تشغل حركة الإخوان المسلمين العالم اليوم . الجميع ينظر إلى هذه الحركة التي صامت عقدا عن الحكم، ثم جربته عاما واحدا، لتواجه حرب إبادة حقيقية. كاري روسفسكي ويكام تقول إن إخوان مصر فشلوا في حين نجح إسلاميو المغرب والأردن بسبب فصل نشاطهم الدعوي عن السياسي. عرض د. خليل العناني
على الرغم من أهميتها التاريخية وثقلها السياسي والمجتمعي، فإن جماعة «الإخوان المسلمين» لم تحظ بالقدر الكافي من الدراسة الجادة والرصينة أكاديميًا وبحثيًا. ولعله من الحظ العاثر لهذه الحركة أنه كلما حانت الفرصة للباحثين والمشتغلين في حقل الدراسات الإسلامية للاقتراب منها ودراستها بعيدًا عن التحيزات السياسية والتأثيرات الإيديولوجية، دخلت الجماعة في صراع سياسي شرس من أجل البقاء، ما يصعّب مهمة الباحثين والمراقبين منهجيًا وميدانيًا. وعلى مدار العقود الثلاثة الماضية خرجت دراسات عديدة عن حركة «الإخوان» قام بها باحثون أجانب وعرب ومصريون، ولكن القليل منها هو ما يمكن الاعتماد عليه من أجل بلورة فهم موضوعي لهذه الجماعة باعتبارها ظاهرة سوسيولوجية وحركة اجتماعية قبل أن تكون حزبًا سياسيًا أو حركة دينية. ونذكر في هذا الصدد دراسات لعدد من الباحثين الجادين مثل منى الغباشي وناثان براون وجيليان شويدلر والباحث المصري الراحل حسام تمام. من هنا تأتي أهمية هذا الكتاب «الإخوان المسلمون... تطور حركة إسلامية» للبروفيسورة كاري روسفسكي ويكام، الأستاذ المشارك في قسم العلوم السياسية بجامعة «إيموري» بولاية جورجياالأمريكية. وقبل الخوض في عرض الكتاب، تجدر الإشارة السريعة إلى مؤلفته ورصد اهتمامها بدراسة الحركات الإسلامية؛ حيث تعد «ويكام» من أكثر الباحثين الغربيين جدية ورصانة في تناول الظاهرة الإسلامية، وقد أمضت العقدين الأخيرين في دراسة جماعة الإخوان المسلمين في مصر، حيث أقامت «ويكام» بالقاهرة عدة أعوام أوائل التسعينيات أثناء إعداد أطروحتها للدكتوراه من جامعة «بريستون» المرموقة، والتي كان ثمرتها كتابها الأول المهم «الإسلام التعبوي... الدين والحركية والتغيير السياسي في مصر المنشور» عام 2002 والذي يعد من الدراسات المعتبرة في مجال الحركات الإسلامية. وقد كان صدور هذا الكتاب دافعًا لظهور جيل جديد من الباحثين الغربيين يهتمون بدراسة الأبعاد السوسيولوجية والأنثروبولوجية والإثنوجرافية للحركات الإسلامية، منطلقين في ذلك من نظرية «الحركات الاجتماعية»Social Movements Theory، وذلك بعد أن هيمن التيار الاستشراقي على هذا المجال لعقود طويلة. أما كتاب «ويكام» الجديد والذي بين أيدينا الآن، فقد أمضت السنوات التسع الماضية في التحضير والإعداد له، وقد التقى كاتب هذه السطور المؤلفة عدة مرات خلال تلك الفترة وتناقشا في بعض أفكار الكتاب، مثلما فعلت مع باحثين آخرين أمثال البروفيسورة إيفا بيلين من جامعة برانديز والبروفيسور جيسون براونلي من جامعة تكساس-أوستن، والبروفيسور دانيا بريمبرج من جامعة جورج تاون، والبروفيسور مارك لينش من جامعة جورج واشنطن، والبروفيسور فالي نصر من جامعة جونز هوبكنز، وغيرهم من المهتمين بحقل الحركات الإسلامية. يقع كتاب «ويكام» (الإخوان المسلمون... تطور حركة إسلامية) في تسعة فصول، تختص ثمانية منها بالنظر في تطور جماعة «الإخوان المسلمين» في مصر، وفصل يقارن بينها وبين نظيراتها في الأردن والكويت والمغرب. ولعل الإسهام الرئيس لكتاب «ويكام» أنه يقوم بتفكيك الكثير من المقولات الشائكة حول الحركات الإسلامية، والتي كان يتم اتخاذها في الماضي كمسلّمات وبديهيات، مثل جمود هذه الحركات، وعدم وجود تنوع داخلها سواء في الرؤى والأفكار أو بين الأجيال والتيارات السياسية.
