استمرار تغذية إطارات موازية، في العمق وفي الظاهر ليبرالية رأس مالية المنشأ والأهداف، لكن حلاوة التمويلات عبرها، أهم من مراجعة الاختيارات لصالح الفكرة. وفئة أخرى، جربت الانتخابات برفع شعار الوحدة، وما إن تتجاوز المحطة بزخمها وشعاراته الرنانة، حتى تعود لطرح سؤال: "هل منكم من يستطيع تجاوز عقدة الزعامة؟ !" ليسمع الجميع: "نحن نريدها لنا دون غيرنا". بعد الجواب المنتظر دون صدمة، وبالعودة لغلاف المجلة الفرنسية، يبدو أن الحل ممكن، وهو متاح في اعلان شغور مقعد زعامة اليسار، ولما لا إعلانه وظيفة شاغرة، تطلب من يحتلها ويستحقها. على الأقل الوصول إلى الموقع بعيداً عن منطق "الكولسة" وحسابات من "معنا ومن ضدنا"، سيفرزه سباق الكفاءة لنيلها، مع تحرر "المقعد" من لعنة الباحثين عن ريع المناصب، والراغبين في تذوق حلاوة الرادكالية ممزوجة بكثير من نعم تمويلات الليبرالية، ومعهم المحترفين للبلاغات اليوم. "زعماء" اليسار متفرجون اليوم. ومنهم الحالمون. وآخرون وجدوا وظيفة مناسبة مع ضمان حمل اللقب. لكن "وظيفتهم" تنتظر في كل مناسبة المترشحين لنيلها.