ادريس بنعلي المثقف الذي خبر دروب السياسة قبل أن يخبر دروب العطاء على جبهة المجتمع المدني ليجمع بين خصال المثقف الملتزم بقضايا المجتمع من جهة، والأكاديمي المنشغل بالكتابة والتكوين الجامعي من أجهة أخرى وفاء لعطاء إدريس بنعلي الذي رحل عن الساحة السياسية والثقافية المغربية قبل سنة، فقد نظمت المجلة المغربية للعلوم السياسية والاجتماعية لقاء فكريا تكريما لعالم الاقتصاد والكاتب ادريس بن علي.
فكر الأنوار اللقاء الذي خصص في جزء منه للحديث عن ادريس بن علي عرف عددا من الشهادات في حق الرجل، من بينها شهادة محمد الساسي الذي يشترك مع ادريس بنعلي في التوجه الاشتراكي، قدم ورقة عن فكر ادريس بنعلي ومساره السياسي والثقافي. الساسي قال إنه من الأمور التي كانت تقلق ادريس بن علي أنه كان مرتبطا بشكل عاطفي مع فكر الأنوار، في حين أن الاشتراكيين كانوا يرون في الفكرة الاشتراكية نقيضة لفكر الأنوار، ويتعاملون على هذا الأساس، لكن ادريس بنعلي كان يقول بأن الاشتراكية هي تراكم، وبأننا نحن الاشتراكيون في العالم الثالث لم نعطي لفكر الأنوار ما يستحق. وبعد عودته من فرنسا فإن ادريس بنعلي لم يتحمل مسؤولية منصب تنظيمي، وأبقى على نوع من المسافة التنظيمية مع حزب التقدم والاشتراكية، لأنه بالنسبة إليه أن المثقف في حاجة إلى قدر من الحرية والاستقلالية، ويعتبر بأن المثقف لا يجب أن يقدم التنازلات التي يقدمها رجل السياسة. كما أنه قدم قيمة مضافة على المستوى الأكاديمي، وساعد الكثير من الطلبة في تدقيق الكثير من المصطلحات والمفاهيم التي كانت تستعمل بطريقة ملتبسة، مثل: التنمية، والتخلف، والتربية، والعولمة، والمخزن، كما أنه ساهم في فهم تطورات المجتمع المغربي من خلال الكتابة الصحفية. وفي مرحلة التسعينات، ظهر الأستاذ بنعلي الذي كان يرفض تحمل أي مسؤولية تنظيمية بأنه يقبل تحمل مسؤولية جمعية جديدة اسمها بدائل. والأسباب التي دفعت بنعلي خوض هذه المغامرة هي أنه كان يعتقد أن البلد بحاجة إلى نقاش سياسي، وأن الأطر السياسية المتوفرة لا توفر الشروط الكافية لهذا النقاش. والاعتبار الثاني أنه كان يرى بأن هناك قضايا طابو لا يتم مناقشتها مثل قضية الريع، وعلاقة السلطة بالمال، وفصل السلطات. والسبب الثالث هي أن فكرة الإصلاح التي يجب مناقشتها هي فكرة مزدوجة؛ من خلال إصلاح عطب الدولة وإصلاح عطب الأحزاب. كما أن بنعلي كان يعتقد بأن اليسار عليه أن يقوم بدوره في تبليغ فكرة الانتقال الديمقراطي. وأخيرا فإن جمعية «بدائل» التي كان يترأسها ادريس بنعلي اقترحت تسوية تاريخية بين الملكية وبين اليسار؛ وهو ما عبر عنه آنذاك بجبهة حداثية خلف الملك، لكن مآل هذه التجربة هو أنها نجحت جزيئا، لكنها فشلت في تغيير المغرب جوهريا من الناحية السياسية، وهو ما سيجعل ادريس بنعلي ينتقل من الاعتدال إلى الراديكالية السياسية.