إعادة النظر في أطروحة «الدمج والاعتدال» من أهم الأفكار التي تطرحها «ويكام» في كتابها الجديد هو اختبار مدى تأثير المشاركة السياسية على سلوك وتوجهات وإيديولوجيا الحركات الإسلامية؛ ففي الوقت الذي يجادل فيه بعض الباحثين بأن ثمة علاقة حتمية بين المشاركة واعتدال الحركات الإسلامية، فإن «ويكام» ترى أن هذه العلاقة ليست بالضرورة علاقة ميكانيكية أو خطية، وإنما تخضع لكثير من المتغيرات لعل أهمها طبيعة التوازنات الداخلية في التنظيمات الإسلامية، والعلاقة بين مراكز القوى والتراتبية التنظيمية (الهيراركية). الأكثر من ذلك أن «ويكام» تسائل مفهوم «الاعتدال» ذاته والذي يطرح إشكالات عديدة، وما إذا كان يعني أن يتبنى الإسلاميون الرؤى الليبرالية والديمقراطية التي يتبناها الغرب، أم يعني أن يتوقفوا عن استخدام العنف في العمل السياسي، أم يعني عدم الدعوة إلى تطبيق الشريعة الإسلامية. يمثل الخلاف حول طبيعة وكنه ومعنى الاعتدال إحدى الإشكاليات المهمة في دراسة تطور الحركات الإسلامية؛ لذا فإن «ويكام» ترفض استخدام معيار الاعتدال من أجل قياس التغيرات في سلوك وأفكار الحركات الإسلامية. وبدلاً من ذلك ترى أن المهم هو أن تتم مراقبة التغيرات في سياقها الأوسع، وعدم إعطاء حكم معياري عليها. لذا فبدلاً من أن يتم النظر إلى سلوك جماعة كالإخوان المسلمين في مصر ونظيراتها كمؤشر على الاعتدال من عدمه، فإن «ويكام» تتبنى اقترابًا مفتوح النهايات Open-ended approach من أجل دراسة التغير في سلوك الحركات الإسلامية. لذا فهي تهتم بقدرة هذه الحركات على التكيف مع السياق السياسي، ومدى استعدادها لتغيير رؤيتها الفكرية والإيديولوجية أثناء انخراطها في المجال السياسي. وهنا تطرح «ويكام» أربعة معايير لقياس هذا التغير، أولها: قدرة الحركات الإسلامية على تبني تفسيرات نسبية (أي غير مطلقة) للنصوص الدينية، وعدم ادعاء احتكار الحقيقة الدينية. ثانيًا: قدرة هذه الحركات على تقبل أفكار الآخرين، وعدم فرض نمط محدد على الأفراد خاصة في القضايا الثقافية والقيمية. ثالثًا: مدى قبول هذه الحركات بالتعددية السياسية واحترام الحريات الفردية وأسلوب الحياة. رابعًا: مدى تقبل الإسلاميين لمفهوم المواطنة والمساواة سواء بين المرأة والرجل أو بين المسلمين وغير المسلمين، خاصة في المسائل الشخصية كالزواج والطلاق والميراث أو ما يُطلق عليه «المجال الخاص للأفراد». بكلمات أخرى، فإن «ويكام» تراقب التحولات الفكرية للحركات الإسلامية من خلال اختبار سلوكها ومنهجها السياسي والإيديولوجي عبر مراحل زمنية مختلفة.
