أظهر مرشح اليمين الفرنسي، فرانسوا فيون، أنه سياسي عنيد، وأنه قادر على المغامرة والترشح للرئاسة رغم أن القضاء وجه إليه، رسميا، تهمة تبديد أموال عمومية، في حكاية توظيف زوجته وأولاده في مناصب وهمية كانوا يتقاضون عنها 2500 أورو كل شهر في المعدل… وهذه سابقة في كل تاريخ الرئاسيات الفرنسية. فيون تراجع، يوم أمس، عن وعده الفرنسيين بالانسحاب من سباق الرئاسة إذا ما وجهت إليه النيابة العامة الفرنسية رسميا تهمة الفساد، وقرر أن يستمر في الركض السياسي باتجاه قصر الإليزيه، معرضا معسكر اليمين ومشروعه لمخاطر جدية في معركة لن تكون سهلة أبدا. ولأول مرة في تاريخ فرنسا، يترشح سياسي متابع أمام القضاء بتهمة تبديد أموال عمومية. نعم، هو إلى الآن متهم، والمتهم بريء إلى أن تثبت إدانته، لكن الأمر حساس جدا سياسيا، في بلاد لها حساسية خاصة تجاه تبديد الأموال العمومية. بلا شك أن المغاربة، الذين يتابعون قصة فرانسوا فيون في فرنسا، وكيف امتلك قاض شجاعة توجيه تهمة إلى مشروع رئيس للجمهورية، يتحسرون على قضاء بلادهم الذي لا يحرك ساكنا حيال فساد السياسيين ومسؤولي الدولة، الذين يمتلكون حصانة مطلقة إزاء أي مساءلة، ففي البلاد قصص وملفات كثيرة عن البريمات غير المشروعة، وعن تضارب المصالح غير القانونية، وعن تبديد المليارات في مشروعات وهمية، وعن مال عام سائب يعلم السرقة للذي لا يعرفها. ومع ذلك، فإن النيابة العامة في هذه البلاد خارج الخدمة إزاء ما تنشره الصحافة من أخبار وتحقيقات، وما يصدر عن المجلس الأعلى للحسابات، وتقارير المفتشية العامة لوزارة المالية، حول اختلالات كثيرة تمس إدارة المال العام، وعن التوظيفات الوهمية، وعن تضارب المصالح، وعن قصص تحويل مسار الدعم العمومي عن أهدافه. كل هذا لا يصل إلى علم النيابة العامة، ولا إلى محاكم جرائم الأموال، لأن التكييف السياسي للملفات يغلب على التكييف القانوني، ولأن عمل النيابة العامة في بلادنا موسوم بعدم الاستقلالية، ومحكوم بتوازنات السلطة، وقوة تأثير اللوبيات، ونفوذ المال الذي يحصن قلاعه إزاء أي متابعة قضائية. النيابة العامة عندنا لا تتحرك في مواجهة السياسيين وكبار المسؤولين والوزراء و«علية القوم» إلا إذا أحست بأن الدولة تريد «الخدمة» في أحدهم، ولا تحشر أنفها في الملفات الحساسة ولا في دفاتر الكبار لأنها تعرف حدودها، وتعرف درجة استقلاليتها، وفي الأخير، تردد الحكمة الشائعة: «فوق طاقته المرء لا يلام». المغاربة، أغنياء وفقراء، أقوياء وضعفاء، يعرفون هذا الواقع، ولهذا، بمجرد أن يقعوا في مخالفة أو جنحة أو جريمة، يسارعون للبحث عن منفذ للخروج من الورطة، إن لم يكن لدى الشرطة، فلدى النيابة العامة، وإلا فإن بيت القاضي هو المقصد. وطبعا، قانون السوق هو الذي يشتغل في هذه الحالات، فمادام هناك طلب فهناك عرض، ومادام هناك زبائن فهناك وسطاء، وهناك ثمن، وهناك طرق التفافية على القانون وعلى المساطر وعلى الإجراءات