إحباط والسبب في ارتفاع حدة انتقاداته هو شعوره بالإحباط، وبأن النضال اليساري لم يسمح بتحقيق تطوير بنيوي في المجال السياسي والاقتصادي للبلاد، لذلك تعاطف بشكل كبير مع حركة 20 فبراير. وهنا، سيبدأ تجربة بكتابة مقالات الرأي في الصحف، وفي هذه المقالات سيعتبر ادريس بنعلي أن الربيع العربي في الدول العربية قد حقق إنجازات، لكن تهدده أخطار، في حين أن الربيع في المغرب لم ينجح إلا جزئيا، لأن النخبة في المغرب تخلق من المشاكل أكثر مما تخلق من الحلول. وهنا سيعيد التذكير بتعريفه للمخزن، وهي أن يخدم المحكومين الحاكم مقابل أن يسمح لهم الحاكم بخدمة أنفسهم. أما بالنسبة لدستور 2011 فهو بالنسبة لادريس بنعلي يغير الواجهة، لكن الحكومة مازالت بعيدة عن القرار، وبأن التقاطب السياسي اليوم هو بين حزب العدالة والتنمية، وبين حزب الأصالة والمعاصرة، في غياب اليسار، كما أن المعارضة ستعاني من عطب كبير، لأنها ستلاحق دائما بسؤال، وماذا فعلتم أنتم عندما كنتم في الحكومة؟ كما تحدث ادريس بنعلي عن أداء رئيس الحكومة عبد الإله بن كيران، واعتبر أن ما يقوم به هو الفرجة، ولا يتجاوزها إلى الأعمال الملموسة، وحكم على الحكومة واعتبر أنها لا يمكن أن تذهب بعيدا، لأنها تريد أن ترضي المخزن أكثر من أي شيء آخر، وقال بأن النخبة المغربية الحالية تتكون من الشعبويين.
النموذج التركي وأخيرا، بالنسبة لسؤال التغيير في المغرب فإن ادريس بنعلي يدافع عن النموذج التركي والماليزي، ويعتبر أنهما حققا تقدما بفضل التنمية الاقتصادية، والتربية والحريات، ثم التماسك الاجتماعي. وحتى يتحقق هذا النموذج في المغرب، فإنه يجب تحقيق معدل نمو أكثر من سبعة في المائة على المدى البعيد، وأن يطبق نظام حكامة فعال وجيد، وأن يكون هناك حد أدنى من التماسك الاجتماعي، ثم بداية ظهور معالم بناء طبقة متوسطة؛ أما حاليا فنحن في اقتصاد سوق ملغم، ولا تنمية مع الفساد بالريع، يقول ادريس بنعلي. وأخيرا فإن الراحل كان مقتنعا بفكرة أن الفساد في المغرب كان سياسيا وأصبح ثقافيا. الأستاذ عبد القادر برادة، أحد زملاء ورفاق الراحل، قال بأن الراحل ادريس بنعلي كان مسكونا بالرغبة الجامحة في المساهمة من موقع الأستاذ في تكوين طلبته، وتلقينهم ما كان يعتقد أنه صحيح، بالتمعن أمامهم ومعهم حول القضايا الحيوية التي تنتج حلولا، لقد كان يناضل من أجل تحويل الجامعة إلى فضاء لمحاربة التخلف، وكان حريصا كل الحرص على تقدم المعرفة من أجل الوعي بالمشاكل التي تواجه المغرب، وإيجاد الحلول الملائمة. من جهته، يقول الأستاذ بنمسعود طريدانو الذي تولى تنسيق الإعداد لهذا اللقاء التكريمي، أن الإلتزام السياسي لإدريس بنعلي كان يتميز بالانسجام والاستمرارية والجرأة التي قد تصل إلى حد الاستفزاز، وتلك صفات المثقف الملتزم، إنها قامة تنسجم تمام الانسجام من خط المثقفين والفلاسفة الذين من مهامهم تفكيك وخلخلة الأفكار.