محافظون وإصلاحيون يمثل توازن القوى داخل الحركات الإسلامية إحدى نقاط الجدل والخلاف ليس فقط بين الباحثين المختصين، وإنما أيضًا داخل الحركة نفسها التي كثيرًا ما ينفي قادتها وجود تقسيمات مثل محافظين وإصلاحيين أو صقور وحمائم. وحقيقة الأمر فإنه إذا تعاطينا مع حركة جماهيرية كبيرة مثل جماعة «الإخوان المسلمين» باعتبارها تنظيمًا بيروقراطيًا، فمن المنطقي أن يكون لديها تنويعات فكرية وإيديولوجية وجيلية وهو أمر بدهي، ويعكس مدى خصوبة الحركة وحيويتها على عكس ما قد يعتقد البعض. وهنا يلقي كتاب «ويكام» الكثير من الضوء على توازنات القوى داخل جماعة «الإخوان المسلمين» في مصر طيلة العقدين الماضيين؛ حيث ترصد «ويكام» بكثير من التفاصيل الخلافات الداخلية في الجماعة، خاصة تلك التي وقعت إبان أزمة مكتب الإرشاد عام 2008، وأزمة اختيار المرشد العام الحالي للجماعة الدكتور محمد بديع. وقد أجرت «ويكام» العديد من المقابلات مع رموز وشخصيات من الإخوان، سواء من القيادات أو من جيل الشباب، كي تقف على حقيقة الاختلافات الفكرية والإيديولوجية والجيلية داخل الجماعة. تقسم «ويكام» الصف القيادي في جماعة الإخوان إلى ثلاثة تيارات، أولها: هو «تيار الدعوة» الذي يشير حسب ما تقول «ويكام» إلى جيل الشيوخ داخل الجماعة أو «الحرس القديم» الذين حافظوا على التنظيم منذ الحقبة الناصرية وحتى الآن. ويركز هذا التيار على الأنشطة الدعوية والدينية والاجتماعية للجماعة وليس فقط الجانب السياسي. أما التيار الثاني فهو «تيار الواقعيين المحافظين» The Pragmatic Conservatives وتقصد به مجموعة القيادات الأكثر تسييسًا سواء تلك التي كانت تمثل الجماعة في البرلمان طيلة العقد الماضي، أو تلك التي انخرطت في اللعبة السياسية مثل الدكتور محمد سعد الكتاتني والدكتور محمد مرسي والمهندس خيرت الشاطر والنائب البرلماني السابق علي لبن وغيرهم. ولعل الملاحظة المهمة هي ما تشير إليه «ويكام» حول التغيرات الإيديولوجية التي حدثت لهذه القيادات بسبب انخراطها في العمل العام، وإن كانت هذه التغيرات لم تجد طريقها إلى بقية الجسد الإخواني، حسب «ويكام». أما التيار الثالث فهو التيار الإصلاحي داخل جماعة الإخوان، وتقصد به «ويكام» الجيل الوسيط في الإخوان الذي نشط في الجامعات طيلة السبعينيات، ثم أصبح مؤثرًا في الثمانينيات والتسعينيات كالدكتور عبد المنعم أبوالفتوح وعصام العريان وحلمي الجزار وأبو العلا ماضي قبل ترك الجماعة منتصف التسعينيات. وتشير «ويكام» إلى أن حضور التيار الإصلاحي قد تضاءل وتراجع منذ نهاية التسعينيات وبداية الألفية الجديدة، وذلك لصالح التيار الأكثر محافظة. ولعل الملاحظة المهمة التي توردها «ويكام» هي أن التيار الإصلاحي كان يزداد حضورًا في فترات الانفتاح ويتراجع أوقات القمع والبطش بالجماعة، حيث يكون الهدف الأساس هو بقاء التنظيم. وبالرغم من وجاهة هذه التقسيمات فإنها أغفلت أمرين، أولهما: التقاطعات بين هذه التيارات وعدم وجود حدود فاصلة بينها؛ فبعض رموز التيار البراغماتي المحافظ لديها تقاطعات مع التيار الإصلاحي والعكس. ثانيهما: أن المؤلفة لم تعط مساحة كافية لمعرفة الظروف والمحددات التي قد تجعل من هذا الشخص أو ذاك إصلاحيًا أو محافظًا. بكلمات أخرى، فإن معايير التصنيف والتمييز تبدو غامضة إلى حد ما.