وعلى الضمير وعلى شرف البذلة… طبعا هناك استثناءات، وهناك ضمائر مازالت الدماء تجري في عروقها وسط القضاة، جالسين وواقفين، لكن يجب ألا نخبئ الشمس بالغربال.. القضاء في بلادنا مريض، وليس على الطاولة من علاج، للأسف. لقد حاول السيد مصطفى الرميد، وزير العدل والحريات -وهو مناضل حقوقي وسياسي يشهد له خصومه قبل أصدقائه بنظافة اليد والبعد عن التدخل في القضاء- لكن يدا واحدة لا تصفق، ورقصة التانغو تحتاج إلى شريك، وهذا الشريك غير موجود إلى الآن. لقد جرب مصطفى الرميد أن يلبس بذلة الطبيب في عيادة القضاء، وأن ينادي بين الناس بالعلاج، وأن يبشر بعدالة جديدة ومحكمة جديدة وقاضٍ جديد، لكنه وجد نفسه يداوي السرطان بحبة أسبرين أو بالرقية الشرعية… ليست للوزير سلطة على قضاء يتدخل فيه الجميع إلا وزير العدل والحريات. ولكي تكتمل الطبخة، جرى تجريده، دون مقاومة منه! من صلاحية الإشراف على النيابة العامة، وعلى السياسة الجنائية، وعلى تفتيش القضاة. كما فقد وزير العدل مقعده في المجلس الأعلى للسلطة القضائية بمقتضى الدستور الجديد، وأصبحت الوزارة تشبه مديرية صغيرة من مديريات التجهيز والبناء، تشرف على تشييد المحاكم وطلائها، واقتناء لوازم المكتب لسكانها، وطبعا، تحمل أوزار القرارات والأحكام أمام الرأي العام. البناء الجديد لا يمكن أن يبنى على الأنقاض، ولا يمكن للأجزاء الميتة في الجسم أن ترجع إلى الحياة. مشروع إصلاح القضاء يبدأ، أولا، من التحقق من وجود إرادة سياسية للشروع فيه، وامتناع كل الأطرف في الدولة عن التدخل في شؤونه، أو اعتباره أداة من أدوات إدارة الصراع في البلاد، وإصلاح القضاء، ثانيا، يفرض حركة تجديد شاملة، وتغييرا واسعا للمسؤولين الذين يعرف الصغير قبل الكبير مسؤوليتهم عما آل إليه القضاء في بلادنا، فليس الجن من أفسد القضاء في هذه البلاد، بل بشر من لحم ودم ومصالح وامتيازات وأسماء وعناوين وأحكام. وثالثا، إصلاح القضاء يجب ألا يعلق على الضمائر وحدها، بل يجب إعمال قانون الحساب والعقاب والرقابة، وفتح الأعين على الكبير قبل الصغير، فالضمير وحده لا يعصم حقوق الناس وكرامتهم وحقوقهم من الضياع. فكما قال عثمان بن عفان رضي الله عنه: «إن الله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن». إن فشل مشروع إصلاح القضاء مسؤولية جماعية تتحملها الدولة والحكومة والوزارة والبرلمان، والنخب السياسية التي من مصلحتها بقاء دار حليمة في حالتها القديمة، ومن الشجاعة إعلان هذا الفشل اليوم وتجريب وصفة جديدة غدا. لقد خاضت وزارة العدل والحريات معارك «خاوية» مع الحلقات الضعيفة في جسم القضاء طيلة الخمس سنوات الماضية، ولم تقترب من الرؤوس الكبيرة والمحمية، التي انتقلت مع هذه الحكومة من الدفاع إلى الهجوم، ومن الصبر على انتقاد الصحافة والإعلام، إلى الانتقام من الأقلام التي تتجرأ على «أسيادها»، وهذا، لعمري، إنجاز كبير في هذه الوصفة الاستثنائية للإصلاح.