إخوان ما بعد الثورة... معضلة الصعود وكبح الذات طيلة عهد مبارك نجح الإخوان في رسم خط رفيع بين تعزيز مكانتهم السياسية من جهة والحرص على عدم تهديد نظام مبارك من جهة أخرى. وكانت استراتيجية الإخوان -حسب «ويكام»- تقوم على «تأكيد الذات» ولكن في الوقت نفسه «كبح جماحها»، بمعنى أن الجماعة كانت تأخذ خطوات تدريجية من أجل الاندماج في النظام السياسي القائم، ولكنها في الوقت نفسه كانت حريصة على ألا تغامر في حساباتها حتى لا تهدد بقاءها أو تشكّل تهديدًا جديًا لنظام مبارك. لذا عندما قامت الثورة، تقول «ويكام»، وقعت الجماعة في مأزق حقيقي وما إذا كان الوقت قد حان كي تتخلى عن استراتيجيتها الحذرة وتقوم بالمساهمة في إسقاط النظام. وكان المخرج من ذلك هو ما قامت به الجماعة حين دفعت بشبابها للمشاركة في فعاليات ثورة 25 يناير في البداية، وعندما بدا أن الثورة قادمة ألقت الجماعة بثقلها خلف الشباب حتى سقوط مبارك في 11 فبراير 2011. خرج الإخوان من الثورة كأقوى لاعب سياسي على الساحة المصرية. وقد بدأت الجماعة في إعادة حساباتها، وكان السؤال الذي واجه الجماعة هو: هل تتم المغامرة وحصد مزيد من المكاسب أم التهدئة واتباع استراتيجية حذرة؟ هنا ترصد «ويكام» تخلّي الجماعة عن حذرها التاريخي، وكيف أن اندفاعها السياسي قد أدى إلى قدر من التشرذم والانقسامات الداخلية؛ حيث بدأت مجموعات شبابية تنادي بالتغيير والإصلاح داخل الجماعة، ولما قوبلت مطالبها بالرفض انشقوا وخرجوا منها وأنشؤوا أحزابًا سياسية مثل شباب «التيار المصري»، أو انضموا إلى حركات سياسية أخرى، فضلاً عن خروج بعض القيادات مثل عبد المنعم أبوالفتوح ومحمد حبيب وحامد الدفراوي وغيرهم. أما على صعيد التحولات الفكرية والإيديولوجية، فترى «ويكام» أن الانفتاح السياسي بعد ثورة الخامس والعشرين من يناير قد أجبر جماعة الإخوان على ضرورة الإجابة عن الكثير من الأسئلة والإشكالات العالقة، مثل الموقف من تطبيق الشريعة والالتزام بالحريات والتعددية السياسية والمواطنة، كما دفعها إلى إيضاح أهدافها الرئيسية وما إذا كان بناء دولة إسلامية لايزال يمثل أحد أهداف الجماعة. ولم تغفل «ويكام» السياق السياسي الذي يتحرك فيه الإخوان، حيث أشارت إلى محاولات مراكز القوى القديمة إعاقة تقدم الإخوان المسلمين إلى السلطة، وهنا ترصد دور «المجلس الأعلى للقوات المسلحة» في عرقلة الإخوان. وتلقي «ويكام» الضوء على الدور الذي لعبته «المحكمة الدستورية العليا» أيضًا في مواجهة الإخوان، وذلك حين قامت بحل مجلس الشعب المنتخب من أجل حرمان الإخوان من إحدى الأدوات المهمة في مرحلة ما بعد الثورة.